تاریخ فلاسفه اسلام
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
ژانرها
أما تآليف الكندي فتكاد تشمل سائر العلوم، فقد دون كتبا في الفلسفة وعلم السياسة والأخلاق، والأرثماطيقي وعلم الكريات والموسيقى، والفلك والجغرافيا والهندسة ونظام الكون والتنجيم، والطب والنفسانيات والأبعاديات والمساكن ألف فيه رسالته الكبرى، ورسالة في الربع المسكون وعلم المعادن، وفيه رسالة في أنواع الجواهر والأشباه، ورسالة في نعت الحجارة والجواهر ومعادنها وجيدها ورديئها وأثمانها، ورسالة في تلويح الزجاج، وأخرى في أنواع الحديد والسيوف وجيدها ومواضع انتسابها. وألف في الكيميا رسالة في العطر وأنواعه، ورسالة في كيمياء العطر. وأخرى في التنبيه على خدع الكيمائيين، ورسالة في الطبيعة، ورسالة في الأجرام الغائصة في الماء، ورسالة في الأجرام الهابطة، ورسالة في عمل المرايا المحرقة. وله كتب خطية في مكاتب أوروبا ذكرها بروكلمان في فهرسته.
بيد أن الناظر في مؤلفات الكندي يرى أنها لم تخرج عن حد العقليات. وأخبرنا العلامة سنتلانا، أستاذ تاريخ الفلسفة بالجامعة المصرية في عام 1911: «إن البينوناجي الذي سلف ذكره نشر في عام 1897 خمس رسائل فلسفية للكندي، أولاها في ماهية العقل، ونشرت ترجمتها باللاتينية.»
وليس بين مؤلفات الكندي شيء في الدين، بل إنه اشتهر برأي خاص في «واجب الوجود»، خالفه فيه المتشددون من أهل عصره، وأخذوا عليه رأيه المذكور الذي أودعه رسالة التوحيد. وقد روى عبد اللطيف البغدادي، أحد أطباء العرب، ومؤلف «كتاب أخبار مصر»، وهو من أهل القرن الثاني عشر ومن الفقهاء المتعصبين؛ أنه كتب رسالة ضمنها بحثا في حقيقة واجب الوجود وما ينبغي نحو ذاته العلية، وأن غايته من تدوينها نقض ما دونه الكندي من قبل في «رسالة التوحيد». وروى كاتب «مقالة الكندي» في دائرة المعارف البريطانية «أنه كان أول الثائرين على الإسلام»؛ يقصد المبتدعين. ولكن في هذا مغالاة، فقد سبقه كثير من المعتزلة، كواصل بن عطاء في أوائل القرن الثانين وعمرو بن عبيد، والنظام تلميذ ابن الهيثم، والجاحظ تلميذه، وكلهم سابقوه. على أن خصوم الكندي لم يأخذوا عليه إلا قوله «بوحدة واجب الوجود وبساطة ذاته العلية»، وإن هذا القول أرسطي محض، ومعناه أن القائلين به لا يعترفون لواجب الوجود بصفة مطلقة، والصفات المطلقة هي المميزة عن الذات، وكان أرسطو حقيقة ينكر الصفات ويقول بأنها والذات شيء واحد، وهذا القصد من قولهم ببساطة واجب الوجود.
على أن المعتزلة والسنيين متفقون في جوهر هذه المسألة. فإن المعتزلة تقول: «إن الله عليم بذاته خبير بذاته قادر بذاته»؛ أي يعلم ويقدر دون الاحتياج إلى صفة. أما الصفاتية، وهم جمهور المسلمين، فيقولون بأن الله عليم بالعلم؛ أي بصفة العالم، وقادر بالقدرة؛ أي بصفة اسمه القادر. وإن هذه الصفات ليست منفصلة عن الذات؛ لأنها لو انفصلت لعادوا إلى رأي المعتزلة، وقد يشركون. وحجة المعتزلة فيما سبق بيانه أن القول بالصفات يثبت ثلاثة عشر قديما (الصفات المشهورة ثلاث عشرة: خمس سلبية وواحدة نفسية وسبع معان). على أن المعتزلة إذا سئلوا قالوا إن الله قادر، فهم متفقون وجمهور المسلمين في الجوهر كما أسفلنا.
أول أعداء الكندي من معاصريه أبو معشر. روى ابن النديم البغدادي الكاتب المعروف بابن أبي يعقوب في كتاب الفهرست «أن أبا معشر، وهو جعفر بن محمد البلخي، من أصحاب الحديث أولا، وكان منزله في الجانب الغربي بباب خراسان ببغداد، وكان يضاغن الكندي ويغري به العامة، ويشنع عليه لأخذه بعلوم الفلاسفة، فلما رأى الكندي منه ذلك أراد أن يقطع عن نفسه شره بما ينفع أبا معشر ولا يضره، فدس عليه من حسن له النظر في علم الحساب والهندسة فاشتغل بهما، ولكنه لم يوفق فيهما فعدل عنهما إلى علم أحكام النجوم، فانقطع شره عن الكندي بنظره في هذا العلم، وقد تعلم علم أحكام النجوم بعد سبع وأربعين سنة من عمره»، وأمسى من تلاميذ الفيلسوف بعد أن كان ألد أعدائه!
روى أبو جعفر ابن يوسف في كتابه «حسن العقبى»، عن أبي كامل شجاع بن الحاسب «أنه كان لعهد المتوكل أخوان شريران: محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر، وكان هذان الشقيان يكيدان لكل من ذكر بالتقدم في علم أو معرفة، فلما ذاع فضل الكندي غاظهما ذلك، وأرادوا الوقيعة به لدى المتوكل، وكان للكندي نصير في بلاط الخليفة، وهو سند بن علي، فباعداه عن المتوكل وأشخصاه إلى مدينة السلام، فلما خلا لهما الجو دبرا على الكندي مكيدة، فضربه المتوكل، ووجها إلى داره فأخذا كتبه بأسرها وأفرداها في خزانة سميت «الكندية».»
وقد ردت له هذه الكتب بخبر غريب، وهو أن الشقيقين الشقيين كانا يعملان للانفراد بالمتوكل وإبعاد أهل الفضل عنه، والحصول على ما يستطيعان من المال، فكشف أمرهما في حفر النهر المعروف بالجعفري؛ فإنهما أسندا حفره إلى مهندس معرفته أوفى من توفيقه، فغلط في فوهة النهر، وأتلفا جملة من مال المتوكل، فأقسم أن يصلبهما على شاطئه إن كان ما بلغه عن الغلط حقا، فتوسلا إلى سند بن علي الذي ما تركا شيئا من سوء القول إلا ذكراه عند المتوكل به، فقال لهما سند بشمم أهل الفضل: «إنكما لتعلمان ما بيني وبين الكندي من العداوة والمباعدة، ولكن الحق أولى ما أتبعه، والله لا ذكرتكما عند المتوكل بصالحة حتى تردا عليه كتبه!» فتقدم محمد بن موسى في حمل الكتب إليه وأخذ خطة باستيفائها، فوردت رقعة الكندي بتسلمها عن آخرها، وقال سند للمتوكل إنهما ما غلطا لينقذهما من العقاب. ومات المتوكل بعد ذلك بشهرين قبل أن يظهر غلط الحفر في النهر.
اعتاد مترجمو الحكماء رواية بعض أقوالهم في الحكمة العامة للاستدلال على آرائهم، ويغلب أن يكون المنقول من الحكم الذائعة على ألسنة الأدباء ذكرت للإسهاب، أو دست على الرواة؛ فقد قرأت حكما نسبت لسقراط، وقرأتها بعينها منسوبة لكونفوشيوس ولقمان وغيرهما، ومثل هذا كثير، ولا أظن أنه يؤخذ به في تقدير المنسوب إليه أو في الحكم عليه.
والأقوال المروية عن الكندي تنقسم، من حيث شكلها، قسمين: نثرا وشعرا. والنثر في ثلاثة أمور: الأول نصيحة للطبيب، والثاني في الحث على التواضع، والثالث في التحذير من الأقارب ، ورويت عن سبعة أبيات من الشعر، رواها العسكري في كتاب الحكم والأمثال وهي:
أناف الذنابي على الأرؤس
صفحه نامشخص