تاریخ علم ادب
تاريخ علم الأدب: عند الإفرنج والعرب وفكتور هوكو
ژانرها
وازدحمت الشعوب والأمم على سطح الكرة، فتضايقوا وتخاصموا وانتشبت بينهم الحروب واصطدمت الممالك بعضها ببعض، وطغى قوم على قوم فأوجب هذا الطغيان مهاجرة الشعوب والأمم، وتغريبهم ورحلاتهم وتصور الشعر هذه الوقائع العظيمة، وانتقل بذلك من الأفكار إلى الأشياء وتغنى بالقرون والشعوب والممالك وصار حماسة وولد هوميروس. فهذا الشاعر في الحقيقة أحسن معرف للاجتماع الإنساني في القرون القديمة، وكل ما في هذا الاجتماع بسيط وحماسي، والشعر عندهم دين والدين شريعة؛ أي قانون، فبعد بكارة الدور الأول ظهرت طهارة الدور الثاني من أدوار الإنسانية، واستولى نوع من الوقار والاحتشام على الأخلاق البيتية والأخلاق العمومية، ولم تحفظ الشعوب من عوائد بداوتها إلا حرمة الغريب ورعاية ابن السبيل، وصار للعائلة وطن يربطها ونشأت محبة الوطن والدار وزيارة القبور، فالتعبير عن مثل هذا التمدن لا يمكن أن يكون بأشعار الحماسة.
وتقلبت أشعار الحماسة في أشكال كثيرة بدون أن تضيع خاصتها المميزة لها، فإذا تأملنا كلام الشاعر اليوناني بندار، وهو من أهل القرن الخامس قبل الميلاد والملقب بأمير الشعراء الغنائين لجودة قريحته في الشعر الموسيقي نجد كلامه كهنوتيا أكثر مما هو أبوي وحماسيا أكثر مما هو موسيقي، وفي هذا الدور الثاني من أدوار العمران ظهر المؤرخون، وجمعوا الآثار وأرخوا القرون ومع ذلك فظهور التاريخ لم يستلزم محو الشعر من الوجود، بل استمر التاريخ حماسة وكان المؤرخ هيرودوس كأنه هوميروس ثان، ومن نظر في روايات التراجيديا القديمة التي ألفها شعراء اليونان ومثلوها على مراسحهم تبينت له جليا أساليب شعر الحماسة ، ورأى علوهم في كل شيء وتجاوزهم الحد في العظمة والجبروت والهيبة والفخامة، فالأشخاص الممثلة في هذه الروايات هم من الجبارين وأنصاف الآلهة والآلهة، ومواضيع الروايات أحلام وهواتف ومقدرات وألواحها تعداد نفوس وتشييع جنازات وحروب وغارات، وما كان ينشده الرواة من الأشعار كان يشدو به الممثلون، ففن التمثيل عند اليونان كان مقتصرا على هذا فقط.
وكانوا يبنون مراسحهم على سفح الجبل بلا سقف يقي حر الشمس ومطر السماء، وإنما هي درجات بعضها فوق بعض على شكل نصف الدائرة المسمى عندهم (أمفيتياتر)، وموضع التمثيل على الأرض في صحن المرسح وهو غاية في السعة والجسامة، ويستوعب تمثيل معبد بفنائه وسراي بدوائرها وقصورها وأبراجها ومدينة بأسواقها، ومعسكر بمهماته وكذا محل المتفرجين يستوعب ثلاثين ألف متفرج، مع أن مراسح الأوروبيين لا تستوعب الأربعة آلاف، والمرسح الفرنساوي في باريس لا يستوعب إلا 1400 ومرسح الأوبرة فيها يستوعب 2200، ومرسح الشاتلة وهو أكبر المراسح في باريس يستوعب 3600، وكان التمثيل عند اليونان يبتدئ في الصباح، ولا ينتهي إلا في المساء، وربما مثل في المرة الواحدة روايتين أو أكثر، وكان الممثلون يفخمون أصواتهم، ويعظمون قيافاتهم ويتبرقعون بالبراقع المناسبة للرواية حتى يحاكي الواحد منهم الجبار العنيد، أو البطل الصنديد الذي يمثل دوره، فيمثل برومته بن تيتان وهو مقيد بالسلاسل فوق جبل قفقاس والنسر يأكل في أحشائه؛ لأنه صور من طين الأرض على هيئة الإنسان ثم أراد أن يأخذ من نار السماء أو نورها؛ لينفخ فيه الروح فأغضب الآلهة وجازاه كبيرهم بذاك الجزاء على ما اقترفت يداه.
ويمثل أيضا أنتيغون وهي في أعلى الأبراج تفتش عن أخيها الذي كان في معسكر الأعداء من الفينيقيين، وقد ذكر خبرها الشاعر سوفوقل في رواية نظمها قبل الميلاد بأربعمائة سنة، وسماها «أديب الملك»، ونسج على منوالها الشاعر الفرنساوي فولتير، وسمى روايته الفرنساوية بهذا الاسم أيضا، وأديب هذا ابن ملك من ملوك اليونان قتل أباه وملك على قومه، وتزوج بأمه بدون علم منه، فلما وقف على حقيقة الأمر لم يتحمل هذه المصيبة، فقلع عيني نفسه بيديه وخرج من ملكه هاجا وابنته أنتيغون تقود به.
ويمثل الممثلون أيضا على مراسح اليونان مركبا كبيرا ينزل منه خمسون أميرة بما يتبعهن من الخدم والحشم، كما في الرواية التي ألفها الشاعر أيشيل قبل الميلاد بخمسة قرون، فكان يجتمع على مراسحهم فخامة البناء مع فخامة الكلام، ويمتزج التاريخ بالدين، وكان أول المضحكين عندهم من الكهان، وكانت ألعابهم احتفالات دينية ومواسم أهلية.
فجميع الروايات المحزنة اليونانية هي من أشعار الحماسة، وجميع الشعراء المتقدمين عيال على هوميروس ورواياتهم مستنتجة من الإلياذة والأوذيسة، ومواضيع الجميع منها يعود إلى محاصرة تروادة. (13) الديانة المسيحية والأدب
ثم أخذ هذا الدور الثاني من أدوار الشعر يتقلص، ويعتق كما تعتق العمران القديم، وجاء الرومانيون، ونسجوا على منوال اليونانيين، ونسخ شاعرهم فيرجيل عن هوميروس وانتهى دور الشعر الحماسي وفتح دور جديد للشعر والتمدن بظهور الديانة المسيحية، فالديانة الوثنية مادية ظاهرية والديانة المسيحية روحانية باطنية، فلما حلت إحداهما محل الأخرى، ودخل الإيمان بالمسيح قلب التمدن القديم قتله، ووضع في جنازته المتعفنة جرثومة التمدن الحديث، وثبت بتعاليمه دعائم الأخلاق، وأول حقيقة جاء بها هذا الدين هي القول؛ بوجود حياتين للإنسان: إحداهما فانية والثانية خالدة. إحداهما على الأرض والثانية في السماء، وأعلم الإنسان بأنه مركب من حيوانية ونطق؛ أي من جسد ونفس، وأنه نقطة الفصل المشترك وهو في علم الهندسة النقطة المشتركة بين خطين، والخط المشترك بين سطحين، والسطح المشترك بين جسمين، أو بأنه الحلقة المشتركة بين سلسلتين من المخلوقات إحداهما تتألف من الماديات، والثانية من الروحانيات، إحداهما تبتدي من الجماد وترتقي للإنسان، والثانية تبتدي من الإنسان وتصعد إلى الله.
ربما فقه بعض الحكماء المتقدمين شيئا من هذه الحقائق، ولكن من أوضحها وجلاها الإنجيل الشريف. فأصحاب الديانة الوثنية خبطوا خبط عشواء وساروا في ظلام الليل على غير هدى، ولم يفرقوا في طريقهم بين الحق والباطل، والبعض من فلاسفتهم أفاض من نبراس حكمته على الأشياء نورا طفيفا لم يضئ منها إلا الجانب الأصغر، وزاد في الظل الممتد وراء جانبها الأكبر، فنشأ من ذلك جميع تلك الأشباح والخيالات التي وردت في فلسفة المتقدمين وأساطيرهم؛ لأن إضاءة تلك الأشياء بتمامها لا يتيسر إلا بنور الحكمة الإلهية، فلما جاء أمر الله قام النور الإلهي مقام هاتيك الأنوار المرتجة التي أتت بها الحكمة الإنسانية؛ وكان فيثاغورس وبقراط وسقراط وأفلاطون سرج الليل، فجاء المسيح ابن مريم (عليهما السلام) ضوءا للنهار، فحيث كانت عبادة الأوثان ديانة مادية لم يخطر على بال الأقدمين التفريق بين الروح والجسد كما في الديانة المسيحية؛ بل أوجدوا شكلا وهيئة لغير الماديات وشخصوا المعنويات، فكل شيء عندهم مرئي، محسوس، متجسد، وآلهتهم مفتقرون لسحابة يختفون فيها عن الأبصار، فهم يأكلون ويشربون وينامون، وتصيبهم الجراح فتسيل منهم الدماء، ويلقى بهم من السماء إلى الأرض فيتحطمون كما حدث لفولكين إله النار حينما حملت به أمه من «جوبيتر» المشتري كبير الآلهة، ووضعته في أشنع صورة فاستنكفت منه أن يكون ابنها، ورمت به إلى الأرض فهبط على جزيرة ليمن من جزر الممالك العثمانية وانكسرت رجله، وذهب لبركان أتنا ووضع فيه كور الحديد؛ فهو يعرج من وقعته ويشتغل في صنعته أبد الآبدين ودهر الداهرين.
ومن هؤلاء المعبودات ما هم آلهة، ومنهم ما هم أنصاف آلهة فقط، ودنياهم معلقة بسلسلة من الذهب يمسكها كبير الآلهة، وشمسهم يجرها في مركبه أربع رءوس من جياد الخيل، وجهنمهم هاوية عميقة يعين الجغرافيون فوهتها على سطح الكرة، وجنتهم على جبل أوليمبوس في تساليا يسكنها الآلهة ويتلذذون بنعيمها، فالديانة الوثنية عجنت جميع المفتريات من أساطيرها في طينة واحدة، وصغرت آلهتها وكبرت أوادمها حتى تشابه الفاني بالحي الذي لا يموت، فالأبطال الذين تكلم عنهم هوميروس في أشعاره كادوا يكونون أقرانا للمعبودين.
فأبو الفوارس أجاكس غضب على جوبيتر وهو راجع من محاربة تروادة، وأعلن الحرب عليه وعلى جماعته، وأشيل عنترة الحروب اليونانية يضاهي في القوة والشجاعة المريخ (مارس) إله الحرب وجلاد الفلك، بخلاف الدين المسيحي فإنه فرق بين المادة والروح، وحفر واديا عميقا بين الجسد والنفس، وواديا آخر بين الإنسان والآلهة، فبظهور النصرانية وبنشر تعاليمها دخل قلب الناس شعور جديد لم يكن معروفا للمتقدمين، واتسعت دائرة هذا الشعور عند المتأخرين اتساعا غريبا. فهذا الشعور هو الماليخوليا؛ أي السوداء، وهي أشد من الوقار المستولي على قلوب القدماء وأخف من الحزن. فالنصرانية وضعت في طبع المتدينين بها المزاج السوداوي، وجعلت الصلاة للفقير كالغنى للغني، وأسست بين الناس المساواة والشفقة والحرية، فمنذ أدخل الإنجيل النفس بين الحواس ووضع الخلود وراء الحياة أصبح المتمسكون به يرون الأشياء بشكل جديد.
صفحه نامشخص