تاریخ اسلامی: مقدمهای بسیار کوتاه
التاريخ الإسلامي: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
حتى عندما يصف كتاب العصر العباسي النصف الأول من القرن الثامن (الذي ربما قد عاصروه بصورة مباشرة)، لا بد من غربلة رواياتهم من الدعاية المناوئة للأمويين؛ فهذه المصادر ليست تؤيد العباسيين عن وعي فحسب، بل تؤيد الشرق (عن وعي أقل) أيضا، بمعنى أنها تركز على إيران والعراق أكثر من تركيزها على سوريا ومصر وشمال أفريقيا وشبه الجزيرة الأيبيرية (مع أن هذه المناطق الفردية قدمت أعمالا خاصة بها أقل بكثير كما وتأثيرا). ويمكن فهم هذه التحيزات إلى حد ما؛ فلماذا قد يفعل المؤرخون العباسيون المقيمون في العراق والمنحدرون من أصل فارسي (وهذا وصفهم إجمالا) خلاف ذلك؟ في النهاية كلنا نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وهؤلاء المنتصرون لم يحملوا عبء المفاهيم المرتبطة بالصواب السياسي. لكن المصادر العباسية المتاحة عن بداية الإسلام مشكوك فيها أيضا لأسباب أقل وضوحا.
تخيل أنك وجدت ضيفنا المريخي أمام بابك. العقبة الأولى المتمثلة في محاولة فهم من يكون هذا الكائن، ومن أين أتى، ولماذا أتى، هي عقبة لغوية. فما إن نعرف لغته، حتى يمكننا سؤاله أي شيء. لكن ما الذي سنفهمه من إجاباته؟ هل نفترض أن معايير الدقة التي نطبقها في الغرب المعاصر يطبقها أهل المريخ أيضا؟ حتى لو قررنا أنه ملم بمعاييرنا وصادق في محاولاته الوفاء بتلك المعايير، هل نتوقع منه أن يتذكر أي شيء عن مولده وطفولته، أو أن تكون آراؤه عن والديه وأسرته وأصدقائه منصفة (لا تشوبها شائبة)؟ وما الذي نفهمه من التناقضات العديدة التي قد نجدها في شهاداته؟
في بعض النواحي، يكون التعامل مع المصادر الأدبية لتاريخ الأديان العالمية المبكر أكثر صعوبة من التعامل مع الشهادات التي يدلي بها سكان المريخ. يسوء فهمنا لليهودية الأولى والمسيحية الأولى (إذا أخذنا مثالين) بسبب أوجه القصور التي تضفي غموضا إلى صورتنا عما حدث في الفترة التشكيلية لهاتين الديانتين؛ وأهمها حقيقة أنه لا توجد فعليا مصادر معاصرة يمكن التحقق منها، وأن هذه أحداث تاريخية مخاطرها اللاهوتية والروحانية والسياسية مرتفعة للغاية (مما يجعلنا نتشكك في الروايات التي قد تفيد سارديها).
ودراسة صدر الإسلام لا تختلف عن ذلك. حتى لو افترضنا أن مصادرنا اللاحقة قد راعت الدقة في نقل رواياتها (وهو افتراض سنعود إليه تفصيلا فيما يلي)، فلا تزال هذه المصادر تطرح مشكلتين مرتبطتين إحداهما بالأخرى. أولا، يمكن أن تكون المصادر متعارضة؛ فتمدنا في بعض الحالات بعشرة روايات متعارضة لحدث واحد. ثانيا، كثيرا ما ترتبط هذه المصادر بموضوعات مثقلة بالمعاني السياسية والدينية مثل حق مجموعة معينة في الحصول على الأموال التي تقدمها الدولة (إذ كانت لأسبقية الدخول في الإسلام، أو المشاركة في الفتوحات الأولى تبعات مالية مباشرة على كثير من المسلمين)، أو الممارسة الصحيحة للشعائر الإسلامية (فإذا أوضحت رواية تاريخية أن محمدا أو أصحابه فعلوا شيئا ما بطريقة معينة، يمكن لتلك الطريقة أن تكون سابقة ملزمة قانونا). لذا، فإن ما قد يبدو لنا تاريخ «دنيوي» تشكله في الواقع وإلى حد كبير قضايا دينية وقانونية. لهذا السبب فإن مؤرخا بارزا مثل الطبري (الذي سنلتقيه لاحقا) قد قدم «عدة» روايات للحدث نفسه، دون أن يعبر عن رأيه بشأنها؛ فلكي يكون مؤرخا نافعا وموضوعيا، كان عليه أن يقصر مهمته على تقديم الخيارات الموجودة لقرائه الذين قد يوظفون واحدة من الروايات دعما لوجهة نظرهم. وقد أوضح الباحثون المعاصرون أن العديد من الأحاديث النبوية أو الأخبار التاريخية المتضاربة تشكلت كجزء من مناظرة فقهية بين المذاهب المحلية وأتباعها؛ وهو ما قد يفسر سبب تعدد روايات الأحداث التي دونها الطبري في عمله الجليل.
علاوة على ذلك، لا ينبغي أن نسلم جدلا بأنه ما إن نتغلب على المعوقات اللغوية، سيصبح معنى النصوص واضحا لنا. قد يكون التشابه بين اللغة العربية في القرنين التاسع والتاسع عشر أكبر من التشابه بين اللغة الإنجليزية المعاصرة والإنجليزية القديمة، لكن الفهم الحرفي للغة رواية ما لا يضمن فهم الحقائق التاريخية. أوضح الباحثون أن الروايات العربية عن هذه الفترة (حياة محمد والفتوحات الأولى على وجه الخصوص) زاخرة بالمجاز. والمجاز صورة بلاغية أدبية غرضها نقل المعنى دون النظر إلى معناه الحرفي. على سبيل المثال عندما تتباهى طفلة بأن والدها «أقوى عشر مرات من والد بينلوب»، فنحن نعرف أنه في 99٪ من الحالات (وهذا مجاز في حد ذاته) لم تقس هذه الطفلة القوة النسبية لكل من والدها ووالد بينلوب، ولم تجد النسبة 10 : 1. «أقوى عشر مرات» هي وسيلة أخرى لقول «كثيرا». ومن الأمثلة على ذلك في المصادر الإسلامية الأولى التأكيد على أن محمدا قد جاءه الوحي في الأربعين من عمره. يتفق الجميع - باستثناء أكثر المنقحين ولعا بالافتراضات - على أن محمدا قد عاش بعد سن الأربعين، لذا لا بد وأنه قد فعل «بعض» الأشياء في ذلك العام. حتى هنا، لا مجال للشك في هذه المعلومة من السيرة. مع ذلك، يدرك الباحثون المطلعون على ثقافات الشرق الأدنى ولغاته من القرون السابقة والتالية لظهور الإسلام أن سن «الأربعين» مجاز عن «النضج الروحي». والقول إن محمدا قد جاءه الوحي في هذه السن تعني القول إنه كان ناضجا روحيا، لا إنه كان في الأربعين من عمره حرفيا. إذا وافقنا على أن «سن الأربعين» مجاز بلاغي، فلن يضيرنا ذلك شيئا لأنه لا علاقة له بالمعتقدات والشعائر الإسلامية. ذكر الباحثون المعاصرون عشرات الصور المجازية في الروايات المنقولة عن حياة محمد وخصوصا الفتوحات الأولى، وحتى لو لم تكن هذه الصور الأساسية هادمة تماما لفهمنا التاريخ الإسلامي نفسه، فإنها تزعزع ثقتنا في جدوى هذه المصادر. بعبارة أخرى، ما «تقوله» هذه المصادر وما «تخبرنا به» ليسا متطابقين دوما، ولكي نفهمها تماما، لا بد أن ندرس ما لدينا من مصادر ضمن سياق لغات الشرق الأدنى وأدبه الوارد من العصور القديمة، وتلك عملية لا تزال في مهدها.
ذكر أيضا أن المصادر العربية الأولى عن القرن الأول من التاريخ الإسلامي لا بد من فهمها ضمن السياق الأعم لهذا اللون الأدبي. فلكي نحدد قيمة رواية أو عمل معين، من المجدي أن نكون ملمين بالروايات السابقة واللاحقة لهذا الموضوع. أظهرت الدراسات في هذا الاتجاه أن المصادر العربية الأولى المعتمدة على روايات منقولة شفهيا متعلقة بظهور الإسلام تتزايد بمرور الوقت في الحجم والتفاصيل بدلا من أن تتضاءل. وهذا ينطبق على التفاصيل المتعلقة بحياة محمد في كل من السيرة والحديث. لذا قيل إن ابن عباس نقل في أحد أعماله في القرن الثامن ما لا يزيد عن عشرة أحاديث نبوية، وبحلول القرن التاسع قيل إنه نقل 1710 حديث. بعض هذه الأحاديث ربما يكون مجموعة الأحاديث القليلة التي يعتقد أنه نقلها، لكن أيها تحديدا؟
للإجابة عن هذا السؤال، ابتكر الباحثون وسائل لفصل ما اعتبروه أحاديث صحيحة وروايات تاريخية موثوق بها عن الأحاديث الموضوعة والروايات التاريخية المبتدعة. قبل التطرق إلى هذه الوسائل، يجدر بنا التأكيد على أن الجدال حول موثوقية مصادرنا عن التاريخ الإسلامي الأول كثيرا ما يساء فهمه على أنه جدال ما بين المؤمنين الذين يثقون في تلك المصادر وغير المؤمنين الذين لا يثقون فيها. وهذا خطأ لعدة أسباب. سنرى في هذا الفصل والفصل التالي أنه كان ولا يزال هناك غير مسلمين يقبلون المصادر الأولى كما هي، مثلما أن هناك مسلمين يطبقون أساليب الدراسة النقدية على هذه المصادر. الواقع أن المنهج النقدي في التعامل مع هذه المصادر ابتدأه المسلمون في القرن التاسع؛ فتعريف الكلمات الأجنبية في القرآن - وهو إجراء يرفضه المسلمون المعاصرون باعتباره عملا «استشراقيا» عدائيا - بدأ على يد مؤلفي المعاجم المسلمين في العصر العباسي. والأكثر أهمية أن عملية تمييز القليل من الأحاديث الصحيحة عن الكم الهائل من الأحاديث الموضوعة قد بدأت وتطورت على يد المسلمين. لذا قيل إن البخاري (توفي عام 870) - الذي جمع واحدا من أمهات كتب الحديث الستة (لدى أهل السنة) - اختار مجموعته من الأحاديث الصحيحة البالغة نحو 7400 حديث من بين نحو 600000 حديث. ونحو ثلثي هذه الأحاديث البالغ عددها 7400 حديث هي أحاديث مكررة؛ لذا فالعدد الفعلي للأفعال والأقوال المنسوبة إلى محمد أقل من 3000. وجدير بالذكر أن الباحثين المعاصرين النزاعين إلى الشك يحسبون حسابا أكثر مما ينبغي للإحصائيات الواردة هنا. ومع أن هؤلاء الباحثين يتجاهلون حقيقة أن العدد «600000» هو مجاز بلاغي استخدمه أهل الشرق الأدنى للتعبير عن «مجموعة هائلة» (راجع سفر الخروج، إصحاح 12: آية 37)، فإن 7400 حديث تظل مجرد كسر بسيط من المجموعة الأصلية. كيف فعل البخاري (ورفاقه) ذلك؟
الأسانيد: الحل التقليدي
للفصل بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وضع المسلمون واستخدموا علم الإسناد في القرنين الثامن والتاسع. يتكون أي حديث (وهذا ينطبق أيضا على المصادر التاريخية الأولى) من شقين: الأول المتن وهو تصريح عن شيء قاله أو فعله النبي أو أي مرجعية أخرى، والثاني «الإسناد» الذي يعد كحاشية من دول الشرق الأدنى تخبرنا بكيفية وصول كل رواية إلينا (على سبيل المثال: رواه الطبري عن (س) عن (ص) عن (ع) الذي كان شاهدا على الحدث). وقد أخذ تحليل الإسناد على محمل الجد إلى حد أن لونا إضافيا كاملا من أدب السير وجد من أجل تحديد ما إذا كانت الحلقات المختلفة في أحد الأسانيد موثوقا فيها ووارد أن تكون منقولة من وإلى حلقات أخرى في السلسلة أم لا. معاجم السير الذاتية هذه هائلة، واللون نفسه لا مثيل له فعليا في الموروثات التاريخية الأخرى. وهكذا، فإن المشكلات المتعلقة بالمصادر المتاحة عن صدر الإسلام لدى معظم المسلمين قد حلت على النحو التالي: ابتكر أسلوب (تحليل الإسناد)؛ ووضعت أدوات (معاجم السير) لتمكين الباحثين من تطبيق هذا الأسلوب؛ واضطلع باحثون ثقات (بقيادة البخاري وخمسة آخرين في حالة الأحاديث، والطبري وآخرين في حالة الروايات التاريخية) بغربلة جميع المصادر؛ والآن نعلم تحديدا ما فعله النبي محمد وما قاله، وكيف تكشفت بقية أحداث التاريخ الإسلامي.
جزء كبير من هذا العمل ينسب - على الأقل بصورة غير مباشرة - إلى باحث معروف باسم الشافعي (توفي عام 820). كان الفقه الإسلامي قبله متمركزا محليا؛ إذ كان لكل منطقة تراثها وفقهاؤها الموثوق بهم. لذا كان يقتفي أثر الأحاديث الأولى عودة إلى الفقهاء البارزين في كل تراث محلي. وأدرك الشافعي أن هذا التنوع خطر على ترابط الأمة، ووضع قاعدتين وافقت عليهما بوجه عام جميع المذاهب؛ أن الأحاديث المنسوبة إلى النبي محمد نفسه فحسب هي التي تتبع (ومن ثم إلغاء الأحكام المحلية الذاتية)؛ وأن مثل هذه الأحاديث «لا بد» وأن تتبع (حتى وإن تعارضت مع القرآن، لأن أقوال محمد تؤخذ على أنها «تفسير حي» سماوي للقرآن نفسه). بعد الشافعي، شرعت مذاهب محلية متنوعة في جمع الأحاديث ذات الأسانيد الصحيحة؛ مما أسفر في النهاية عن ست كتب يعتبرها أهل السنة جديرة بالثقة. (جدير بالذكر أن العلاقة بين أحاديث الشيعة والفقه الشيعي أبسط من ذلك بكثير؛ لأن الأحاديث المنسوبة للأئمة كانت تنقل منذ البداية مع وجود تنوع محلي ضئيل نسبيا.)
صفحه نامشخص