بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
ژانرها
لقد كان الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من الوضع القبلي البدائي، ويصنعون مدنية وثقافة متنامية قبل الميلاد بستة قرون، إنهم بداية الحضارة الأوروبية، التي تطورت عبر التاريخ حتى بلغت مرحلة المد الاستعماري. فلم يتوان مفكرون غربيون في تسويغه، حتى شكلوا فيلقا في الجيوش الاستعمارية، بزعم أن الغرب هو صانع الحضارة ابتداء وأبدا. فيغدو السؤدد الحضاري والسيطرة على العالمين نصيب الغرب المشروع ومكانه الطبيعي، وكان السبيل لهذا هو الإسراف في تمجيد ما أسموه «المعجزة» الإغريقية، وإهدار ميراث الحضارات الشرقية القديمة الأسبق منها، والتي أصبحت مستعمرة.
وبينما الحضارة اختراع مصري، أنجزه الفراعنة - قبل الإغريق بألفي عام - ليكون الفجر الناصع ونقطة البدء الحقيقية، راحوا يزعمون أن هذا قد انزوى، والإغريق هم بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط. فالعلم بدأ مع الإغريق كما بدأت الفلسفة مع طاليس، وبدأت الرياضيات مع فيثاغورث، والميثولوجيا - الأساطير - مع هوميروس، والمسرح مع يوربيديس وإسخيلوس، وبدأت الديمقراطية في أثينا ... إلخ ... إلخ. فيبدو الغرب هو الفاعل الوحيد لكل فعل حضاري ، المالك الوحيد لكل غنيمة حضارية، صاحب الحق في تصريف شئون الحضارة البشرية وفقا لمصالحه، إذن الاستعمار والهيمنة نصيب الغرب المشروع.
ونعود إلى العلم بمفهومه الحديث، لنجد العلوم التجريبية جذعه وجسده وإنجازه الأعظم، وفي هذه العكس تماما هو الصحيح. فقد بلغت مدا مبهرا في الحضارات الشرقية القديمة، انحسر مع الإغريق. لقد تمركزت إنجازاتهم في العقل النظري والعلوم الاستنباطية؛ أي في المنطق والرياضيات؛ لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل، حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرغين لممارسة فضيلتي التأمل والصداقة، ثم انطفأت الجذوة التي توهجت للعلم والتقانة في الإسكندرية، واستمر أثر أرسطو متكاتفا مع كهنوت رجال الكنيسة، كسد أمام العلم التجريبي طوال العصور الوسطى، يئن ويستجير منه الأوروبيون لا سواهم. حتى تحرروا في القرن السادس عشر من هيمنة أرسطو، وبدءوا انطلاقة العلم الحديث.
هذه المرة الإهدار من نصيب دور الحضارة العربية الإسلامية التي احتلت قصب السبق في العصور الوسطى. لقد انفتحت على كل الحضارات الأسبق منها، وشكلت أمة تضم قوميات ومللا شتى ساهموا جميعا في إنجازاتها العلمية الهامة، فكان العرب - كما يقول مؤرخ العلم كروثر - هم المؤسسون لمفهوم عالمية المعرفة، وهي إحدى السمات البالغة الأهمية للعلم الحديث.
ولئن كان الإغريق قاموا بدور جوهري في بلورة مثل العقلانية والعلم، فإن السؤال هو: لماذا كانت هذه المرحلة المتألقة في أيونيا، وليس في أي مكان آخر من أوروبا؟ والإجابة في الموقع الجغرافي لبلاد اليونان، قربها وتوسطها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبق منها. فكانت تمثلا واستيعابا لميراثها، ثم تطورا طبيعيا له؛ لأن الظروف الحضارية الإغريقية كانت موائمة لهذا، ثم صنع الإسلام ظروفا حضارية مواتية لنهضة العلم في مرحلته التالية التي أفضت إلى مرحلة العلم الحديث بجلال شموخها ورونق نسقها، ولئن كان مبدأ أرنولد توينبي
A. Toynbee (1889-1975) في دراسة التاريخ هو أنه لا توجد أمة في العالم يتأتى دراسة تاريخها بمعزل عن تواريخ بقية الأمم، فإنه لا يمكن دراسة مرحلة من تاريخ العلم، بمعزل عن دراسة المراحل الأخرى، والتفهم المنهجي لظاهرة العلم يقتضي أن نعطي كل مرحلة حقها ؛ لأن العلم أنبل مشروع ينجزه الإنسان طرا، إنه أعظم شأنا وأجل خطرا من أن تستأثر بإنجازه من ألفه إلى يائه حضارة معينة، أو مرحلة واحدة من مراحل التاريخ.
ولأنه لا يصح إلا الصحيح فقد حل الوعي التاريخي بفلسفة العلم - بعد طول غياب - وانحسرت - إلى حد ما - دعاوي التشويه الأيديولوجي لتاريخ العلم، وتنامى الاهتمام الأكاديمي به في العالم أجمع، وتجري الآن محاولات منهجية دءوبة لتتبع كل مراحله وصلت إلى الأصول الأنثربولوجية للعلم - كما أشرنا - مع اهتمام خاص بتاريخ العلوم عند العرب، للعوامل المذكورة فيما سبق. •••
في هذا الإطار تجتمع البحوث الأربعة التي تشكل متن الكتاب على الرغم من أنها أجريت في أزمنة متفاوتة. المبحث الأول: عن أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة، يحاول أن يلقي ضوءا على معبر من معابر انتقال العلم العربي إلى العلم الحديث في أوروبا. لم يوضع في المبتدأ كمصادرة على المطلوب، لكن لأن الرياضيات لها منزلتها المنطقية المعروفة التي تجعلها مسبقة وفوق كل المباحث الإخبارية، فضلا عن أن البحث يحوي بين طياته خطوطا عامة لمنهجية تأريخ العلوم من منظور مستقبلي، ولأن تاريخ العلم يجري عبر تفاعله مع البنيات الحضارية والمعرفية كما ذكرنا، كان البحث التالي عن الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في تراثنا، على اعتبار أن هذا هو القاعدة المعرفية التي انطلقت منها العلوم عند العرب. حاول البحث أن يلقي ضوءا على عوامل تدفقها في العصر الوسيط، وأيضا لماذا انحسرت وتوقفت ولم تواصل النماء والسيرورة في العصر الحديث؟ وكان لا بد من لقاء حي مع علمائنا القدامى، وتخيرنا اثنين: جابر والبيروني، لا جدال في تصدرهما العلم في عصرهما، وكلاهما تمثيل للطابع العالمي للعلم وحوار الحضارات وتفاعلها في رسم فصوله، جابر بن حيان في القرن الثاني الهجري بعقليته التي تداخلت فيها العناصر الإغريقية مع السكندرية والغنوصية والهرمسية والحرانية والإسلامية ...
وفي هذا الإطار كان ما أسداه للكيمياء وللمباحث الإمبيريقية، وأيضا كانت الهند رافدا دافقا غذت عقلية البيروني العلمية المكينة وليس اليونان فقط، لكن بقدر ما كانت عقلية جابر مشربكة بعناصر لا علمية، كانت عقلية العلم الثاني البيروني علمية على الأصالة، بحيث إن الرحلة بينهما تمثيلا للطابع التقدمي للعلم
1
صفحه نامشخص