ولكن هذه العقلية قد أورثها جمال الدين لتلميذه الأستاذ الإمام المرحوم، الذي كتب منذ حوالي ربع قرن عن حديث السنن الكونية ما كتب، حين تفضل بمناقشة صاحب كتاب فلسفة ابن رشد في دعوى كهذه، زعم فيها أن العرب لا يقولون بالأسباب والمسببات تدينا، ولا يزال ما كتبه في حكمته ومتانته خير صورة لأسلوب الفكر العلمي، ومثالا لتلك العقلية التي نعتها الكاتب بما شاء، وهو في مناله يحسن صنعا أن راجعه أو نظر فيه، هذه العقلية التي هذبها جمال الدين يعرف لها التاريخ مكانها بحق وستدين لها الأمة يوم تعترف نفسها جيدا بسابغ الفضل على مختلف فروع نهضتها التي ينكرها الكاتب أيضا.
وهلا تعطف فوضعهم في أول مرقاة الدرجة الثالثة وقدر شيئا مما يشهد به المؤرخون المنصفون من الأجانب، أو ما يقرره أساتذة الجامعات الحديثة من أن العرب هم واضعو قاعدة «جرب واحكم»، وأنه يرى هذه الشهادات فيما ترجم من كتب أمثال «سيديو» و«جوستاف لوبون»، وما نشر في الصحف والمجلات من هذا، وهلا يشفع للقوم عنده طب تجريبي، وفلك تحقيقي، وهندسة تطبيقية، وكيمياء عملية كانت الأساس لهذا العلم الحديث، ومشاهدات صحيحة وملاحظات عميقة في العلوم الطبيعية، وتصحيح لأخطاء يونانية، وغير هذا مما يسجله التاريخ ويعترف به أهل هذه العلوم؟
وهلا يقدر الكاتب أن دارسي آثار هذا العقل العربي يشكون مر الشكوى من إمعان القوم في الأفكار وتقليب الفروض والمطالبة بالبرهان حتى ينتهي الأمر إلى بديهيته، ويرتكز على المشاهدة أو المسلمات العقلية، وأن للقوم نظما للبحث أخرجتها عقلية ناضجة لم تكن تقول هكذا خلق الله، وهكذا جرى العمل، بل كانت تدفع بقوة وشدة إلى النظر والفكر والتدبر والبحث، ولا تزال قواعدهم فيه أسلم منطقية وأمتن مما نرى الآن ونسمع، ولا أزال أنصح للكاتب أن يقيس بها أحكامه لئلا يقدم على مثل هذا الاتهام المجرد والتهكم الشنيع والحكم القاسي دون برهان ولا شبهة، ولا يعتدل حتى يعرف للقوم شيئا، ولا ينزل على رأي المنصفين فيهم.
وأنكر الكاتب أن للعرب مدارس فلسفية، وأشار إلى أنه ذاعت بينهم مذاهب نقلها المترجمون وجلهم من النساطرة واليهود ووثنيي حران ... إلخ، كأنه يرى في هذا منقصة ما، وكأن الحضارة كانت حضارة عربية الدم والجنس، وهذا ليس في شيء من الحق؛ لأنها حضارة الإسلام، نشأت في كنفه وعلى يد الأمم التي ألف بينها وأزال عنها فوارق العصبية، فتسابقت جهود أفرادها على اختلاف نحلهم وأجناسهم في سبيل العلم والمعرفة، على حين قبرت العصبية العربية في القرن الثاني بقتل الأمين، وتقلص ظلها حين كان يمتد رواق هذه الحضارة الإسلامية العربية اللسان والمزاج، فلا شيء في نقل النساطرة والوثنيين واليهود، ولا وقت عند القراء للحديث في هذا، فلا نطيل الكلام عن هذه المدارس؛ لأن الكاتب قد اعترف أن مدارس المعتزلة قد يصح أن تدعى مدارس بحق، إلا أنها ترجع في أصلها ونشأتها إلى النظر الديني المشوب بالفلسفة، كما قال عنها وعن مدارس الأشاعرة، وأن جماع هذه المدارس وما يجري مجراها مذاهب لاهوتية استعانت بالفلسفة وببعض النظر الفلسفي دون بعض، فهل له - أصلحه الله - أن يقول ما هذا اللاهوت في الإسلام، وكم مجمعا إسلاميا عقده القوم لتحرير مذهب أو بحث نظرية، وما الذي كان يتلقنه السلف الأول وهم أصدق الناس فهما للدين؟ وما الذي احتاج إليه الإسلام قرنا ونصفا قبل الفلسفة؟ ثم ما الذي استعان به بعد الفلسفة في سبيل تذليل عقبة من عقباته على نحو ما قد تكون المسيحية قد فعلت؟ إلا أن حكم التاريخ وشهادة الزمن أن الخوض في هذه الكلاميات لم يسبق الفلسفة، بل إنها أبحاث ترجع إلى الفلسفة الصرفة، التي لم يحتج إليها الدين، والكاتب يعيش في بلد إسلامي، ففي مكنته أن يعرف أن ليس في قواعد الإسلام إلا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن البدوي كان يتلقن هذه القواعد في جلسة قصيرة، وأن الفلسفة بعد ذلك خلقت كل هذا، وخاضت حتى فيما نهى عنه، وذلك عمل مدارس القوم التي كانت فلسفية صرفة، شابها شيء من النظر الديني، لا مدارس دينية شابها النظر الفلسفي.
ويقودني حديث اللاهوت الذي ذكره الكاتب إلى عبارة أخرى وردت في مقاله إذ يقول: فالمدرسة القديمة قائمة بين ظهرانينا تتبع سبيل النظر الغيبي، بل غالب ما ترجع سعيا إلى النظر اللاهوتي، ولعل هذا النظر اللاهوتي شيء مما نقله الكاتب عن «مرتز» في صدر مقاله إذ يقول: «والزمان الذي تقشعت فيه عن المدنية سلطة اللاهوت وزمان الإصلاح البروتستانتي»، فأقول للكاتب ومن رأيتهم من القوم ينحون منحاه كثيرا: إن الإسلام شيء آخر غير ما تسمعونه عن الأوروبيين من أمر اللاهوت، إن لديهم كنيسة وسلطة ورجالا يربطون ويحلون، قد وقفوا في سبيل العقل يوما ما وحرموا وحاكموا وعذبوا، على حين ليس لديكم من هذا، ولا يكاد يشبهه شيء، على حين أن لا رياسة في دينكم، ولا سلطة ولا حل ولا ربط ولا اعتراف ولا إحلال، على حين أن هذا اللاهوت لفظ لا معنى له في الإسلام؛ لأن الإسلام إصلاح عملي حيوي لا يقدس شخصا ولا يتقيد بشيء، ويحض على نظر ما في السموات والأرض، ويجعل استعمال العقل شكرا لمنحه، وعلى حين يقول المرحوم الأستاذ الإمام، تلميذ جمال الدين صاحب العقلية إياها، أن الكتاب الكريم لا يعرض لتقرير نظريات العلوم لئلا يقف في سبيل العقل ويحد قواه، مع أنه يستثيره ويستنهضه في تعميم إصلاحه، فلئن شكا القوم سلطة اللاهوت وعدوا الزمن الذي تقشعت فيه سلطته عن المدنية فاتحة عصر جديد، فلا تشكوا منهم وأنتم الأصحاء، ولا تقفوا في مثل خطأ الأتراك الذين سمعوا حديث السلطتين فذهبوا يقيمون للإسلام بابا وخليفة صاحب سلطة روحية، وأرى هذا الخطأ يبدو في مظاهر مختلفة، ولكن هذه العجالة لا تتسع لها فإلى فرصة أخرى، وحسبنا هذا إلماما وإشارة إلى ما نريد.
وأخذ المؤلف على القوم قلة المؤلفات العلمية الصرفة، ولا أرجع به إلى نقل ولا تذكير بأن الإحصاء يظهر أن ما ترجم الغرب في نهضته عن الشرق أكثر مما أخذ عنه الشرق إلى عهد قريب. لا أنقل شيئا من هذا فهو في المجلات مذكورا والكاتب يقدرها قدرها، ولا أذكره بما يبذل الغربيون من جهود ويرصدون من أموال لجمع هذا الشتات، ولكني أقول له: إن من كتب القوم ما لم تقع عليه عيوننا ولا سمعت به آذاننا، وإنه يحسن بنا قبل النفي أن نتريث وأن نقدر أنه قد يكون في الدنيا ما لم يصل إليه علمنا، وأن عوادي الدهر قد سطت على أكثر ما بقي لنا، وأننا حتى الآن لا نعرف صورة ما عن الحياة العلمية لإسلامنا، وخير لنا أن نبني أولا، وأن نتذكر أن نهضة الغرب قامت على أساس متين عريض من إحياء القديم وبعثه، وهاهم أولاء رجال الغرب يتخصصون في دقائق الفروع بل في توافه الأمور، فحبذا لو كانت لنا بهم في بدء نهضتهم، وفي رقي مدنيتهم أسوة ما، فندرس فروع حضارتنا، ونرود مجاهل تاريخنا، ومبهمات آدابنا، ونستخرج دقائق ميراثنا، بدل أن نضع الحضارة العربية، وجهد أجيال، وعمل قرون في نقطة مداد نخط بها حكما عاما شاملا، وعبارة مطلقة رهيبة، على حين تسمع بألم شكوى طلبتنا المصريين هنا من خجلهم أمام أساتذتهم - غير المستشرقين - في مختلف العلوم حين يسألونهم عن أشخاص وآراء لسلفهم لم يسمعوا بها لحظة ما، وحين يلفتهم أستاذ التشريح إلى اسم علمي يراه ليس عربيا، فيظهر بعد يسير من البحث أنه كذلك، وعلى حين يختار لهم أساتذتهم الأجانب مواضيع رسائلهم النهائية أبحاثا عربية ويدلونهم على مراجعها في محفوظات لديهم أو على حين لا نعرف من تاريخنا إلا ما يجود به علينا باحثوهم ومستشرقوهم، فحبذا لو بنينا قبل أن نهدم في رفق؛ فلعل في الأنقاض ما قد يسلم لنا في بناء الجديد.
ورمى الكاتب القوم بأنهم يمزجون الفن بالعلم «حتى أنهم وضعوا الموسيقى في الفلسفة بناء على كلمة نقلت إليهم عن فيثاغورس»، وهكذا لم يتلطف في الوخز مع أن الموسيقى علم وفن، وإنما كان فلاسفتهم يدرسون العلم، ولهم فيه نظريات لا تزال اليوم حديثة، ولصفي الدين عبد المؤمن البغدادي كتاب مخطوط - يوجد هنا في برلين - ليس إلا مناقشة نظريات علمية صرفة يعجب به الإخصائيون من الألمان وغيرهم، كما أن لهم أبحاثا نفسية في علاقة الأنغام بالألوان، وعلاقتها بالأراييح - الأزهار - وهو ما يعتبر بحثا جديدا شيقا، ويدرسه في جامعة برلين أستاذ الموسيقى وعلم النفس البروفسور ڨون هورن بوستيل
Von Horn Postil
وللكندي الفيلسوف رسالة مخطوطة في الموسيقى - توجد أيضا في برلين - تناول فيها الأبحاث الشيقة، وقد أعجب بها الأستاذ الألماني لاخمن واشترك مع الشاب المصري الفاضل الدكتور محمود الحفني الذي أتم دراسة الموسيقى ببرلين في إحياء هذه الرسالة وتفسيرها، ولا يزالان يعملان على إحياء غيرها من نفيس هذه الآثار. وأما فن الموسيقى أو الموسيقى العملية فقد دعوها صناعة الغناء، وذكر ابن خلدون في مقدمته فضل هذه الصناعة بين غيرها من الصنائع، فلم يكن فلاسفة العرب ملحنين ولا مغنين ولا أصحاب صنعة، كما لم يكن زرياب وإسحق ومعبد وشيعتهم فلاسفة. وما يرى كاتبنا الفاضل في أن الأوروبيين قدوتنا وسادتنا يتابعون القوم في هذا الخلط، ويدرسون الموسيقى في قسم الفلسفة في جامعاتهم، كما هو الشأن هنا في برلين؛ إذ يدرس الطالب الموسيقى العلمية والفلسفة وعلما آخر يختاره، ويعطى بعد ذلك لقب دكتور في الفلسفة، فلعل مشايعة السادة لقومنا في الخطأ تخفف من حدة الكاتب عليهم فلا يكونوا معتمدين على كلمة نقلت إليهم.
ملحق ثان: حول أسلوب الفكر العلمي
صفحه نامشخص