تاریخ جنگ بالکان اول: بین دولت عالیه و اتحاد بالکانی که شامل بلغارستان، صربستان، یونان و مونتهنگرو بود
تاريخ حرب البلقان الأولى: بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود
ژانرها
يخلق بنا أن نحسب رأس الأسباب ما انطوت عليه الضلوع وغلت به الصدور من الحقد القديم والضغينة الكامنة بين الأتراك والأمم الأربع المتحالفة، فإن كل أمة منها جعلت تربية الحقد في صدور أبنائها على دولة آل عثمان فرضا مقدسا وآية من آيات الوطنية، فإذا ورد ذكر التركي على أحد أساتذتها جعله عنوانا للظلم، ومثلا للقسوة، وعدوا أبديا يجب على كل فرد أن يرضع بغضه مع حليب أمه.
انظر إلى اليونانيين تجد الأساتذة والوالدين والوالدات وكل عجوز بالية يرددون ذكر مجدهم القديم، ويعدون التركي مغتصبا لأرضهم هداما لدولتهم، هضاما لحقوقهم، ويمزجون ما يحويه تاريخهم من الحقائق الجارحة بخرافات وحكايات نظمها لهم أساتذتهم وشعراؤهم؛ ليربوا فيهم كراهة التركي، ويحملوهم على التفكير المستمر في استرجاع ما وقع في قبضته من ملكهم القديم، ويجعلوا طلب الثأر نصب أعينهم إلى أن يأتي وقته. ثم تراهم يهتمون اهتماما خاصا بأخبار أبطالهم والمنظومات الحماسية لشعرائهم القدماء، وفي طليعتهم هوميروس صاحب الإليالذة الخالدة، ويرددون على الأخص من الحوادث الغابرة قصة يسمونها حكاية علي باشا في يانيا، فيعزون إليه من الفظائع والأهوال ما يشيب الطفل في مهده ويزعج الميت في لحده، وهم يجعلون فيها القطرة بحرا والصفر سفرا ويرتبونها كما يشاء الخيال؛ إذ لا يهمهم منها إلا أن تجئ في شكل يبكي النساء والأطفال ويثير قلوب الرجال، قال كاتب فرنساوي كبير: «يمكننا أن نقول ولا نخشى الخطأ إن حكاية يانيا حضت الأمة اليونانية على الجهد الذي بذلته في الحرب الأخيرة حضا كبيرا وأثرت فيها تأثيرا شديدا، فإنك تجد كل قرية وكل دسكرة في الجزر اليونانية تأخذها الرعدة من تذكار يانيا، وترى النساء ينقلن تلك الحكاية إلى أولادهن ويذكرن ما أتته بعض اليونانيات من الأعمال في مجال القتال. وما من أثر أبقى في النفوس وأقوى في القلوب من حكايات وطنية تعيدها الأم وهي جاثية أمام سرير ولدها.»
وأضف إلى حوادث التاريخ القديم والمتوسط حادث الفشل الكبير الذي حل بهم في حرب سنة 1897، فإنهم لبثوا بعدها يتطلعون إلى الثأر واستقدموا جماعة من الضباط الفرنسويين، فنظموا لهم جيشهم وجددوا مدافعهم، وكان يزيدهم حقدا على حقد أن الحكومة العثمانية ظلت واقفة لدى الحكومة اليونانية ويدها على مقبض السيف؛ لتوقع الرعب في قلبها وتمنعها من ضم جزيرة كريت إلى أملاكها، وكانت جرائد الأستانة تنذر اليونان في كل يوم بالزحف على أثينا إذا قبلوا المندوبين الكريتيين في البرلمان اليوناني كما طلب أهل تلك الجزيرة. وإنا لنرى رأي كبير من العثمانيين في هذا الشأن؛ وهو أن الحكومة العثمانية لم تتبع سياسة الحكمة بإذلالها اليونان تكرارا بعد أن قهرتهم في ساحة القتال، فإنها لو سارت معهم على منهج المجاملة منذ شعرت بالشر المضمر في قلوب الصرب والبلغار، لكان في وسعها أن تحول دون انضمامهم إلى التحالف البلقاني، ولكن شاء سوء الطالع أن تكون جميع الظروف مفضية إلى تفاقم ذاك الحقد القديم بدلا من تخفيفه وتلطيفه. •••
وإذا رجعنا إلى تاريخ البلغاريين وجدنا أن الحقد ينمو في قلوبهم منذ سنة 1393؛ أي السنة التي سقطت فيها الدولة البلغارية في قبضة تركيا، وإذا أراد القارئ أن يعرف مبلغ بغضهم للتركي - وكل موظف عثماني هو تركي عندهم - فحسبه أن يقرأ شيئا مما يلقونه على أولادهم أو يسمع ما يقوله الشيوخ والعجائز منهم. ذكر لي صديقي حقي بك العظم أنه زار صوفيا عاصمة البلغار منذ بضعة أعوام، وذهب يوما مع نسيب له (كان معتمدا عثمانيا ساميا) في مركبة الوكالة العثمانية إلى بعض أحياء المدينة، وبينما كانا مارين أمام بيت إحدى العجائز، خرجت وبيدها قدر من الأقذار المختلفة وقذفت به على طربوشيهما وملابسهما العثمانية.
وليس يدلنا على اعتنائهم الشديد بتربية الحقد على الأتراك وزيادة النفور منهم مثل أمر مأثور: وهو أنهم تركوا محلة صغيرة في عاصمتهم على أسوأ حال لتكون عبرة لكل بلغاري، فيتذكر على الدوام ما كانت عليه بلادهم في عهد الحكم التركي، والواقع أن تاريخ البلغار (منذ سقوط دولتهم سنة 1393 إلى سنة 1877) كان تاريخ ذل وهوان، فإنهم كانوا أرقاء تلعب الأكف التركية في رقابهم، وإذا شكوا حكمت السيوف في هاماتهم ولبثوا سنوات عديدة على أثر سقوط ملكهم يحسبون الأتراك من محتد أشرف من محتدهم حتى صحت فيهم حكمة القائل: «إن الاستعباد يفقد الشعوب نصف فضيلة الرجولية.»
على أنهم كانوا مثل كل شعب مغلوب على أمره وله تاريخ قديم، يذكرون استقلالهم الذي تغلغل في طيات الزمان ويحنون إليه وهم في زوايا بيوتهم، ويشكون بصوت خافت من حكامهم. ولبثوا على تلك الحال من الجبن والمسكنة حتى سنحت الفرصة لانفجار حقدهم الكامن قبيل معاهدة برلين، وكانت عوامل إيقاظهم ثلاثة؛ أولها: أن ولاة أمورهم غلوا أشد غلو في الضغط عليهم فكانت نتيجة هذا الضغط انفجار ذاك الحقد، والثاني: أن روسيا العدوة القديمة لتركيا كانت تحضهم وتعدهم بالعون والمدد، والثالث: أن تحريرهم من قيد الكنيسة اليونانية أنشأ فيهم روح الاستقلال.
بقيت تلك العوامل الثلاثة تعد نفوسهم للثورة وتزيد حقدهم المتأجج حتى هبوا ينفضون عنهم غبار الذل العتيق، ولما ثارت البوسنة والهرسك سنة 1875 رأى ذوو الإقدام منهم أن الفرصة كانت موافقة للثورة وشفاء النفوس من الضغينة.
على أنهم لم يكتفوا بالخروج على الحكومة بل ارتكبوا جناية ذبح المسلمين في بعض القرى، ولم تكن ثورتهم وقتئذ عامة؛ لأن قسما كبيرا منهم كان لا يزال خائفا من سادته الأتراك، وما ترامى خبر فتنتهم إلى الباب العالي حتى عقد العزيمة على تأديبهم وكان التأديب واجبا، إلا أنه أخطأ الطريقة المثلى فأطلق عليهم ألوفا من الجنود غير المنظمة، بدلا من أن يسير إليهم جنودا نظامية تحت إمرة قائد عاقل يضع اللين في محله والشدة في موضعها، وروى قنصلا فرنسا وإنكلترا في تقاريرهما الرسمية: «إن عدد الذين ذبحتهم تلك الجنود من رجال ونساء وأطفال يبلغ ما بين 15 و20 ألف نفس.»
فكان لذاك الحادث صدى عظيم في أوروبا، وهب غلادستون فألقى خطبه الشهيرة عن تركيا والأتراك، وأنسى الأوروبيين أن البلغاريين فتكوا هم أيضا بالمسلمين الآمنين، ولا غرو فإن الحادث الأكبر ينسي الحادث الأصغر، وهناك سبب آخر وهو أن شعور كل فئة بنكبات أهل دينها أشد من شعورها بإرزاء الآخرين، وهذا طبيعي تجده عند جميع الأمم والملل، ولا يتغير ما دام الإنسان إنسانا، وقليل هم لسوء طالع الإنسانية أولئك الذين يضعون الحق فوق كل شيء.
على أن هذا كله بعض ما جرى بين العدوين، وهو يكفي للدلالة على أن الجيش البلغاري لم يزحف وحده من صوفيا بل زحف هو وحقد خمسمائة سنة ...! •••
صفحه نامشخص