ذلك رب القلم
شاعر مصر الذي
إن خفي النجم لم
فهل يمكننا بعد هذا أن نتورط في وساطة بين شاعرين عقد لأحدهما لواء الزعامة في عالم التوحيد، وللآخر لواء الزعامة في عالم الوثنية؟ نربأ بأنفسنا أن نضعها في هذا الموضع، وأن نسومها طلب المحال فتطمع في غير مطمع.
أما المفاضلة فلا نتلكأ فيها، نعقد لشوقي لواء الإمارة في العالم العربي، ونرفع لطاغور لواء الزعامة على كل البقاع التي تكسوها الشمس من كرتنا الأرضية، وكفى الشرق فخرا أن تكون له في بداية القرن العشرين دولة للشعر، يقودها في العالم العربي شوقي، وفي العالم كله طاغور.
قد يعز على الكثيرين من النقاد ألا نجعل شوقي أنبغ من هوميروس في الوصف، وأمتع من دانتي في الرواية، وأعرف من شكسبير بحقائق الحياة الإنسانية، وأمتن من ملن في اللغة، وأعرق من جوتة صلة بالفلسفة، بل قد يعز عليهم ألا نضع شوقي في صف وحده أو ألا نغرسه على قمة هرم نجعل لبناته شعراء الدنيا كلها، ولقد أصبح هذا الزعم عند البعض إيمانا ومعتقدا ثابتا، ولست أدري لماذا؟! ألأن شوقي نسج على منوال القدماء فحاذاهم ولم ينزع إلى غير ما نزعوا إليه من الطرائق؟ أم لأنه أحيا موات الأساليب القديمة، ثم مزجها بقليل من مميزات العصور الحديثة فخرجت أشعاره مزيجا من القديم والحديث، وخليطا من سليقة البداوة وطراوة الحضارة، قد تجد لها أمثالا كثيرة في شعراء الدولة العباسية، وعلى الأخص من خالط منهم الأمراء والمترفين؟ اللهم إنا لا نستطيع أن نجاري المغالين من مغالاتهم، ولا أن نفرط مع المفرطين في المدح فنخرج من شوقي صورة غير موجودة، ونتكلم في شخصية لا حقيقة لها في الخارج.
يقولون : إن شوقي قد أفرغ الشعر في قالب جديد، ويقولون: إنه مجدد في الأساليب تجديده في القوالب الشعرية، ولو إن القائلين بالحقيقة الأولى لم يشوهوها بالزعم الثاني لكان في قولهم كثير من الحق والصواب، على أنه حق ينطبق على كل شاعر من شعراء العصور القديمة والحديثة، فلكل شاعر نزعة تفرغ الشعر في قالب ما، وهذه النزعة راجعة إلى الاستعداد الفطري الذي يكون من الشاعر شاعرا، ومن الكاتب كاتبا، ومن العالم عالما، وإذا كان من المتعذر أن تتماثل النزعات والميول الفطرية، استتبع هذا أن يكون لكل شاعر من الشعراء قدرة خاصة على إفراغ الشعر في قالب قد يقال: إنه جديد، وشوقي لم يعد هذه القاعدة.
أما التجديد في الأساليب فزعم لم يستطع أحد من النقاد إثباته لشوقي حتى الآن، وليس أدل على هذا من أن أفخم قصائده وهي الأندلسية، ونهج البردة، وقصيدة كارنارفون قد نسج فيها على قصائد قديمة؛ نالت في الأدب القديم مكانة جعلت لقصائد شوقي وقعا في النفوس جديدا، وحلاوة تمازجت فيها الذكريات، فمن حنين إلى عظمة القديم، مصبوبة في قالب لا تخرجه إلا شاعرية شوقي وحده، إلى شغف في الإيقاع على أوتار الحديث على صورة ما يصل إليها إلا من هام برقة ابن هانئ واستوقفته روعة زهير.
لقد أجدبت اللغة العربية جدبا نسبيا في ذلك العصر الذي تقدم عصر النهضة الحديثة التي ندعوها غالبا بنهضة محمد على، فإن عصر المماليك لم يكن ذلك العصر الأدبي الذي يصح أن يقال فيه: إن اللغة أو الصناعات الأدبية قد كسبت فيه جديدا مبتكرا، على الرغم من كثرة المؤلفات التي ظهرت خلال ذلك العهد المظلم، فإنها مؤلفات غالب ما عنيت بالفقه وكثر ما أكبت على تدوين التراجم، فإن كتاب صبح الأعشى، وكتاب مسالك الأبصار، وقاموس لسان العرب، وهي من مفاخر ذلك العصر، لا يمكن أن تعد كتب تجديد بالمعنى الصحيح، على الرغم من قيمتها الأدبية كمراجع أو معاجم عظمى، وفي حدسي أن قيمة هذه الكتب وأمثالها مما خرج في عصر المماليك لا تزيد قيمته الآن عن موسوعات إرش وجروبر العظمى، أو معلمة لينيوس في التاريخ الطبيعي، وقيمتها في اللغة العربية كقيمة الموسوعة في الألمانية، أو المعلمة في اللاتينية، إذن فعصر المماليك كان عصر إنتاج، ولكنه لم يكن عصر تجديد أبدا.
على أني أخشى أن يكون حكمي على الحركة الأدبية في عصر النهضة العلوية شبيها بحكمي عليها في عصر المماليك من حيث الشعر، فإنه كان ولا شبهة عصر إنتاج؛ ولكنه ليس بعصر تجديد، إذا أردنا أن ننظر في النهضة من ناحية الشعر وحده، وأغضينا الطرف عن حركة التجديد التي قامت حول الترجمة في ذلك العصر، وهي حركة نعتقد أنها من أثمن ما أخرج محمد علي من الآثار العظمى، كان لنا حكم قد يراه البعض قاسيا، والبعض معتدلا، ففي طوال القرن الماضي لم يظهر في مصر سوى شعراء أربعة البارودي وصبري وشوقي وحافظ، قد يمكن أن نعتبر بحق أنهم الذين يمثلون دولة الشعر فيه، وهم في مجموعهم صور مختلفة ونماذج متباينة من شعراء العصور القديمة، وأكثر ما فيهم من الصفات آثار مستمدة في غالب الأمر من شعراء العصر العباسي، لهذا كان ظهور شوقي في هذا العصر حادثا جديدا لا باعتبار الآثار الابتكارية الخالدة التي بثها في تضاعيف الشعر العربي، بل باعتبار أنه أخصب إخصابا كبيرا بعد عصر طويل كادت تجدب فيه ملكة الشعر في العالم العربي، وفي مصر على الأخص. على أن إخصاب شوقي له نواحيه المتعددة، غير أن أظهر تلك النواحي، وأبين ما فيها من الآثار قدرته الكاملة على الوصف، فهو وصاف ماهر، ومصور يبز الكثيرين من أهل صناعته قديما وحديثا، ففي الشعراء المعاصرين من يبزه في المديح، وليس بقليل منهم من شبب بما لم يبلغ إليه شوقي، ولكن ليس منهم من يستطيع أن يجاريه في مضمار الوصف والتصوير. •••
صفحه نامشخص