الشكل:
كان الخط في صدر الإسلام خلوا من الشكل والإعجام، فوضع أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69ه علامات للحركات الثلاث، فجعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، والكسرة تحته، والضمة بين يديه، وجعل التنوين نقطتين، كل ذلك بمداد يخالف مداد الحرف. فلما وضع نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر بأمر من الحجاج نقط الإعجام اضطرب الأمر واشتبه الإعجام بالشكل، فتصدى الخليل لإزالة هذا اللبس فوضع الشكل على الطريقة المعروفة اليوم، وبنى ذلك على مقاييس مضبوطة وعلل دقيقة، بأن جعل للفتحة ألفا صغيرة مضطجعة فوق الحرف، وللكسرة رأس ياء صغيرة تحته، وللضمة واوا صغيرة فوقه، فإذا كان الحرف المحرك منونا كرر الحرف الصغير فكتب مرتين فوق الحرف أو تحته، ذلك لأن الفتحة جزء من الألف، والكسرة جزء من الياء، والضمة جزء من الواو . ووضع للتشديد رأس شين بغير نقط « »، ووضع للسكون دائرة صغيرة وهي الصفر من الأرقام العربية القديمة وذلك لأن الحرف الساكن خلو من الحركة. ووضع للهمزة رأس عين «ء» لقرب الهمزة من العين في المخرج هكذا قالوا، والذي أراه أن هذه الشكلة إنما هي الميم المتوسطة في لفظ «همزة»، لأنك إذا كتبت هذا اللفظ وحذفت الهاء من أوله والزاي والتاء من آخره ظهرت هذه الشكلة واضحة. ووضع لألف الوصل رأس صاد هكذا «ص»، توضع فوق ألف الوصل مهما كانت الحركة فيها، وللمد الواجب ميما صغيرة مع جزء من الدال هكذا « ». فكان مجموع ما تم له وضعه ثماني علامات: الفتحة، والكسرة، والضمة، والسكون، والشدة، والهمزة، والصلة، والمدة، كلها حروف صغيرة أو أبعاض حروف بينها وبين ما دلت عليه أجلى مناسبة وأوضح صلة، بخلاف علامات أبي الأسود وأتباعه فإنها مجرد اصطلاح لم يبن على مناسبة بين الدال والمدلول. وألف الخليل في هذا الموضوع كتابا نفيسا، فلم يزد أحد على طريقته هذه شيئا ولا أصلح منها رأيا، فكأنه ابتدأها وبه ختمت.
الموسيقا:
لم يكن الخليل يعرف لغة أجنبية، وليس فيه ميل إلى اللهو والقصف، ولكنا رأيناه ألف كتابا في الموسيقا جمع فيه أصناف النغم وحصر أنواع اللحون، وحدد ذلك كله ولخصه، وذكر مبالغ أقسامه ونهايات أعداده، فصار الكتاب آية في بابه. ولما وضع إسحاق بن إبراهيم الموصلي كتابه في النغم واللحون عرضه على إبراهيم بن المهدي فقال له: أحسنت! ... فقال إسحاق: بل أحسن الخليل لأنه جعل السبيل إلى الإحسان. فقال بعض أهل العلم: إن مهارة الخليل في علم الألحان هي التي أعانته على إبداع علم العروض. (1-5) كتاب سيبويه من وحي الخليل
الخليل أول من فتق معاني النحو، وضبط أصوله، وبسط فروعه، واستخرج علله وأسبابه، ووسع فصوله وأبوابه، وأوضح سبيله، وعبد مناهجه حتى بلغ أقصى غاياته، ولكنه ترفع عن التأليف فيه لأنه منهل كثر وراده، فأوحى إلى تلميذه وخريجه «سيبويه» من دقائق مسائله وبنات أفكاره وأبكار تصوراته ما جعله حريا بأن يشار إليه بالبنان، وجديرا بوضع كتابه المشهور الذي أصبح للنحاة إماما يقتدون به ويهتدون بهديه، فمعظم ما في الكتاب مغترف من سلسال علم الخليل، ومقتبس من مصباح ذكائه، وكلما قال سيبويه «سألته» أو «قال» من غير أن يذكر أحدا فإنه يعني «الخليل». (1-6) كتاب العين أو «أبو المعاجم كلها»
علمنا أن الخليل قد طالت صحبته لخلص الأعراب وكثرت إقامته بين ظهرانيهم، ثم إنه كان يحج بين العام والعام وكان يقابل في طريقه إلى مكة فصحاء العرب وأقطاب بلغائهم، فاجتمع لديه كثير من مفردات اللغة وفرائد دررها، فعزم على جمع ذلك في كتاب لم يسبق إلى مثله، فرسم الخطة ورتب الأبواب على طريقة ابتدعها وأسلوب لم يسبق إليه، وكان قد افتتحه بحرف العين فسماه «كتاب العين» على عادة الكتاب في ذلك العصر فإنهم يسمون الكتاب بأول أبوابه ككتاب الجيم وكتاب الميم وكتاب الغين وكتاب الحماسة وغيرها. وهذا الكتاب أول كتاب ألف في متن اللغة مرتبا على الحروف، جمع فيه الخليل 12305412 كلمة بعضها مستعمل وأكثرها مهمل. والذي حدا به لذكر المهمل استيفاء التقاسيم العقلية لكل كلمة، فمثلا كلمة «كتب» يحتمل في الكاف الفتح والضم والكسر ويحتمل في التاء الحركات الثلاث والسكون، وثلاث في أربع اثنتا عشرة صورة فيذكر الاثنتي عشرة صورة ويقول: هذه الصورة مستعملة لمعنى كذا، وهذه الصورة لم تستعملها العرب، وقد جمع الخليل في كتابه هذا من غرر الشواهد، ونوادر الفوائد، وضروب الحصر، ورصين القواعد، وجليل المسائل ما يعز وجوده في معجم غيره. على أنه تضاربت آراء العلماء في نسبة هذا الكتاب إلى الخليل أو إلى بعض تلاميذه أو إلى الليث، وقد ألف ابن درستويه كتابا خاصا في شرح هذا الخلاف، واستقصى الجلال السيوطي في المزهر جميع ما دار في هذا الموضوع من أقوال. ولكن نحن لا نرتاب في أن الخليل هو الذي رسم خطط هذا الكتاب، ورتب أبوابه ووضع حجر الزاوية بيده، أما أن غيره أكمله وزاد فيه فذاك أمر محتمل، ولكنه لا يدفع الخليل عن كونه المجلي في هذه الحلبة، وأنه أول واضع لمعاجم اللغة مرتبة على حروف المعجم، وأن من جاء من بعده إنما اقتبس من مصباحه واهتدى بمناره. ولم يزل جمهور الأدباء وأرباب البحث لهذا العهد يظنون أن هذا المعجم الجليل اغتالته أيدي الأيام فيما اغتالت من نفائس الأسفار وجليل الآثار، ولكن من يمن الطالع أن عثر على نسخ منه أحد أدباء الحاضرة الهاشمية، فسعى البحاثة المشهور صاحب «لغة العرب» بمقابلة تلك النسخ وتصحيحها باذلا الجهد في تحري الصواب على عادته ثم شرع في طبعه، ولكن بعد أن أنجز منه بضع كراريس حالت الحال وعرضت دون ذلك أهوال، ولا ندري هل بقي لتلك النسخ من أثر بعد أن تفرقت كتب الرجل أيدي سبأ ومزقت كل ممزق ... جرى كل ذلك قبل نحو بضع وعشرين سنة.
وقد سلك الخليل في ترتيب حروف الهجاء مسلكا لم يسبق إليه، ذلك أنه رتبها حسب المخارج مع تغيير طفيف فجاءت على هذا الوجه: ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و أ ي.
قال الخليل: «لم أبدأ بالهمزة لأنه يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة، ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء، فوجدت أنصع الحرفين فابتدأت بها ليكون أحسن في التأليف.» ا.ه. (1-7) هل كان الخليل يقرض الشعر؟
قالوا: كان ينظم البيتين والثلاثة كما سيأتي، وروى الأثبات أنه سئل لماذا لا تقرض الشعر مع سعة علمك بالعربية وتبحرك في علومها؟ قال: «يأباني جيده وآبي رديئه»، وهذا الجواب على إيجازه غاية في البلاغة وآية في الحكمة وحصافة الرأي. (1-8) مؤلفاته
للخليل مؤلفات أبدع فيها أيما إبداع، ولم يحتذ في تأليفها وتبويبها حذو من سبقه من أهل العلم، والذي يجيل النظر في سيرة هذا الرجل يتبين له أنه كان يربأ عن سلوك المناهج المعبدة في كل ما يكتب ويصنف ، ولذلك كان يسلك في التأليف طرقا خاصة يؤم فيها الناس ولا يأتم بأحد، فمن تصانيفه: (1)
صفحه نامشخص