تاریخ علم ادب
تاريخ علم الأدب: عند الإفرنج والعرب وفكتور هوكو
ژانرها
ودام قول فيكتور هوكو هو المعول عليه في الطريقة الرومانية إلى أن اشتهرت الطريقة الطبيعية (ناتوراليزم) في سنة 1860 على عهد الإمبراطورية الثانية، وقام أصحابها يناقشون فيكتور هوكو وشيعته وينتقدون عليهم، على أن الرجل وإن ظهرت له معجزات في آيات البيان، فهو ليس بنبي ولا تجب له العصمة عن الخطأ والنسيان، ومن هو الرجل الذي تحمد كل سجاياه؟ ومن هو المبرأ من كل عيب؟ وكفاه نبلا أنه خطا في الأدب خطوة للأمام ومهد الطريق لمن أتى بعده، ولولا ظهور الطريقة الرومانية لما ظهرت الطريقة الطبيعية، ولا حصل ارتقاء ونهضة في الأدب، ثم إن مقدمة كرومويل وإن بحث فيها المؤلف عن تاريخ الأدب، وبيان الخاصة المميزة لأدب الطريقة الرومانية عما سواه، فهي أحق بأن تكون تعريفا لنوع الدرام وحده، وهو فن من فنون الشعر والأدب.
وأما التعريف الشامل لجميع ما حرر من فنون الأدب على نهج هذه الطريقة المستحدثة منظوما كان أو منثورا، فهو ما يأتي: إذ من شرط التعريف أن يكون جامعا للأفراد مانعا من دخول الأغيار فيه، ولا يكفي أن يكون منطبقا على فرد من الأفراد فقط.
وتعريف الطريقة الرومانية تعريفا جامعا مانعا ليس بالأمر السهل، ولا يتيسر إلا بالنظر في الخواص الظاهرة والمشتركة بين جميع فنون الأدب المنسوجة على أساليب الطريقة الرومانية والمنشأة في قوالبها. (15) تعريف الطريقة الرومانية
الطريقة الرومانية هي أدب يبحث فيه عن مشاعر النفس وبدائع المخلوقات، وهذا الأدب من قسم الشعر الموسيقي أو الغنائي الممتاز بخاصته الشخصية كما سبق تعريفه، وبيان الفرق بينه وبين شعر الحماسة والدرام، فإذا نظرنا في أعراض النفس نجدها على نوعين أحدهما أعراض قائمة بالنفس كالشعور بالحب والرجاء، والشعور بالبغض واليأس، والشعور بالفرح والطرب والابتهاج، أو بالحزن والغم والانقباض ... والثاني انفعالات تحصل للنفس بواسطة الحواس الخمس وهي البصر، والسمع، والذوق، والشم، واللمس، فهذه الحواس منها ما هو حائز على الصفة التمثيلية للعالم كالبصر والسمع وهما بهذه الصفة آلات يبني الإنسان بها العالم الخارجي الذي يحمل صورته في نفسه، ومنها ما لم يحز على هذه الصفة التمثيلية بسهولة وبلا واسطة، كبعض الانفعالات العضلية وحاستي الشم والذوق عند أكثر الناس.
فأهل الطريقة الرومانية اكتفوا بالتعبير عن النوع الأول وعن القسم الأول فقط من النوع الثاني، وصوروا بدائع المخلوقات بصور يخال منها للقارئ أنه يسمع ويرى، كما يتضح لمن طالع وصفا من أوصاف فيكتور هوكو في مناظر الطبيعة وأصواتها، وفي بيان حنين النفس وانفعالاتها، وتركوا التعبير عن القسم الثاني من النوع الثاني؛ أي عن الحواس التي لم تحز الصفة التمثيلية لخلفائهم من المتأخرين، وهم أهل الطريقة الطبيعية الذين قادهم إميل زولا، فصور هذا الإمام في الأدب حقيقة كل ما بحث فيه وتكلم عنه ومثله تمثيلا حقيقيا، وعبر عن حاسة الشم بما كتبه عن الهال وهو سوق الخضر في باريس، وجعل القارئ يشم ما فيه من روائح السمك والقديد، فضلا عما يسمعه من جلبة البائعين والمشترين، ويراه من السلع والمركبات، وانهماك الغادي والبادي في الأخذ والعطاء.
ثم إذا نظرنا فيما حرره الشعراء والأدباء من أية أمة، وفي أي لسان نجد منهم من يتكلم عن شعور وتصور، ومنهم الذين يقولون ما لا يفعلون، وينظمون قصائد الغزل والرثاء، وهم لا يشعرون بشيء من الغرام أو التفجع، ويمدحون الممدوح قبل معرفته، ويصفون الحبيب قبل مشاهدته، ويهيمون في ذكر الطلول والرسوم وفي التشبيه بالشمس والقمر والترشيح بكثرة الرماد، وطول النجاد حتى يلتبس الأمر على السامع، فلا يدري هل القائل من أهل القرن الرابع عشر للهجرة أم من الذين مضوا قبل البعثة، فمن شرط السالك نهج الطريقة الرومانية أن يتكلم عن مشاهدة وتصور وشعور وإحساس وانفعال، وتأثر واعتقاد واقتناع، وإذا سمع العامي شيئا من كلامه في الحب مثلا قال: هذا كلام عاشق محروق.
وإلى ذلك أشار ابن رشيق فيما نقل عنه من كتاب العمدة بأن من بواعث الشعر العشق والانتشاء، ومن شروطه الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار، وكذا المسموع من غناء البلابل وطنين الأوتار، فاهتمامنا بانفعالات الشاعر التي ليست بانفعالاتنا، وبإحساسه الذي ليس بإحساسنا إنما هو لكوننا بشرا، والشاعر بشر مثلنا، فبيننا وبينه مشاركة في الطبيعة وفي منبع الحس والانفعال، ويزيد الشاعر عنا باقتداره على الإبانة عن المعاني الكامنة في نفسه ونفوسنا؛ لأن له سجية الشعر وملكة راسخة في التعبير عن شعوره وإحساسه. ولعل هذا مقصد ابن خلدون في قوله: «المعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى فلا يحتاج إلى صناعة، وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة، فالذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر.» قال الفيلسوف الألماني هيكل: «لا تكون شهوات النفس وعواطف القلب من معاني الشعر إلا إذا كانت عامة، متينة، دائمة.» بحيث يكون الشعر المشتمل على شهوة من شهوات النفس، أو عاطفة من عواطف القلب مؤثرا في كل من قرأه أو سمعه، ويكون هذا التأثير دائما في جميع الأزمان مثل الإيلياذة والأوذيسة وماها بهاراته ورامايانا المؤلفة قبل الميلاد بقرون كثيرة، ولا يكفي أن يكون الشعر مؤثرا على فرد أو أفراد معدودة في مجلس أو مجالس محدودة، وقول امرئ القيس: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» يؤثر على جميع الخبيرين بلسان العرب في عصرنا هذا وفي العصور الآتية، كما أثر على آبائنا الأولين في العصور الحالية، فالكلام العالي المتين المنسوج على منوال الطريقة الرومانية هو الذي تشخص فيه الإنسانية، وتأثيره على السامعين إنما هو من جهة عمومه وشموله في تصويره ما في سويداء القلب من العشق والغرام والهموم والأحزان، وفي وصفه المناظر المبهجة التي في الطبيعة، وبيان ما لها من الأشكال الغريبة البديعة، وفي استطلاعه حالة الإنسان وحظه من هذا العالم على حد قول الشاعر العربي:
سبحان من قسم الحظوظ
فلا عتاب ولا ملامه
أعمى وأعشى ثم ذو
صفحه نامشخص