تاریخ علم ادب
تاريخ علم الأدب: عند الإفرنج والعرب وفكتور هوكو
ژانرها
ونظم أحد الأدباء في العام الماضي رواية صور فيها الأمراض الزهرية، والعلل الإفرنجية التي تحدث من الانهماك في العهر وشرح ذلك على مرسح اللعب شرحا أليق أن يكون في غرفة الطبيب المخصصة لمعاينة الأمراض السرية، فمنع المراقب تمثيلها في باريس كما منع رقصة الشربة والشمعة من المرسح المصري في المعرض الأخير، ويقال: بأن الرواية المذكورة في غاية من البلاغة وباعثة على التعفف.
ويشترطون في الطريقة المدرسية شرطا أخيرا وهو أن تكون المؤلفات فيها ملية قومية؛ أي مصورة لأفكار القوم الفلسفية ولأحوالهم الاجتماعية، فإن كان التأليف الأدبي وضع تقليدا للأجانب فلا يكون مدرسيا، فبناء عليه يكون هذا الشرط مرعيا في المؤلفات التي استخرج صاحب مجاني الأدب زبدتها في كتابه؛ لأنها من المؤلفات المختصة بالعرب قبل الإسلام وبعده، بخلاف المؤلفات العربية الموضوعة في زماننا على الأسلوب الإفرنجي، وربما كانت مترجمة عن لسان من الألسنة الأجنبية، فإنها ليست على وفق الطريقة المدرسية، مع ما فيها من الفوائد التي سنذكرها في بحث الطريقة الرومانية.
فهذه زبدة الأقوال وخلاصة القواعد التي أسست عليها الطريقة المدرسية، فكان من أتى من الأدباء بعد عصر لويس الرابع عشر، وهو القرن السابع عشر الذي بلغ اللسان الفرنساوي فيه درجة الكمال، لا يخرجون في النظم والتأليف عن الأساس الذي وضعه مشايخ الطريقة المدرسية، ولا عن الأساليب التي راعوها، ويتكلفون لذلك الصعاب ويعانون طول الدرس ومراعاة القواعد؛ ليتمكنوا من تحسين العبارة، ومن تطبيقها على ما يتخيلونه من التشابيه والاستعارات ويلتزمون عدم الخروج عن أوزان العروض المصطلح عليها بين قومهم وجماعتهم، ويجعلون كل بيت في الغالب كلاما تاما، ولا يأتون بشيء من الكلام السوقي المبتذل ولا يصورون رذيلة من الرذائل، ولا سوأة من سوآت الإنسان وعوراته، ولا يصفون شيئا من بؤس المعيشة، أو سفلة الحياة الدنيا، وينتخبون مواضيع مؤلفاتهم من تواريخ القرون الأولى أي: من تاريخ اليونان، والرومان، والعبرانيين، فكان كلامهم مشتملا على التخيل الشعري وعلى التعقل المشروط وجودهما في الطريقة المدرسية، ولكنه بارد ممل بسبب ما فيه من التصنع والتعمل، ومن مراعاة تلك الشروط والقيود التي قيدت عقول أصحابه ومنعتهم عن الخوض في مضمار الوسط الذي هم فيه، ويشعرون به ويريدون البحث عنه فيمنعهم مراعاة تلك القواعد والأساليب الإنشائية، فمؤلفاتهم مع استيفائها للشروط المدرسية لم تحدث تأثيرا على النفس، ولا تهييجا للعواطف كمؤلفات الطريقة الرومانية لعدم مراعاة شرط الإحساس القلبي فيها؛ ولذا قالوا: بأن راسين، وقورنيل، ومولير وأهل طبقتهم لو أطلقوا العنان لأقلامهم ولم يقيدوها بسلاسل تلك الشروط المدرسية لأتوا بأحسن مما جاءوا به من درر الألفاظ، وغرر المعاني.
فهذا ما كان عليه فن الأدب الفرنساوي قبيل الانقلاب الكبير؛ ولذا كان الكثير من الكتبة لا سيما النشأة الجديدة يتذمرون من تقيدهم بتلك القيود المدرسية، ويرون أنفسهم كالمقعد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه، فكان مثلهم كمثل غلام في مكاتبنا أراد التحرير لوالديه فلم ير أمامه من نموذج الإنشاء سوى ما طبع في الأستانة من رسائل الخوارزمي، والبديع الهمذاني، وكانت هذه النشأة الجديدة ترى أيضا قصور الطريقة القديمة عن حقيقة البلاغة، وهي مطابقة الكلام للواقع ومقتضى الحال؛ لأن أصحاب الطريقة المدرسية مع محافظتهم على التعقل في الكلام كادوا بكثرة تشابيههم واستعاراتهم لا يسمون الأشياء بأسمائها الحقيقية، ويستعملون الحشو ويتكلفون للعبارات التي لا لزوم لها، فإذا أراد أحدهم أن يعين الوقت وهو يكتب قصة أو رواية، ويقول مثلا قبل مرور ساعة من الزمان دبج عباراته وكثر استعاراته، وقال: «قبل أن يتم العقرب خطاه المنظومة، وينقل على مينا الساعة المجلاة ستين خطوة موزونة ...» إلخ.
كما فعل الشاعر الفرنساوي أندره شينيه، وهو خاتمة الشعراء السالكين منهج الطريقة المدرسية وأبلغهم كلاما، وكانت ولادته في الأستانة وأمه رومية، فارتحل إلى باريس وصار فيها إمام أهل طبقته، فلما قتل سنة 1794م مع من قتل من أفاضل الرجال وأكابرهم بآلة الكيليوتين انقرضت الطريقة المدرسية بعد أن كانت قواعدها وأساليبها هي المرعية بين الأدباء، يتبع فيها الخلف أثر السلف، ومع اعتراف النشأة الجديدة بما فيها من القصور والخلل لم يقدم أحد منهم على تركها، ولا الخروج عنها لأوائل القرن التاسع عشر.
فقبل هذا التاريخ كان جمهور الناس، وعوام الأمة في تسيب وغفلة لا يقيدون على المصالح انتظمت أو لم تنتظم، ويدعون الأمور تجري في مجراها حسنا كان، أو قبيحا، نافعا أو مضرا، كما يجري الماء في الأرض الطيبة بدون حفر النهر ولا كريه، وكانوا يستعملون هذا التعبير «ليسه أله» كما نستعمل تعبير «طيب معليش»، ولا يهتمون بالمسائل العمومية والاجتماعية كأنها لا تعنيهم ولا يعود خيرها وشرها عليهم، فلما حدث الانقلاب الكبير في فرنسا سنة 1779م تغيرت البلاد، ومن عليها في بضع سنين، وانقلبت أفكار الناس وعاداتهم وأخلاقهم، وزال عنهم التسيب والغفلة والكسل والرخاوة، وشغفوا بحب الانتظام والدقة، فتقيدوا بالمسائل وتبصروا بالأمور، وكانوا صامتين ناصتين، مفكرين متعقلين لا يضيعون أوقاتهم في ما لا فائدة فيه، ولا يشتغلون بالعبث من اللهو واعتادوا على الآداب العسكرية في انتظام الحركات والسكنات؛ لأن الأمة بأسرها حتى النساء والصبيان كانوا بأجمعهم تحت السلاح الكامل يكرون ويفرون من غرب أوروبا إلى شرقيها، ومن قارة إفريقيا إلى قارة آسيا؛ أي من مصر إلى سوريا، فكان الواحد منهم لا يهمل في قيامه وقعوده أمرا ولا يغفل في ملابسه عن زر، ولا يترك فيها فتقا بغير رتق وإذا وقف استقامت قامته؛ لأن الإنسان مستقيم القامة، وإذا مشى أو ركب لا يتوكأ على الخدم كما تفعل أكابر بعض الأمم دلالا وعظمة، بل اعتمد في حركاته على نفسه، وانتزع من عقولهم أكثر الخرافات والأباطيل التي تتولد في الإنسان عادة، ويكبرها الوهم في مخيلته ما دام في مكانه لا يخرج منه، ولا يسيح في الأرض فينظر كيف كانت عاقبة المتقين.
فانقلاب الأخلاق، والعادات، والأطوار استلزم انقلاب اللهجة وتغيير التعبيرات؛ ولذا كان العصر الجديد مفتقرا لأسلوب جديد في النظم، والنثر وكان رجال العصر يترقبون حصول انقلاب في الأدب كما حصل في السياسة والعادات، فولد فيكتور هوكو وللعصر الجديد سنتان، وصار رجل هذا الانقلاب الأدبي. (8) الطريقة الرومانية
أسلوب الطريقة الرومانية ابتدأ ظهوره في مؤلفات شكسبير إمام الأدب وأمير البلاغة، ثم نسج على منوال هذه الطريقة أدباء الألمان وراجت بضاعتهم فيها، ثم جاء فيكتور هوكو وكشف أساس الطريقة، وأوضح مزاياها وصار إمامها المشار إليه بالبنان.
الأدب عند الإنكليز
فالإنكليز كانوا في مقدمة الأمم الأوروبية التي انتبهت من غفلة القرون الوسطى، وبادرت إلى إصلاح لسانها ووضع فنون الأدب والعلم فيه، وقبل ظهور الأدب الإنكليزي كان الإنكليز أنفسهم يعتنون بأشعار المداحين، وشعراء الربابة من الفرنساويين، وكانت اللغة الفرنساوية لسانهم الرسمي على عهد ملكهم كليوم الفاتح (1027-1087)، ومن خلفه عليهم من السلالة النورماندية؛ ولذا بقيت الكلمات الفرنساوية مستكثرة في اللغة الإنكليزية شأن الكلمات العربية في التركية والفارسية، ثم اشتغل الإنكليز بتهذيب لغتهم وإصلاحها، فأصبحت اليوم من أغنى اللغات الجديدة أدبا بعد اللسان الفرنساوي، ونبغ فيهم وليم شكسبير (1564-1616م)، وجمع في مؤلفاته ما تفرد به قورنيل، وراسين من فن المبكيات وما اختص به مولير وبومارشه
صفحه نامشخص