فضباط الجيش - كما هي عادة ضباط الجيوش أن يفعلوا دائما - وجدوا أنهم قد استقروا في مدينة ذات ثروة وجمال وما لا يحصى من أسباب اللهو، وبعد أن ذاقوا البلاء المر في حروبهم الماضية انصرفوا إلى الاحتفالات والولائم وتمادوا في كل نوع منها إلى حد التطرف، فكان هذا دأبهم كل يوم، والنفس إن تمادت لا ترعوي فضلا عن أن القعود والراحة يدعوان إلى الفرح والمرح والتمتع بسائر ضروب التسلية.
ومهما تكن البواعث؛ فإنه لم يبق في الأذهان أقل ريب بأنه من يوم استولى هنيبال وجيشه على كابوي، وحصلوا فيها على ما لم يكن تيسر لهم من زمان طويل من الراحة والرفاهية أخذت القوة القرطجنية في الانحطاط، وإذ كان هنيبال قد صمم النية على جعل تلك المدينة عاصمة لإيطاليا بدلا من رومية شعر عندما ألقى عصا الترحال هناك كأنه في وطنه، فقل اهتمامه بابتداع الخطط والتدابير الحربية لمهاجمة العاصمة القديمة والاستيلاء عليها.
ومع ذلك كانت الحرب لا تزال قائمة على ساق وقدم، فشبت نيران معارك عديدة وحوصرت مدن كثيرة، وكان الظفر على الدوام مرافقا للدولة الرومانية، ولكنه لم ينل أحد الفريقين في إحدى المعارك ظفرا نهائيا أو انتصارا فاصلا، وقد نبغ في هذه المعارك قائد روماني جديد اسمه مارسيلوس، وهو إما لأنه أوفر دربة من غيره أو أكثر إقداما وأصلب عودا ، أو لما طرأ من التغيير المهم على قوى العدوين المتحاربين، قد اتبع خطة الهجوم مخالفا بذلك خطة فابيوس المبنية على الإبطاء.
على أن مارسيليوس كان متأنيا كثير الحذر في تدابيره وحملاته، وقد رسم خططه بذكاء وفطنة كفلا له النجاح المستمر تقريبا، فأعجب به الرومانيون وهللوا لنشاطه وما كان يبديه من الحماسة، على أنهم لم ينسوا بذلك ما لفابيوس من الفضل في تأنيه وتحفظه للدفاع، وقالوا إن مارسيليوس سيف الحكومة القاطع، كما أن فابيوس درعها الواقية.
وثابر الرومانيون على هذا الشكل من الحروب، وكان التفوق على أعدائهم مصاحبا لهم كلما طال عهدها، إلى أن أدى بهم الأمر إلى الدنو من أسوار كابوي وهددوها بالحصار، على أن وسائل الدفاع والتحصينات التي أنشأها هنيبال كانت أقوى من هجماتهم ليأخذوا المدينة عنوة، ولم يكن لديهم رجال يتمكنون بكثرتهم من الإحاطة بالمدينة من سائر جهاتها؛ ليحصروا من فيها بالكلية فلا يكون لهم مخرج يستمدون منه حاجياتهم.
فاضطروا بعد ذلك إلى الكف عن الحصار، وعسكروا بجيشهم الجرار على مقربة منها، وتظاهروا باستعدادهم الدائم لمهاجمتها بحيث حملوا رجال هنيبال على السهر والتأهب الدائم ليلا ونهارا وأقلقوا راحتهم، وفضلا عن القلق الدائم الذي أوجدوه لهم؛ فإن القرطجنيين قد أزعجهم ما رأوه من إقدام أعدائهم على عاصمتهم بجرأة وقحة لم تعهدا من قبل في جيش إيطاليا الذي طالما قهروه وبطشوا به قبل ذلك بوقت قصير، فأثر ذلك فيهم وقمع من نخوتهم إلى حد الشعور بالذل.
ولم يكن هنيبال موجودا في كابوي عندما تألب الرومانيون لمهاجمتها، على أنه سار لإنجادها في الحال وهاجم الرومانيين بدوره محاولا بذلك إرغامهم على رفع الحصار عنها والابتعاد عن أرباضها، ولكنهم إذ كانوا قد خندقوا على أنفسهم وتحصنوا لم تؤثر هجماته فيهم ولا أنالته منهم مأربا كالعادة، فكانت حملاته عليهم تذهب ضياعا، فلم يتمكن من زحزحتهم عن مواقفهم، فلما بدا له أنهم ممتنعون غادرهم، وزحف بجيشه متجها نحو رومية.
وقد عسكر في أرباض المدينة مهددا إياها بالهجوم، ولكن أسوارها وقلاعها ووسائل الدفاع فيها كانت منيعة كحصون كابوي فلم يقو على مهاجمتها، أو أنه تظاهر بالهجوم عليها؛ لكي يحمل الرومانيين الملتفين حول كابوي على الإقلاع عما صمموا عليه والمسارعة للدفاع عن عاصمتهم، وفي الواقع أنه بعمله هذا قد أحدث بعض القلق في رومية، فبحث رجال حكومتها طويلا في الأمر وقر رأيهم أخيرا على استدعاء جيشهم من أمام كابوي، على أن هذا القرار لم ينفذ لما لقيه من المقاومة؛ حتى إن فابيوس نفسه كان من أشد معارضيه.
ذلك لأن هنيبال لم يعد في نظرهم هائلا مرهوب الجانب؛ ولهذا استدعوا قسما صغيرا من الجيش الروماني المعسكر عند كابوي، فلما وصل أضافوا إليه قوات أخرى جندوها ممن في داخل المدينة وخرجوا منها بذلك الجيش لمنازلة هنيبال، وكان الاستعداد للمعركة تاما من كل وجه، إلا أن عاصفة شديدة هبت فدحرتهما عن مواقفهما، وأرغمتهما على الرجوع إلى المعسكرات.
ويقول المؤرخ الروماني الكبير: إن ذلك حدث مرات متوالية، وفي كل مرة كانت العاصفة تهدأ والجو يعود إلى إشراقه بعد أن يكون القواد قد أمروا جيوشهم بالكف عن القتال، وقد يكون شيء من مثل هذا قد حدث صدفة إلا أن الحقيقة الأكيدة هي أن كل جيش كان يرتعد خوفا من الآخر، ويتمنى طروء أقل عائق ليتذرع به لتأجيل القتال، فقد حدث أن هنيبال لم يكن ليرتد عن منازلة أعدائه في وجه أشد العواصف هبوبا.
صفحه نامشخص