ومن المعلوم أن الصدمات التي تصيب السفن في البحار من الأمواج والتيارات تجعل أمر العناية في بنائها ضروريا لإبلاغها من القوة الدرجة القصوى، ومع أن سفن الأزمنة الماضية كانت صغيرة جدا، وليست على شيء من الإتقان بالمقابلة مع دوارع الوقت الحاضر، فمن المدهش أن ينجح الرومانيون فورا وبسرعة في محاولة ابتنائها على غير سابق استعداد أو عهد لذلك الفن.
وكل ما يقال في هذا الشأن أنهم نجحوا، وبينما كانت السفن تبنى كان الضباط الذين عهد إليهم في تمرين رجال للقيام عليها يدربونهم عند الشاطئ على كيفية تسيير تلك السفن بالتجذيف، فأقاموا مقاعد كالتي يجلس عليها المجذفون في المركب على الأرض، وعلى هذه أجلسوا الرجال المراد تمرينهم وجعلوا في أيديهم أخشابا كالمجاذيف؛ ليتقنوا تحريكها كما لو كانوا في السفن.
وكانت النتيجة الحاصلة مما بذله الرومانيون من الجهد في شهور قليلة: أنهم أكملوا بناء مائة سفينة، في كل واحدة منها خمسة صفوف لرجال التجذيف بمجاذيفها وسائر ما يتعلق بها، وأبقوا هذه السفن في الميناء زمانا معلوما؛ لكي يروا ما إذا كان المجذفون يحسنون القيام على التجذيف في البحر كما أجادوا فيه برا، ولما استيقنوا من ذلك ساروا بتلك السفن في البحر للقاء القرطجنيين.
وكان في جملة تدابير الرومانيين لإعداد أسطولهم قسم واحد دل على غريزتهم التي انفردوا بها عن سائر الناس، من حيث التصميم على الإجادة وبلوغ حد الكمال في سائر أعمالهم، ذلك أنهم ابتنوا آلات محتوية على كلاليب من الحديد نصبوها على مقدم السفينة، فكان من أمر هذه الكلاليب عند التقاء السفينة الرومانية بالسفينة القرطجنية أنها تترامى على ظهر سفينة العدو، فتمسكها بحيث لا تقوى على الإفلات، وتربط السفينتين معا كأنهما واحدة.
وبهذه الطريقة ينزعون كل فكر يخطر للعدو أنهم راغبون في الفرار من المعركة، على أن خوفهم الوطيد كان منحصرا في الاحتساب من أن بحارة القرطجنيين يستخدمون حذقهم ودربتهم البحرية للفرار من المعركة، ولقد عد الناس طرا عمل الرومانيين هذا من أدل البراهين على شجاعتهم البحرية، وتصميمهم النهائي على مجالدة أعدائهم بتلك الصورة التي لا مثيل لها في التاريخ، ذلك بأن يحتاطوا للعدو فلا يفر من بين أيديهم، وينجوا من القضاء المحتوم الذي قرروا في نفوسهم أنه سيكون من نصيبه، إذا هو بقي مقيدا في مكافحتهم، وعلى شجاعة يندر وجود ضريع لها في غير الرومانيين.
وفي الواقع أن إقدام الرومانيين هذا غريب في بابه؛ فليس بالسهل أن ينزل جيشهم البري إلى شاطئ البحر، ومن غير أن يكون قد رأى مركبا في زمانه يبتني أسطولا كبيرا من السفن الحربية، وينازل به دولة ملأت أساطيلها البحار، وتفرد رجالها في خوض غمراتها بحيث أصبحت سيدة البحر بلا منازع.
فهم قد توفقوا إلى إمساك سفينة محطمة من سفن أعدائهم، واتخذوها قالبا يبنون عليه فابتنوا مائة سفينة مثلها، وتمرنوا على حركات الأساطيل الحربية وقتا يسيرا في مينائهم، ثم ذهبوا للقاء أساطيل عدوهم البطاش، ومعهم تلك الكلاليب التي مر وصفها؛ ليقيدوهم بها غير خائفين من شيء سوى إفلات الأعداء من قبضتهم.
وكانت النتيجة حسب المنتظر، فإن الرومانيين أسروا وأغرقوا وحطموا أو مزقوا شمل الأسطول القرطجني الذي أقبل على مساجلتهم، فأخذوا مقدم كل سفينة أسروها وأرسلوها كلها إلى رومية، وهناك شيدوا بها عمودا «منقاريا» كتذكار لانتصارهم، وقد حطمت الصواعق ذلك العمود تقريبا بعد خمسين سنة من نصبه، ولكنهم أصلحوه وأعادوا بناء ما تهدم منه ، فظل قائما في مكانه أجيالا عديدة شاهدا عادلا على انتصارهم البحري الباهر.
وكان القائد البحري في تلك الموقعة القنصل دويليوس وقد شيد العمود المنقاري إكراما له، وعندما احتفروا خربات رومية من مضي ثلاثمائة وخمسين سنة عثروا فيما يقال على بقايا ذلك العمود، وعول الرومانيون بعد ذلك على التوسع في الحرب إلى قلب أفريقيا بالذات، وكان ذلك سهلا عليهم بعد أن حطموا الأسطول القرطجني؛ لأنهم استطاعوا نقل جنودهم إلى الشاطئ القرطجني بلا أقل خوف عليه من سفن الأعداء.
وكانت رومية مسودة بمجلس شيوخ «سناه» ليسن الشرائع، وفوق هذا المجلس مسيطران للتنفيذ باسم قناصل، فهم قد فكروا في أن وجود رئيسين للحكومة أسلم عاقبة من رئيس واحد؛ وذلك لأن كل واحد منهما يكون رقيبا على الآخر وكابحا لجماحه عند الاقتضاء، ولكن النتيجة جاءت على خلاف ما أملوا فتفاقم التحاسد بين الرئيسين، وكان كثيرا ما يؤدي إلى مجادلات عنيفة ونقار كثير، فآل ذلك في العصور الحديثة إلى الاقتصار على رئيس واحد للحكومة، وسن قوانين يتقيد بها وتكون بمثابة رادع له إذا هو أساء استعمال سلطته.
صفحه نامشخص