تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
ژانرها
كل هذا الذي ذكرناه يمكن أن يستغل في عملية استيعاب التاريخ كما يمكن أن يكون أداة في يد البحث العلمي، وأن يسمح بإنشاء سياقات معينة. وبهذا يمكن أن تتضح الواقعة التاريخية بفضل إحدى الحقائق التي تفتح أمامي - حتى ولو رفضتها - آفاقا جديدة، وتكشف لي عن إمكانات كامنة فيها . وبهذا أيضا يمثل الجدل المستمر بعدا ثابتا من أبعاد الحوار المتنوع بين الفلاسفة.
غير أن هدفنا النهائي هو الوصول إلى تصور لتاريخ الفلسفة في مجموعه؛ تصور يتغلغل إلى الأعماق وتصلح الأسس التي يقوم عليها لأن تكون نقطة مرجعية يرتبط بها الكل؛ أريد أن أرى كيف يرتفع الإنسان - في حياته الزمنية - إلى الوعي الباطن بالوجود، وكيف يتوصل إلى اليقين بالمتعالي انطلاقا مما يعرف عن الخليقة، وكيف يتخذ هذا اليقين لديه صورة موضوعية في فكرته عن الله، ومعرفته بالعالم، وتصوره لوجود الإنسان. وأحب - من خلال تجربتي للإمكانات - أن أفتح مغاليق الوجود الأصيل، كما أتوق كذلك - وأنا أغوص فيما يقدمه كل مفكر من شيء فريد في تاريخيته - أن أتوصل إلى تأمل الجوهر الذي يحمل كل فكرة جوهرية ويحيط بها إحاطة شاملة. (3) الخصائص الأساسية لتصور تاريخ الفلسفة تصورا له معناه
سنحاول الآن أن نضع أيدينا على العناصر الجوهرية العميقة في علاقة الفلسفة بتاريخها، وذلك من خلال تصور كلي يفسر هذا التاريخ في مجموعه، ويتصف بالخصائص التالية: (3-1) يجب أن يكون تاريخ الفلسفة عالميا (أ) امتداده في المكان والزمان (تناهي المكان الأرضي وتفرد اللحظة التاريخية)
تتم اليوم حركة فذة غير مألوفة مهد لها قرن من الزمان؛ فقد أصبح الناس على وعي بأن الكرة الأرضية التي يعيشون عليها مكان محدود. وبدأت الشعوب يتعرف بعضها بعضا في مواجهة واقع واحد، وأخذ البشر يشعرون بمستقبلهم ويخططون له، واضعين المكان الأرضي المحدود نصب أعينهم؛ فلم يعد في إمكان الجغرافي أن يقصر ملاحظاته على مناطق معينة، بل أصبح من واجبه أن يتوسع فيها لتشمل الكوكب كله. ورجل الدولة يجد اليوم لزاما عليه أن يضع في حسابه موازين القوة المؤثرة على مصير الكرة الأرضية قبل أن يتخذ قراراته المهمة، والسياسة العالمية لم تعد فكرا على مستوى القارات فحسب، وإنما تغلغلت في الواقع في وعي الرأي العام؛ والتاريخ بوجه عام قد أصبح تاريخا عالميا لا مجرد تاريخ غربي مغلق على نفسه على زعم أنه هو تاريخ العالم. بهذه المعاني كلها تغير كذلك تاريخ الفلسفة. فالمفكر يهتم اليوم بالضرورة بكل فكر حقيقي يتم على وجه الأرض، وفي حين يكافح رجل الدولة لتدعيم مجال الواقع وتشكيله، نجد رجل الفكر يكافح في سبيل الوصول إلى العمق ورحابة الأفق اللذين تتيحهما له أصالة وضعه الإنساني، يؤيده كل المفكرين الحقيقيين ويشدون أزره حتى يجد نفسه. ولن يشعر الإنسان حقا بأن العالم قد أصبح بيته حتى يجتاز كل نقد يتعرض له من أي مكان، ويحس أنه قد وسع أفقه وثبت خطاه.
إن المكان الأرضي لا يملؤه إلا التاريخ، ونحن لا نبلغ الرؤية العالمية حتى نتغلغل في أعماق الزمن، ولا يكون الإنسان إنسانا بحق، ولا يفهم نفسه، إلا عن طريق الماضي؛ فمعرفة التاريخ هي التي تفتح أمامنا العالم على اتساعه، وهي التي تسمح لنا بفهم الوجود الإنساني في مجموعه بوصفه وجودنا الخاص، ولهذا فنحن في حاجة إلى تاريخ عالمي للفلسفة البشرية بأسرها.
إننا نأمل، ونحن نتفلسف على هدي التاريخ، أن نكون معاصرين لكل المفكرين الأصلاء، أو نأمل - والأمر سواء - في أن نجعلهم معاصرين لنا. ونحن نطمح لتوسيع أفق حاضرنا بحيث نعايش تلك اللحظة الفذة التي تمت فيها صحوة الإنسان على وجوده في العالم، وندرك بأنفسنا أن صحوة الوعي هذه كانت فعلا فريدا متسقا، وأنها قد تمت - من وجهة النظر الكونية الشاملة - في لحظة خاطفة نسميها التاريخ العالمي. ونحن نتمنى أيضا أن تكون لدينا القدرة الكافية على التحليق فوق قرون من التطور المتصل بحيث تتقلص في لحظات تبدو في مجموعها جهدا واحدا نشارك في كفاحه من أجل الوضوح، والواقع، والأبدية.
ونحن نرجو أخيرا أن نتمكن من الوثوب في الحاضر الأبدي للوجود؛ هذا الحاضر الذي يتجلى في كيان الإنسان على تلك الصورة التاريخية.
ونحن نحاول، بقدر ما في وسعنا، أن ننفذ إلى الأزمنة السحيقة والأماكن الموغلة في البعد، حريصين على التحرر من كل وجهات النظر التي نجدها فيها لكي نحتفظ بالمرونة الكافية للمشاركة في كل واحدة منها. ويظل هدفنا الأخير - ونحن نتغلغل بأرواحنا في الأبعاد الشاسعة - هو تولي مسئولية وضعنا الخاص في التاريخ وتحقيقه بمزيد من الحرية والتصميم والوعي، بحيث لا نتخلى عنه إلا بالموت؛ إذ إن الأبدية وحدها هي التي تجعله أمرا نسبيا وهي التي تحفزنا على إطاعة الحقيقة الواحدة. (ب) العالمية بوصفها مرآة
إن النظر إلى الواقع البشري في سياق التاريخ العالمي هو الطريق المؤدي إلى الوجود الإنساني في تمام حريته ونقائه؛ فالصورة العالمية وحدها هي المرآة المستوية الصافية التي يمكن أن يرى فيها الإنسان نفسه ويفهم نفسه. وفي هذه المرآة وحدها تتحقق جميع الإمكانات الإنسانية، ويتم إدخال التعديلات الضرورية على الصورة المحدودة المرتبطة بمعرفة الذات. غير أن الحصول على هذه المرآة العالمية - التي لا تتوافر أبدا بصورة مكتملة - أمر يتوقف على المستقبل ويحتاج إلى المعرفة المحيطة الشاملة، كما أن بحثنا الدائب عنها هو الذي يحفزنا على تفجير كل الحدود وتخطيها. إن الحدود تشدنا إليها بقوة، ولكن الاستثناء الخارق يسطع أمامنا كالمنارة. وما يبدو لأعيننا كأنه أغرب الغرائب يستثير شغفنا ويؤثر علينا عن كثب.
وبعد أن نحبس أنفسنا داخل عالم ثقافي رائع ومتنوع إلى أبعد حد، نجد أنفسنا مندفعين للرجوع إلى الأصل الذي نبع منه، هنالك نعود لاكتشاف الخصائص الأولية للإنسان، وننفتح على دوافعه الأساسية ومواقفه الجدية. ونعتقد عندئذ أننا نتعرف شيئا ظل خافيا عنا في كل ثقافة رفيعة، ونحاول أن نلتمسه في جذور الحضارات الكبرى؛ عند الإغريق وغير الإغريق، وعند الشعوب البدائية. ويدفعنا تعطشنا إلى أصلنا إلى الإمساك بمرآة تعكس كل الأصول الأخرى. إن الجوهر الذي انبثقت منه الفلسفة الحقيقية قد كان ولا يزال كامنا في أنفسنا منذ عهود بعيدة ممتدة إلى ما قبل التاريخ، دون أن نشعر به في أي وقت من الأوقات شعورا واضحا جليا، ولكننا نبدأ في تعرفه في التاريخ العالمي، هذا التاريخ العالمي في مجموعه هو مرآة الوجود الإنساني التي تكشف عما يكمن فينا من إمكانات، وما حققناه في الواقع، وما لا يزال راقدا في أعماقنا. وتاريخ الفلسفة هو أداة استيعاب الفلسفة بصورة عالمية، وهو في الوقت نفسه مرآة الوجود الإنساني كما هو مرآة الفلسفة التي نحققها في أنفسنا. (ج) العالمية في تعدد الظواهر
صفحه نامشخص