بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
ژانرها
59
ذلك أن الإيمان القديم بحيوية الطبيعة دفع جابرا إلى تقسيم المواد الكيميائية إلى: أرواح وأجساد وأجسام. الأرواح تطير عن النار وعددها ست، وهي: الزئبق والزرنيخ والكبريت والنشادر والكافور والدهن، الأجساد هي المنطرقة، وعددها سبعة وهي: الرصاص الأسرب والرصاص القلعي والحديد والذهب والنحاس والفضة والخارصين، جميعها تمتزج مع أرواحها باعتدال، بمقادير متساوية. أما الأجسام فتختلط في معادنها الأرواح والأجساد على غير مزاج أو اعتدال. الكيميائي يمكنه أن يعطي كل جسم الطبع الذي يناسبه ليعتدل حاله، ثم ليصبح ذهبا. كذلك الطبيب يعطي كل جسم ما يناسبه ليعتدل حاله، وليصبح معافيا. إن التماثل قائم إلى أبعد مدى، بفضل ذلك البعد الحيوي فيطبق جابر تصورات التناسل والحمل والزواج والتعليم على المعدن، وكذلك الموت والحياة، ويرى المواد الغليظة الأرضية ميتة. أما المواد المنيرة فروحانية ... بكل هذا لا يختلف عمل الطبيب كثيرا - في نظر جابر - عن عمل الكيميائي ... فكان أن اجتهد هو في العملين معا.
وحتى في الطب ، يحتفظ جابر بحضور علمي رصين، ليظل ماثلا في ذاكرة السنوات العشر الأواخر من القرن العشرين وما تلاه، فاهتمامه بالطب جعله يخرج دراسة ناضجة عن السموم، الجيد منها والرديء وكيفية إيصالها للأبدان، وأسمائها والسموم المركبة والحوادث العارضة عنها في الأبدان، وكيفية الشفاء منها والأدوية الناجعة في هذا، والأحوال الميئوس من شفائها والسموم القاتلة توا، وقد قسم السموم إلى ثلاثة أنواع: حيوانية ونباتية وحجرية (أي من كيمياء الفلزات).
وجابر على أية حال اشتهر بقدرته العملية البارعة في وصف ترياق السموم، وفي شفاء العديد من الأمراض، وقد وصف أدوية، كما اعتنى بتركيب الحيوانات وتشريحها، ولكنه أولا وقبل كل شيء فاتح بوابة الكيمياء العربية وعالمها الأول - زمانيا وموضوعيا - سار في إثره الأعلام التالون - أبو بكر الرازي، وابن سينا، ومسلمة المجريطي، وأبو المنصور الموفق، والطغرائي، وأبو القاسم العراقي، والجلدكي ... •••
هو عقلية عملاقة إذن. كان قادرا على استقطاب الأبعاد المعرفية في عصره واستيعابها وتجاوزها، والرجال العظماء أخطاؤهم عظيمة، وإذا كنا قد بينا نفاذ بصيرة ابن حيان التجريبية المنهجية، نرجو أن يكون استكشافنا السابق لبعض الأبعاد المعرفية لكيميائه يحمل تفسيرا للخطل في شطحاته التي فاقت كل خيال، فقد رأينا انشغاله بالتنجيم والطلسم وتركيب المخلوقات والبشر.
من هذه الشطحات أيضا وصفه لتجارب بلهاء عديدة، منها على سبيل المثال: تجربة نستخرج بها زنبور النحل من ثور ميت، يفضل أن يكون أحمر اللون! وزعمه بأنه يعرف حيوانا بحريا عجيب الخلقة والطباع - ويسهب في وصفه - قادرا على الإبراء من جميع الأمراض، وكأنه بديل حي لإكسير الحياة.
ولن ينتهي بنا الحديث لو أحصينا شطحات جابر، التي تجعلنا نضرب كفا على كف، كلما تذكرنا أن القائل بها هو القائل بالدربة واستدلال مجرى العادة وكيفية تركيب حامض النتريك وخواص نترات الفضة وكربونات الرصاص ...
لقد كان جابر تمثيلا عينيا لميراث العقل العلمي في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، وفي الآن نفسه تمثيلا عينيا للدفعة الجبارة التي بدأت بها انطلاقة العلم العربي، ليواصل - فيما بعد - نماءه وتطوره، ويصل إلى النضج وذروة من أوج ذراه مع أبي الريحان البيروني.
المبحث الرابع
المنهج العلمي عند العالم النابغة أبي الريحان البيروني
صفحه نامشخص