بسم الله الرحمن الرحيم
ولاية عقبة بن نافع (1)- (رحمه الله)
رحل عقبة من الشام، ولما مر على مسلمة (2) بمصر اعتذر إليه من فعل أبى المهاجر (3)، وأقسم بالله: لقد خالف رأيه فيما صنع، وأنه وصاه به، وأمره بتقوى الله وحسن السيرة، وأن يعزل عقبة أحسن عزل، فإن أهل بلده يحسنون القول فيه، فخالفنى وأساء عزلك، فقبل منه عقبة، ومضى سريعا لحنقه على أبى المهاجر، حتى قدم إفريقية، فأوثق أبا المهاجر فى الحديد، وأمر بخراب مدينته، ورد الناس إلى القيروان (4)، وركب فى وجوه العساكر من التابعين والعباد، فدار بهم حول مدينة القيروان وهو يدعو لها ويقول: «يا رب املأها فقها وعلما، واعمزها بالمطيعين والعابدين، واجعلها عزا لدينك، وذلا لمن كفر بك، وأعز بها الإسلام، وامنعها من جبابرة الأرض».
(ثم عزم) عقبة على الغزو فى سبيل الله، وترك بها جندا من المسلمين، واستخلف عليهم زهير بن قيس (5)، ودعا أولاده فقال لهم: «إنى بعت نفسى من الله عز وجل أن
صفحه ۴۱
أجاهد من كفره حتى ألحق بالله، ولست (ج) أدرى أتروننى بعد (يومى) هذا أو أراكم لأن أملى الموت فى سبيل الله أو ردى إليكم كما أحب»، ثم قال: «اللهم تقبل منى نفسى فى رضاك»، ومضى فى عسكر عظيم حتى أشرف على مدينة باغاية، فكانت النصارى تهرب من طريقه يمينا وشمالا واحتصر صاحب قلعة مجانة (1) فلجأ النصارى إلى مدينة باغاية، واجتمعوا بها، فنزل عليها وخرجوا إليه، فقاتلهم قتلا شديدا، فقتلهم قتلا ذريعا، وأخذ لهم خيلا كثيرة، ولم ير المسلمون فى مغازيهم أصلب منها، وكانت من نتاج خيل أوراس (2) المطل عليها، ودخل بقية الروم حصنهم، وكره عقبة أن يقيم عليها فمضى إلى المسن (3) وكانت [فى] ذلك الوقت من أعظم مدائن الروم، فلجأ إليها من كان حولها منهم وخرجوا إليهم فى عدة وقوة، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى ظن الناس أنه الفناء، فانهزموا فقاتلهم إلى باب حصنهم فأصاب غنائم كثيرة [وكره] المقام عليها، فرحل إلى بلاد الزاب (4)، فسأل عن أعظم مدينة لهم قدرا، فقالوا: مدينة يقال لها «أذنة (5)»، ومنها الملك وهى ... الزاب وكان حولها ثلاثمائة قرية وكلها عامرة فلما بلغهم أمره لجأوا إلى حصنهم، وهرب أغلبهم إلى الجبال والوعر، ونزل واديا بينه وبينها ثلاثة أميال، فلقوه عند الوادى وقت المساء، فكره قتالهم فى الليل، فوقف القوم ليلهم كله ساهرين، فسماه الناس إلى اليوم «وادى سهر» فلما أصبح وصلى، أمر بالقتال، وكانت بينهم حرب ما رأوا قط ممن حاربوه مثلها حتى يئس المسلمون من أنفسهم، فأعطاه الله عز وجل الظفر،
صفحه ۴۲
فانهزم القوم، وقتل فيها أكبر فرسان البربر، فذهب عزهم من الزاب، وذلوا آخر الدهر، فكره أن يقيم عليها، فرحل حتى نزل على المغرب بتيهرت، فلما بلغ الروم خبره، استعانوا بالبربر، فأعانوهم ونصروهم، فقام عقبة خطيبا على سيفه، فقال: «يا معشر المسلمين، إن خياركم وأشرافكم السابقون منكم [الذين] رضى الله عنهم، بايعهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيعة الرضوان على قتال من كفر بالله يوم القيامة فبيعوا أنفسكم من رب العالمين، فإنكم داخلون فى تلك البيعة لكم وعليكم ما عليهم، وأنتم ما وطئتم هذه البلاد إلا طلبا لرضاه وغضبا أن يعبد شىء سواه، فأبشروا فكلما كثر [بشركم] كان أخزى لهم وأعز لدينكم وربكم ليس يسلمكم، فألقوه بقلوب صادقة، جعلكم الله أولى بأسه الذى لا يرد عن القوم المجرمين.
فالتحم القتال، وصبر المسلمون، ولم يكن للروم والبربر بقتالهم من طاقة، فولوا هاربين، فقتلهم قتلا ذريعا، وفر جميع الروم عن المدينة، وقتلوا حيث أدركوا، وغنم المسلمون.
ثم رحل حتى دخل طنجة (1)، فلقيه رجل من الروم يقال له «البيان» وكان شريفا فى قومه، فأهدى إليه هدية حسنة، فلاطفه فنزل على حكمه، فسأله عن بحر الأندلس، فقال له: «إنه محفوظ لا يرام» «دلنى على حال البربر والروم» فقال له: «قد تركت الروم خلفك، وما قدامك إلا البربر وفرسانهم» قال له: «وأين موضعهم؟» قال: «فى السوس الأدنى، وهم قوم ليس لهم دين ولم يدخلوا النصرانية، يأكلون الميتة، ويشربون الدم من أنعامهم وهم أمثال البهائم، يكفرون بالله عز وجل ولا يعرفونه» (2) فقال عقبة ابن نافع لجنوده: «ارحلوا على بركة الله».
فرحل من طنجة إلى السوس الأدنى وهو فى مغرب مدينة طنجة التى تسمى
صفحه ۴۳
«تارودانت» فانتهى إلى أوائلهم، فتلقوه فى عدة عظيمة، وقتلهم قتلا ذريعا، وهرب بقيتهم، وافترقت خيله فى طلبهم إلى كل موضع هربوا إليه من الأرض لا يزمهم أحد ومضى كذلك حتى دخل السوس الأقصى، فاجتمع به البربر فى عدد لا يحصى فلقيهم، فقاتلهم قتالا شديدا ما سمع أهل المغرب بمثله، وقتل منهم خلقا عظيما، وأصاب منهم نساء لم ير الناس فى الدنيا مثلهن، فقيل: إن الجارية منهن كانت تبلغ بالمشرق ألف [دينار وهربوا بين يديه ..] فخرجت العرب منها، ولم يكن لهم بقتاله طاقة، لعظيم ما اجتمع معه من البربر والروم، وأسلموا القيروان وبقى بها أصحاب الذرارى والأثقال فأرسلوا إلى كسيلة: يسألونه الأمان وأجابهم، وأقام كسيلة حتى نزل القيروان وأقام أميرا على إفريقية، وقد بقى من بقى من المسلمين تحت يده، فما زال على ذلك إلى أن ولى عبد الملك بن مروان فاشتد سلطان بنى أمية وعظم أمرهم، واجتمع إليه أكابر المسلمين فسألوه فى قيروان إفريقية أن يخلصها ومن فيها من المسلمين من يد كسيلة بن ليوم، وأن يرد بها الإسلام عزيزا كما كان، فقال لهم: «لا يصلح للطلب بدم عقبة من المشركين وكفرة البربر إلا من هو مثله فى دين الله» فأتفق رأيه على زهير بن قيس البلوى، وقالوا: «هو صاحب عقبة واعرف الناس بسيرته وتدبيره، وأولاهم بطلب ثأره وكان زهير مقيما ببرقة مرابطا مع أهل من إفريقية، فوجه إليه عبد الملك يأمره بالخروج على أعنة الخيل إلى إفريقية ليستنقذ القيروان ومن فيها من المسلمين، وكتب له قيس بن زهير: يعرفه بكثرة من اجتمع إلى كسيلة من البربر والروم، ويستمده الرجال والأموال، فوجه إليه وجوه أصل الشام.
ولاية زهير بن قيس البلوى
فلما حشد له وجوه الرجال من العرب، وبعث إليه الأموال وتسرع الناس معه، ووفدت عليه الجنود، أقبل فى عسكر عظيم، يريد إفريقية، فلما دنا من مدينة القيروان، وذلك فى سنة سبع وستين وبلغ كسيلة بن ليوم الأوربى قدوم زهير عليه .. لا نهاية له، وكان كسيلة فى خلق عظيم من البربر والروم، دعا أشرافهم وأكابرهم فشاورهم
صفحه ۴۴
وقال لهم: «إنى أردت أن أرحل إلى ممس (1) فأنزلها، فإن هذه المدينة فيها خلق عظيم من المسلمين ولهم علينا عهد، فلا نغدر بهم ونحن نخاف إذا التحم القتال أن يثبوا علينا، ولكن ننزل ممس على ماء كثير يحمل عسكرنا، فإن معنا خلقا عظيما فإن هزمناهم دخلنا معهم إلى طرابلس وقطعنا دابرهم من الدنيا؛ تكون لنا إفريقية دارا إلى آخر الدهر، وإن هزمونا كان الجبل منا قريبا الشعراء [ه] فنرجو ألا نهلك ولا يفقد منا إلا قليل فوافقوه فرحل إلى ممس فنزلها.
وبلغ ذلك زهير فلم يدخل القيروان ونزل على باب سالم وأقام ثلاثة أيام حتى استراح وأراح من معه وزحف فى اليوم الرابع، ووقف على كسيلة وعسكره آخر النهار فأمر الناس بالنزول، فنزلوا وبات الناس على مصافهم، ووقفت خيول القوم بعضهم إلى بعض طول الليل فلما اصبح صلى مغلسا ثم زحف إليه. وأقبل كسيلة ومن معه والتحموا فى القتال ونزل الصبر وكثر القتل فى الفريقين، حتى يئس الناس من الحياة فلم يزالوا كذلك حتى انهزم كسيلة، وقتل بممس ولم يجاوزها.
ومضى الناس فى طلب الروم والبربر، فلحقوا كثيرا منهم بمزرعة «ملمجنة» وألحوا فيهم وجدوا فى طلبهم، حتى سقوا خيلهم من الوادى المعروف بملوية من المغرب، ففى تلك الواقعة هلك رجال الروم والمشركين من البربر وفرسانهم وأشرافهم، ففزع منه أهل إفريقية، واشتد خوفهم، فلجأوا إلى الحصون والقلاع، ثم إن زهيرا رأى بإفريقية ملكا عظيما فخاف أن يقيم، وقال: «إنى قدمت إلى الجهاد، وأخاف أن تميل بى الدنيا فأهلك، ولست أرضى بملكها ورغد عيشها». وكان من رؤساء العابدين وكبراء الزاهدين- رضى الله عنهم- فنزل القيروان وأقام بها كثير من اصحابه.
ورحل زهير قافلا إلى المشرق فى خلق عظيم، وقد كان بلغ الروم خروج زهير من برقة إلى إفريقية لقتال الروم، فأمكنهم ما يريدون فخرجوا إليها فى مراكب كثيرة ، فأغاروا على
صفحه ۴۵
برقة وأصابوا منها سبيا، ومن الأموال شيئا عظيما، وقتلوا وسبوا، ووافق ذلك قدوم زهير من إفريقية إلى برقة فأخبروه الخبر، فأمر العسكر أن يمضوا على الطريق، وأخذ على ساحل البحر فى عدة من أشراف الناس مجدين مبادرين، رجاء أن يدرك سبى المسلمين، فأشرف على الروم فرآهم فى خلق عظيم فلم يقدر على الرجوع، واستغاث به المسلمون وصاحوا، والروم يدخلونهم المراكب، فنادى بأصحابه: «النزول رحمكم الله!» فنزلوا، وكانوا رؤساء العابدين وأشراف العرب، فنزل إليهم الروم فتلقوهم بعدد عظيم، والتحم القتال وأعانوا بعضهم بعضا، وتكاثر عليهم الروم، فقتلوا زهيرا- (رحمه الله)- ومن معه من المسلمين جميعا، فما أفلت منهم رجل، وأدخلت الروم الخيل والسلاح والسبى وما أصابوه من برقة، وانقلبوا وافرين يريدون ملك القسطنطينية.
ومضى المسلمون إلى دمشق، فدخلوا على عبد الملك، فأخبروه أن أميرهم وأشراف رجالهم قد استشهدوا، فعظم ذلك عليه، وبلغ منه لفضله ودينه، وكانت مصيبته مثل مصيبة عقبة- رحمهم الله- على الناس، واجتمع أشراف المسلمين، وسألوا عبد الملك بن مروان أن ينظر إلى إفريقية من يسد ثغرها، ويصلح أمرها. فقال لهم عبد الملك: «ما اعرف أحد كفؤا لإفريقية كحسان بن النعمان الغسانى.
ولاية حسان بن النعمان الغسانى
[وجميع] من بإفريقية منها [- أى الكاهنة-] خائفون والبربر لها مطيعون، وإن قتلتها يئس البربر والروم بعدها أن يكون لهم ملجأ حتى يلقوا بأيديهم فى يدك، فيدين لك الغرب كله، فلما سمع ذلك من أهل إفريقية توجه إليها يريدها، فلما كان موضعا قريبا من مجانة، عرف أن الروم قد تحصنوا بقلعتها فمضى ولم يعرض لها، وبلغ الكاهنة أمره، فرحلت من جبل أوراس بعدد لا يحصى فسبقته إلى مدينة باغاية، وأخرجت منها الروم، وهدمت حصنها، وظنت أن حسان إنما يريد حصنها يتحصن فيه، وأقبل حسان حين بلغه الخبر فنزل بوادى مسكيانة، ورجعت الكاهنة إليه تريده وخرج حسان حتى خرج بين
صفحه ۴۶
الفج والشعراء ونزل على النهر الذى يسمى بلسان البربر «بلى» ورحلت الكاهنة حتى نزلت على هذا النهر، وكان هو يشرب من أعلي النهر وهى من أسفله، فلما دنا بعضهم من بعض وتوافت الخيل، وذلك آخر النهار، فأبى حسان أن يقاتلها إلا أول النهار، فباتوا ليلتهم وقوفا على سروجهم فلما أصبحوا زحف بعضهم إلى بعض فالتقوا، فتقاتلوا قتالا شديدا وما سمع قط، فعظم البلاء وظن الناس أنه الفناء، فانهزم حسان بن النعمان وقتلت العرب قتلا ذريعا وأسرت من أصحابه ثمانين رجلا منهم خالد بن يزيد القيسى وكان رجلا شريفا مذكورا. فسمى ذلك الوادى «وادى العذارى» وسمى أيضا «نهر البلاء»، وبينه وبين باغاية ثمانية عشر ميلا، وأتبعته الكاهنة ومن معها حتى خرج من عمل قابس، وأسلم إفريقية.
فكتب إلى عبد الملك: بما لقى المسلمون وحاوره، وأقام طمعا أن يلحق به من أفلت من أصحابه، فعاد إليه الجواب: أن يقيم حيث وصل إليه الجواب، ولا يبرح حتى يأتيه أمره، فلقيه الكتاب ... فبنى وأقام بالموضع الذى لقيه فيه الكتاب خمس سنين، فسمى ذلك المكان «قصور حسان» إلى اليوم، ثم أن عبد الملك أعمل رأيه واستشار فيمن يخرجه إلى إفريقية ... فوجه إليه عسكرا عظيما ومالا وسلاحا وقوة، وكانت الكاهنة حينئذ أاسرت ثمانين رجلا من أصحاب حسان، فأرسلتهم، وأحسنت إليهم وحبست عندها يزيد بن خالد القيسى.
فلما انتهى إلى حسان سألهم عن يزيد بن خالد، فأخبروه بسلامته، فسره ذلك، وأن الكاهنة قالت لخالد: «ما رأيت فى الرجال أجمل منك ولا أشجع! وأنا أريد أن أرضعك فتكون أخا لولدى، وكانت لها ولدان أحدهما «قويدر» والآخر «يامين» فقال لها: وكيف يكون ذلك وقد ذهب الرضاع منك، فقالت: إنا جماعة البربر لنا رضاع إذا فعلناه نتوارث به، فعمدت إلى دقيق الشعير، فلثته بزيت، وجعلته على ثدييها ودعت!!» ولديها وقالت لهما: «كولا معه على ثديى» وقالت لهم: إنكم قد صرتم أخوة ثم إن حسان توافت إليه فرسان العرب ورجالها، فدعا عند ذلك برجل يثق به ومناه وكتب معه إلى [ابن يزيد
صفحه ۴۷
وهو ... طوعا فى الإسلام، فلما أتى رسول حسان وقف بين يدى خالد فى زى سائل فلما رآه [ابن] يزيد علم أنه ... فكتب الله تعود إلى، فلما أن خلا أخذ منه الكتاب وقرأه وكتب فى ظهره: إن البربر متفرقون ولا يتحدون (1) وإنما ابتلينا بأمر أراده الله عسى أن يكرم به من مضى منا بدرجة الشهادة (2) ...
حتى خرجت الكاهنة ناشرة شعرها تضرب صدرها، وتقول: «ويلكم مضى ملككم فيما يأكله الناس!» فافترقوا يمينا وشمالا يطلبون الرجل، فستره الله تعالى حتى وصل إلى حسان فكسر الخبزة فأصاب الكتاب الذى كتبه [ابن] يزيد قد أفسدته النار ... فقال له حسان: «راجع إليه» قال: «إنى أخاف الموت فإن الكاهنة لا يخفى عليها شىء من هذا قال [حسان]: أنا اخفيه لك فى مكان لا يجده أحد ثم عمد إلى قربوس سرجه، فنقر فيه، وأدخل الكتاب وسد عليه بشمع، ومضى الرجل حتى أتى [ابن] يزيد، فدخل إليه وعرفه أن الأول أحرقته النار فرد جوابه ووضعه فى قربوس سرجه ومضى، فخرجت الكاهنة ناشرة شعرها وهى تنادى: «ذهب ملككم فى شىء من نبات الأرض وهو بين فرجين» وكانت الكاهنة قد ملكت إفريقية خمس سنين منذ هزمت حسان، فلما أبطأ العرب عنها قالت للبربر: «إن العرب إنما يطلبون من إفريقية المدائن والذهب والفضة، ونحن إنما نطلب منها المزارع والمراعى، فما نرى لكم إلا خراب إفريقية حتى ييأسوا منها، ويقل طمعهم فيها» فوجهت قوما إلى ناحية يقطعون الشجر، ويهدمون الحصون.
قال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم: (3) فكانت إفريقية من طرابلس إلى طنجة ظلا وقرى متصلة فأخربت جميع ذلك، ورحل حسان إليها فلقيه من النصارى فى طريقه
صفحه ۴۸
ثلاثمائة رجل يستغيثون إليه من الكاهنة فيما نزل بهم من خراب ومضى حتى وصل إلى قابس، فخرج إليه أهلها وكانوا قبل ذلك يتحصنون من كل أمير مر بهم، فاستأمنوا إليه وأدخلوا عامله فأمنهم على مال معلوم. فاستطال طريق القيروان فمال إلى طريق قفصة وقصطيلية ونفزاوة، وبعثوا إليه أيضا يستغيثون به من أمر الكاهنة فسره ذلك وبلغ الكاهنة قدومه فرحلت من جبل أوراس تريده فى خلق عظيم [فرحل إليها فلما كانت] بالليل قالت لابنيها: «إنى مقتولة، وأرى رأسى ... أذنابها إلى المشرق من حيث تأتينا الشمس [تركض به الدواب مقطوعا] بين يدى ملك العرب الأعظم الذى بعث هذا الرجل»، وقال لها [ابن] يزيد: «فإذا كان هذا فارحلى بنا وخلى عن البلاد» وقال لها أولادها مثل ذلك، قالت: «كيف أرحل وأفر، وأنا ملكة والملوك لا تفر من الموت، فأقلد قومى عارا آخر الدهر» فقالوا لها: «فما الذى تخافين على قومك؟» قالت: «إذا أنا مت فلا أبقى الله منهم أحدا على الدنيا» فقال لها [ابن] يزيد وأولادها: «ما نحن صانعون؟!» فقالت: «أما أنت يا ابن يزيد فسوف تدرك ملكا عظيما عند ملك العرب الأعظم، وأما أولادى فسوف يدركون سلطانا مع هذا الرجل الذى يقتلنى ويعقدون للبربر عزا»، ثم قالت: «اركبوا واستأمنوا إليه فركب خالد بن يزيد وأولادها فى الليل وتوجهوا إلى حسان، فأخبره [ابن] يزيد بقولها «أنا مقتولة» وقال له: قد وجهت إليك بابنيها، فأمر بهما فأدخلا العسكر، وأمر بحفظهما، وقدم [ابن] يزيد على أعنة الخيل، وخرجت الكاهنة ناشرة شعرها فقالت: «انظروا ماذا دهمكم واعملوا لأنفسكم، فإنى مقتولة!» والتحم القتال، واشتد الحرب، واستحر القتل فى الفريقين حتى ظن الناس أنه الفناء، فانهزمت الكاهنة واتبعها حسان حتى قتلها، ونزل فى الموضع [الذى قتلت فيه وهو] بئرها وعليه بقى رأسها، فسمى الناس هذا [البئر بئر الكاهنة] إلى اليوم.
وكانت مع حسان جماعة من البربر ... فى ولدى الكاهنة وقربه وأكرمه، ثم إن البربر استأمنوا إليه فلم يقبل أمانهم ألا أن يعطوه من جميع قبائلهم اثنى عشر ألفا، يكونون مع العرب مجاهدين فأجابوه وأسلموا على يديه، فعقد لوائين لولدى الكاهنة، لكل واحد
صفحه ۴۹
منهما على ستة آلاف فارس، وأخرجهم مع العرب يجولون فى إفريقية يقاتلون الروم ومن كفر من البربر، وحسن إسلام البربر وطاعتهم، وانصرف حسان إلى مدينة القيروان، وذلك فى رمضان سنة أربع وسبعين، ودانت له إفريقية، فدون الدواوين وصالح من ألقى بيده على الخراج، وكتب الخراج على عجم إفريقية، وعلى من أقام معهم على النصرانية من البربر والروم، وأقام حسان بعد قتل الكاهنة، وقد استقامت له إفريقية فلا يغزوا أحدا ولا ينازعه أحد.
موت عبد الملك بن مروان (1)
ومات عبد الملك بن مروان سنة ست وثمانين، وولى بعده ابنه الوليد بن عبد الملك، [وكان الروم] أغاروا على مرسى رادس، فقتلوا من بها وسبوا وغنيموا، ..
الوليد بن عبد الملك يعرفه بذلك، وبعث إليه منها أربعين رجلا من أشراف العرب، وأقام حسان بن نعمان فى رادس مرابطا حتى يأتيه أمر الوليد، وكتب علماء المشرق إلى أهل إفريقية: «من رابط عنا يوما برادس حججنا عنه حجة، وعظم قدر رادس عند العلماء وفضلها». فلما ورد الخبر إلى الوليد بن عبد الملك بعث إلى عمه عبد العزيز بن مروان وهو على مصر وإفريقية، وأمره أن يتوجه ألف قبطى، وألف قبطية، ويحملهم إلى إفريقية، وأمره أن يخرق البحر إلى تونس، وأن يجعل بها دار صناعة، وأن يعمل المركب ويستكثر منها، ويجاهد الروم فى البر والبحر، وأن يغير على سواحل الروم ويشغلهم عن بلاد الإسلام، ثم عزل عبد العزيز بن مروان حسان بن النعمان، وأمره بالقدوم عليه وبعث إليه أربعين رجلا من أشراف أصحابه، وأمرهم أن يحفظوا جميع ما معه. فعلم حسان ما يراد به فعمد إلى الجوهر والذهب والفضة فجعله فى قرب الماء، وطرحه فى العسكر وأظهر ما وراء ذلك، فلما قدم حسان بن النعمان على عبد العزيز بن مروان أهدى إليه مائتى جارية من
صفحه ۵۰
خيار ما معه، وكان معه من السبى خمسة وثلاثين ألف رأس مما لم يدخل فيهم وصفاء ووصائف ما رأى الراؤون مثلهم قط، فتخير ما أحب وأخذ منه خيلا كثيرة، ورحل حسان بمن معه من السبى والجمال والأنعام، حتى قدم على الوليد بن عبد الملك، فشكا إليه ما صنع به عبد العزيز، فغضب الوليد لذلك وأنكره فقال حسان لمن معه: «ائتونى بالقرب فأتى بها، ففرغت بين يدى الوليد مما فيها من الجواهر، والذهب والفضة» فاستعظمه وأبهته فقال له: «يا أمير المؤمنين، إنما خرجت مجاهدا فى سبيل الله، وليس مثلى خان الله ولا الخليفة» فقال له الوليد : «أردك إلى عملك وأحسن إليك» فحلف حسان: أنه لاولى لبنى أمية ولاية أبدا. فلما رأى ذلك الوليد غضب على عبد العزيز. وكان يسمى حسان الشيخ الأمين
ولاية موسى بن نصير (1)
وكتب الوليد بن عبد الملك- (رحمه الله)- إلى عبد العزيز بن مروان يأمره أن يوجه إلى إفريقية موسى بن نصير من قبل الوليد وقطع إفريقية عن عبد العزيز. فقدمها موسى فوجد أكثر مدنها خالية باختلاف أيدى البربر عليها، فكان ينقل العجم من الأقاصى إلى ... قال إن كنيسة كانت بشقبنارية كان فيها عجب ... منها مرآة فى سلطان الروم، فإذا اتهم الرجل امرأته ... المرأة فرأى المبتلى بالمرأة، وكانت البربر قد تنصرت، فكان رجل بربرى قد أظهر اجتهادا فى النصرانية حتى صار شماسا، واتهم رجل امرأته فنظر فى المرآة، فإذا هو بوجه البربرى الشماس، فدعا به الملك فقطع أنفه وطرده من الكنيسة، فلما رأى ذلك قومه طرقوا المرآة فكسروها، وأرسل الملك إلى حيهم فاستباحه وخرج موسى من
صفحه ۵۱
إفريقية غازيا إلى طنجة، فوجد البربر قد هربوا من المغرب خوفا من العرب، فتبعهم وقتلهم قتلا فاحشا، وسبى منهم سبيا كثيرا، حتى بلغ السوس الأدنى لا يدافعه أحد، فلما رأى البربر ما حل بهم استأمنوا وأدوا الطاعة، فقبل منهم وولى عليهم واليا، ثم استعمل موسى بن نصير على طنجة طارق بن زياد مولاه، وتركه بها فى سبعة وعشرين رجلا من العرب، واثنى عشر ألف فارس وهى العدة التى جعلها عليهم حسان بن النعمان وكانوا قد دخلوا الإسلام، وحسن إسلامهم، فتركهم موسى وانصرف بعسكره من العرب خاصة وكان فى خلق عظيم، وأمر العرب السبعة والعشرين الذين ترك عند طارق بن زياد أن يعلموا البربر القرآن وأن يفقهوهم فى الدين.
ثم مضى إلى إفريقية فمر بقلعة مجانة وانحصر صاحبها منه، فرأى موسى بن نصير فلم يعرض له، فلما نزل القيروان دعا بسر بن أرطاة (1) فعقد على أعنة الخيل، وأمره أن يمضى إلى صاحب قلعة مجانة. فلما أناخ عليهم عظم عليهم أمر القتال، ونظر الروم من العرب صبرا لم ير مثله قط، فملأهم ذلك رعبا، فألقوا بأيديهم فدخلها، فقتل المقاتلة وسبى الذرية وغنم منها أموالا كثيرة، فكانت تسمى باسمه «قلعة بشر» لا تعرف إلا به، لأنه هو الذى افتتحها، فأصاب عددا من ولائد ووصفاء وذهبا وفضة، فخمس ذلك وبعث بالخمس إلى موسى بن نصير، وبعث موسى الخمس إلى الوليد فكانت قيمة ذلك الخمس عشرين ألف دينار.
قال: وتحامل أصحاب طارق بن زياد، عامل موسى بن نصير بطنجة على أهل البلد، وأساءوا إليهم وجاروا عليهم فكتبوا إلى أهل الأندلس يعرفونهم بما يلقونه من جهة البربر وسوء سيرتهم، فكان طارق يوما بطنجة إذ طلعت مراكب، فأكمن لها المسلمون، فلما أرست خرجوا إليها، وأنزلوا أهلها، فقال أهلها: «إنا إليكم جئنا عامدين فإذا هم
صفحه ۵۲
يعظمون غلاما حدثا منهم، يقال له «أليان»، فقال له طارق: «ما جاء بك؟» فقال «أنا ابن ملك الأندلس وليس بينك وبينها إلا هذا ... إلى جبالها يريه إياها. قال له طارق: «ما جاء بك؟»، قال له: «إن أبى مات ووثب على مملكتنا بطريق يقال له «لذريق»، وبلغنى أمركم وجئت إليكم أدعوكم إليها، وأكون دليلكم عليها»
ومع طارق اثنى عشر ألفا من البربر، فعزم طارق على غزو الأندلس واستنفر البربر فجعل أليان يحمل البربر فى مراكب التجار التى تختلف إلى الأندلس، ولا يشعر بهم أهل الأندلس، ولا يظنون إلا أنها تختلف بمثل ما كانت تختلف به من منافعهم ومعايشهم ومتاجرهم، فجعل ينقلهم فوجا فوجا إلى ساحل الأندلس، وقد تقدم أليان إلى أصحاب المراكب أن لا يعلموا بهم، وقال لقومه: «إنى توثقت لكم، فاعلموا أنها دولة العرب، وهم يملكون الأندلس»، ودعاهم إلى أن يأخذوا نصيبهم منها، فأعجبهم ذلك ورغبوا فيه، وكتب لهم طارق بالأمان على أنفسهم، وذراريهم وأموالهم فلما لم يبق لهم إلا لوح واحد ركب طارق، ومن بقى معه، فجاز إلى أصحابه، فنزل بهم جبلا من جبال الأندلس حريزا منيعا، فسمى ذلك الجبل من يومئذ «جبل طارق» فلا يعلم إلا به.
وموسى بن نصير بإفريقية لا يعلم شيئا من هذا، فلما بلغ ملوك الأندلس خبره نفروا إلى الملك الأعظم، وهو لذريق وكان طاغيا فى جموع عظيمة على دين النصرانية، وزحف إلى طارق فى عدة عظيمة وعاد بسرير من ذهب مكلل بالدر والياقوت فشد السرير على ...، وحفت به الرجال، وقعد لذريق على سريره، وعلى رأسه تاج وعليه قفازان مكللان بالدر والياقوت وجميع الحلية التى يلبسها الملوك قبله، فلما انتهى إلى الجبل الذى فيه طارق، خرج إليه طارق وجميع أصحابه رجالة ليس فيهم راكب، فشمروا للموت فقال لرجاله: «ليس هم أحق بالموت منكم، قد دخلوا عليكم بلادكم!» ونادى بالنزول فنزل العسكر ... فمشى بعضهم إلى بعض بالسلاح، فاقتتلوا قتالا شديدا، فوقع الصبر حتى ظن الناس أنه الفناء، وتواخذوا بالأيدى وضرب الله عز وجل
صفحه ۵۳
وجوه أعدائه، فانهزموا وأدرك لذريق فقتل بوادى الطين، وركب آثارهم وكان الجبل وعرا فكان البربر أسرع منهم على أقدامهم، فسبقوهم إلى خيلهم فركبوا خيولهم البربر، ووضعوا فيهم السيف وأبادوهم ولم يرفعوا عنهم السيف ثلاثة أيام ولياليها، فمكث جيفهم دهرا وبقيت عظامهم إلى حديث من الزمان. وأمر طارق فرسان المسلمين أن يسبقوهم إلى قرطبة، فأتوها وقد وقف المسلمون حولها فقتلوهم، فكانت قرطبة مدينة لذريق ... ثغر الأندلس.
ودخل طارق قرطبة فأصاب فيها من الدر والياقوت والذهب والفضة ما لم يجتمع مثله قط وأصاب من الحرير ... والنساء والذرارى ما لا يحصى ولا يعد، فكانت جملة السبى عشرة آلاف رأس وذلك سنة اثنين وتسعين.
وبلغ موسى بن نصير أن طارق بن زياد فتح الأندلس ودخلها فخاف أن يحظى بذلك عند الخليفة، فغضب غضبا شديدا، وكتب إليه يعنفه: إذ دخلها بغير أمره، وأمره أن لا يجاوز قرطبة، وأمر موسى الناس بالرحيل ورحل معه وجوه العرب، وكان مخرجه فى رجب سنة ثلاث وتسعين، واستخلف على القيروان ابنه عبد الله بن موسى، وكان أسن ولده، وسار حتى إذا كان بطنجة عبر البحر منها إلى الخضراء، وهى على مجاز الأندلس، فكره طارق أن يخرج إليه من المدينة لكثرة العدو فوجه إليه بالخف، والحافر والهدايا والجوارى وغير ذلك.
ولما كان موسى بن نصير بطنجة قبل جوازه مال عياض بن عقبة إلى قلعة يقال لها «سقيوما» وكان فيها بقية قتلة عقبة، ومال معه سليمان بن أبى المهاجر، وسألا موسى أن يميل معهما فكره ذلك وقال: «هؤلاء قوم فى الطاعة» فأغلظا لهم الكلام حتى يرجع فقاتل أهل سقيوما قتالا شديدا حتى أخذوا لواء من ألوية العرب، فكانوا يقاتلونهم به حتى تسور عليهم عياض بن عقبة من خلفهم فى قلعتهم، فانهزم البربر واشتد القتل عليهم ... التى دخل عليهم منها عياض، فمات القوم وبادرهم ... إلى اليوم. وذكر
صفحه ۵۴
ابن أبى حسان أن موسى لما فتح [سقيوما] كتب إلى الوليد بن عبد الملك: إنه صار لك من سبى سقيوما مائة ألف رأس. فكتب إليه الوليد: «ويحك! إنى أظنها من بعض كذباتك، فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمة».
فلما وصل موسى إلى قرطبة، استجار طارق بابنه عبد العزيز فشفع له عند أبيه، ودخل موسى قرطبة فأتاه طارق بن زياد فترضاه، وقال: «إنما هذا الفتح لك، وإنما أنا مولاك» فقبل منه وعفى عنه، فتكاملت بقرطبة الجيوش من العرب والبربر فصاروا فى خلق عظيم، فلما رأى موسى بن نصير ذلك دعا بطارق بن زياد، فوجهه على أعنة الخيل إلى مدينة طليطلة.
فتح مدينة طليطلة
وهى مما يلى الأفرنج، فانتخب له الرجال، وسار طارق حتى وقف عليها وأناخ بها وبها اشراف أهل الأندلس وأموالهم وذخائرهم فقاتلهم قتالا شديدا حتى افتتحها، فأصاب فيها جميع كنوزهم وأموالهم، وغنم منها من الجوهر ما لا يجد له قيمة، وأصاب فيها مائدة سليمان بن داود- (عليهما السلام)- وكانت من ذهب مكللة بالدر والياقوت وضروب الجوهر، وكان سبب وصولها إلى طليطلة: أن الروم أخذوا ما كان فى بيت المقدس من مكارم الأنبياء- (عليهم السلام)- حملوها إلى مدينة رومية وحمل أسقافة النصارى مائدة سليمان إلى مدينة الأسكندرية، فلما غزا عمرو بن العاص مصر هربوا إلى مدينة طرابلس، فلما نزل عمرو بن العاص «لبدة» هرب بها الروم إلى قرطا جنة، فلما دخل المسلمون إفريقية هربوا بها إلى مدينة طليطلة، ولم يكن لهم أمنع منها، فلما ظفر بها طارق نظر إلى عجب لم ير مثله قط! فأمر بزبر جدها (أ) فقلع، وهى مكللة بالدر والياقوت، وعمل لها رجلا غيرها، ونهض بجميع ما معه من الجواهر والأموال إلى موسى، ونظر من المائدة إلى عجب لم ير مثله، وذلك سنة أربع وتسعين، فأتى موسى بن نصير شيخ كبير قد عصب على حاجبيه من الكبر، فقال له موسى: «من أنت؟!» فقال: «رجل من
صفحه ۵۵
أهل هذه البلاد» قال له: «ما لنا من العلم عندك؟» قال: «افتتحتم قمونية» قال:
«نعم!» قال: «فإنكم لابد أن تنتهوا من هذه البلاد إلى منتهاكم» فنهض موسى بفتح مدائن الأندلس مدينة بعد مدينة حتى انتهى إلى مدينة «أربونة» فأراد لقاء ملك أفرنجة، فأخذ حنش الصنعانى بلجامه وقال: «سمعتك أيها الأمير تقول حين فتحت طنجة لم يكن لعقبة ولا لأبى المهاجر من ينصحهما حتى أتيت أنصحك اليوم، فارجع، فقد توغلت بالمسلمين.
وعن يوسف بن هشام: قال: كان جدى من خاصة موسى، فأخبرنى، قال:
انتهينا إلى صنم، فوجدنا فى صدر ذلك الصنم: «ارجعوا يا بنى إسماعيل، فإلى هذا منتهاكم، وإن سألتم إلى ماذا ترجعون أخبرتكم أنكم ترجعون إلى الاختلاف فى ذات بينكم حتى يضرب بعضكم بعضا، وقد فعلتم».
وذكر عمر بن سهل، مولى موسى بن نصير، قال: لما أراد موسى الانصراف من ثغر الأندلس وضعت أكوام الذهب والجواهر والفضة بين يديه، فأمر بالنيران فأوقدت ورمى فيها الجواهر والزمرد والياقوت وغير ذلك، فما صلب على النار ولم ينفرق عزله، وما تفرق منه تركه، وأتى بالمائدة فوضعت، وذكر لموسى شيخ كبير فدعا به، فإذا شيخ قد وقعت حاجباه على عينيه قال له موسى: «اخبرنى كم أتى عليك من السنين؟» قال:
«خمسمائة سنة» قال له موسى: «ما هذه المائدة؟!» قال: «هذه مائدة سليمان بن داود- (عليهما السلام)-» قال: وكيف وقعت إلى ... النصرانية عن اليهود قتل عيسى- (عليه السلام)- ... بها إلى بيت المقدس وحلف بطروش الملك ليرد من البيت ... فحمل عدو الله الزبل من الأندلس فى مراكب حتى رماه فى بيت المقدس وغزت النصرانية من كل مكان واقتسموا ما فى بيت المقدس فصار لأهل الأندلس الذرارى والمائدة، وصار لأهل رومية تابوت داود وعصا موسى- (عليهما السلام)-، والتوراة وحلة آدم- (عليه السلام)- وصار لأهل قسطنطنية الياقوتية»، فقال موسى: «وما تلك الياقوتة؟» قال: «ياقوتة ذى القرنين التى كان يهتدى بها فى الظلمات، وهذه أول ما رجع إلى بيت المقدس، وسيرجع كله».
صفحه ۵۶
فاجتاز موسى بالأموال والذهب والفضة والجواهر والمراكب إلى طنجة ثم حملها على العجل، فكانت وسق مائة عجلة وأربع عشر عجلة، تبدل عليها الأزواج فى كل مرحلة، وقيل لرجل من أصحاب موسى يقال له أبو حميد: «كيف كانت المائدة؟» قال: «كانت من ذهب مشوب بشىء من فضة ملون بحمرة وصفرة، وكانت مطوقة بثلاث أطواق:
طوق من ياقوت، وطوق من زمرجد، وطوق من لؤلؤ» قلت: «فلما كان يحملها؟» قال:
لما كنا بباغاية أفلت بغل لرجل من أهل العسكر قطع ... الأخبية، وإذا من فى العسكر موسى بن نصير أحمل (كذا) عليه حمائلا، فما بلغ المرحلة حتى تفسخت قوائمه قال: «إن موسى دعا ذلك الشيخ فقال له: «أين بلدك؟» فقال: «قرطاجنة» قال:
موسى «كم أقمت بها؟ قال: «عمرت به ثلاثمائة سنة وبالأندلس مائتى سنة».
خبر قرطاجنة ومن بناها
فقال: «كيف كان خبر قرطاجنة، ومن بناها؟» قال: «قوم من بقية آل عاد الذين هلك قومهم بالريح، وبقيت بعدهم خرابا ألف عام، حتى أتى الزبير بن لاود بن ثمود الجبار، فبناها على البناء الأول ثم احتاج إلى الماء العذب، فبعث إلى أبيه، وكان أميرا على الشام، وعمه على السند والهند، وكان ملكه من قرطاجنة إلى الأندلس، فأرسل إليه أبوه المهندسين، فهندسوا له الماء حتى وصلوا إلى قرطاجنة» قال: «وكم كان عمره؟» قال: «سبعمائة سنة» فارتادوا له مجرى القناة أربعين سنة، وكان لما حفر أساسه، وجد حجرا مكتوبا فيه: «هذه المدينة علامة خرابها إذا ظهر فيها الملح». فبينما نحن ذات يوم فى غدير قرطاجنة إذ بان الملح على الحجر، فعندها رحلت إلى هاهنا ، ثم إن موسى بن نصير ولى على الأندلس ابنه عبد العزيز وخلف معه حبيب بن أبى عبدة بن عقبة بن نافع وشخص موسى قافلا إلى الشام فوصل إلى مدينة القيروان، فى آخر سنة خمس وتسعين فلم ينزلها ونزل منها على ميل من القيروان.
فحكى شيخ من أهل إفريقية .. الهمذانى: أن موسى بن نصير قعد فى مجلسه
صفحه ۵۷
وجاءه العرب ممن سافر معه وممن خلفه مع ابنه عبد الله بإفريقية، فلما احتفل المجلس، قال: «قد أصبحت اليوم فى ثلاث نعم، اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين»، فقرأ كتاب الوليد بشكره والثناء عليه، ووصف ما أجرى الله تبارك وتعالى من الفتوحات على يديه، فحمد الله فقاموا إليه فهنأوه بذلك. ثم قال: اقرأ كتاب ابنى عبد العزيز، يصف ما فتح الله بعده فى الأندلس، فقاموا إليه، فهنأوه. ثم قال: «وأما الثالثة، فأنا أريكموها» وأمر برفع ستر خلفه، فإذا ببهو فيه جوار مختلفات الألوان من ملساء إلى ناهد إلى منكسرة، عليهن الحلى والحلل، فهنىء بذلك، وعلى بن رباح اللخمى ساكت. فقال له موسى: «يا على ما لك لا تتكلم؟!» فقال: «أصلح الله الأمير، قد قال القوم» قال: «وقل أنت» قال: «أنا أقول، وأنا انصح الناس لك: إنه ما من دار ملئت حبرة إلا امتلأت عبرة، ولا انتهى شىء إلا رجع، فارجع قبل أن يرجع بك! قال: «فانكسر موسى. ثم التفت فقال: يا فلان جئنى بهؤلاء الجوارى، هذه قم يا فلان فخذ هذه حتى أزفهن كلهن، فأقام بعد عيد الأضحى بقصر الماء ثلاثة أيام بعسكره.
ثم رحل إلى المشرق، ومعه طارق، وقد قفل به وبكل ما أصاب من (أ) الأموال والجوهر والمائدة، وخلف على إفريقية عبد الله ابنه وكان أكبر بنيه، وعلى طنجة ابنه عبد الملك وسار فلما ... ومر بخربة عادية ومدينة من مدائن الأولين نزل، فركع ركعتين، ومشى فيها، وفكر فى معالمها وآثارها وبكى بكاء كثيرا. ثم إنه ركب يريد الشام، فلما كان بالعريش جاءه كتاب الوليد يستعجله، وجاءه كتاب سليمان يأمره بالتربص، وكان سليمان ولى عهده، وكان الوليد مريضا بدير من غوطة دمشق، فأسرع موسى ولم ينظر فى كتاب سليمان، ودفع الأموال إلى الوليد، وأهدى إليه المائدة والدر والياقوت، وذكر موسى للوليد أنه الذى أصاب المائدة وفتح طليطلة. فلما رأى ذلك طارق دخل على الوليد وهو مريض، أعلمه بالقصة وأخبره أن موسى تعدى فى أموال المسلمين وأنفقها فبعث إلى موسى، وجمع بينهما بين يديه، وكذبه موسى، فقال له طارق: «يا أمير المؤمنين، ادع بالمائدة، وانظر هل ذهب منها شىء» فدعا بها الوليد، ونظرها فإذا رجل من أرجلها لا يشبه بقية الأرجل، فقال له طارق: «سله عنها يا أمير المؤمنين، فإن أخبرك بأمر الرجل
صفحه ۵۸
وإلا استدللت صدقى على كذبه» فقال موسى: «هكذا وجدتها؟!» فقال طارق: «الرجل عندى» فلما دعا بها ونظرها وضعها فى المائدة، علم أنها منها فصدقه الوليد وقبل قوله واختاره، ونزل منه أقرب مما كان وكذب موسى وأمر بحبسه، وأحضر من يعرف قيمة الجوهر، فقومت تلك المائدة بمائتى ألف دينار، ولم يلبث الوليد إلا ثلاثة أيام حتى مات.
موت الوليد بن عبد الملك ولاية سليمان بن عبد الملك سنة ست وتسعين
توفى سلخ جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، وكانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر، وبويع لسليمان بن عبد الملك بالخلافة حين توفى الوليد، فسخط على موسى، وقال له: يا يهودى، كتبت إليك فلم تنظر فى كتابى، هلم مائة ألف! قال: «يا أمير المؤمنين، قد أخذتم جميع ما فى يدى، فمن أين لى بمائة ألف؟» فقال: «لابد من مائتى ألف دينار» فاعتذر إليه، فقال: «لا بد من ثلاثمائة ألف»، وأمر بتعذيبه وعزم على قتله. فلجأ موسى بن نصير إلى يزيد بن المهلب فاستجار به، وكانت ليزيد ناحية من سليمان فاستوهبه دمه، فقال: «يؤدى ما عنده».
ولاية محمد بن يزيد (1) مولى قريش
قال الواقدى: «ثم إن سليمان بن عبد الملك، قال لرجاء بن حيوة: يا رجاء ابغنى
صفحه ۵۹
رجلا له فضل فى نفسه ونهوض بما ولى أوليه إفريقية». قال رجاء: «سأنظر فى ذلك يا أمير المؤمنين » وسكت أياما، ثم جاءه، فقال: «قد وجدت رجلا له فضل فى نفسه ونهوض بما ولى» قال: «من هو؟» قال: «محمد بن يزيد مولى قريش» قال: «ما اعرفنى به، أدخله فأدخله رجاء» على سليمان، فقال له سليمان: «يا محمد بن يزيد، اتق الله وحده لا شريك له، وقم فيمن وليتك بالحق والعدل، اللهم اشهد عليه» فخرج وهو يقول «ما لى عذر إن لم أعدل».
فولى محمد إفريقية سنة تسع وتسعين، وكانت ولايته سنتين وأشهرا، فى أحسن سيرة وأعدلها ببركة سليمان، وكتب سليمان إلى محمد بن يزيد: أن يأخذ آل موسى بن نصير وكل من التبس بهم حتى يوفوا ثلاثمائة ألف دينار، ولا يرفع العذاب عنهم، فقبض على عبد الله بن موسى، فحبسه فى السجن، ثم جاء بريد آخر: بضرب عنقه، فولى ضرب عنقه خالد بن أبى حبيب، وأما عبد العزيز بن موسى، فإنه كان عاملا لأبيه على الأندلس، فتزوج بعد خروج أبيه إلى إفريقية امرأة لذريق ملك روم الأندلس، الذى قتله طارق بن زياد. فجاءته من الدنيا بشىء عظيم لا يوصف، فلما دخلت عليه، قالت:
«مالى أرى أهل مملكتك لا يعظمونك ولا يسجدون لك، كما كان أهل مملكة زوجى يعظمونه ويسجدون له؟» وقالت: «إن هم سجدوا لك وعظموك أخرجت لك كنز ملوك الأندلس». فلما سمع ذلك منها، أمر بباب فنقب فى ناحية من قصره قبالة الموضع الذى يجلس فيه، وكان يأذن للناس منه، فكان يدخل الرجل حين يدخل منكسا رأسه، مكبا على يديه، لقصر الباب، وهى على سريرها تنظر إلى الناس من حيث لا يرونها، فلما رأت ذلك ظنت أنه سجود، فقالت لعبد العزيز: «الآن أقررت عينى، وأخرجت له أموالا عظيمة. وبلغ الناس أنه إنما أمر بهذا الباب، ليخبرها أنه إنما أمر الناس يسجدون له، فثار عليه حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع الفهرى، وزياد بن عابدة البلوى، وزياد بن نابغة فيمن معهم من الناس فقتلوه، وذلك فى آخر سنة ثمان وتسعين، فى آخر
صفحه ۶۰