تاریخ علم ادب
تاريخ علم الأدب: عند الإفرنج والعرب وفكتور هوكو
ژانرها
وخرج فيكتور هوكو من باريس إلى جبال البيرنة على حدود إسبانيا يروض فيها أفكاره، ويزيل أكداره، ولم يلبث فيها كثيرا حتى فاجأه مصابه ببنته، وكانت في التاسعة عشرة من عمرها، وقد فارقها وهي في أثواب العرس فخرجت بزوجها تتنزه في زورق على نهر السين في مدينة فيلكيه، فانقلب بهما الزورق وماتا غريقين قبل أن يمضي على زفافهما أربعة أشهر، وزوجها شارل فاكيري هو أخ الأديب المشهور أوغست فاكيري، فزاد كدر فيكتور هوكو، واختبر بهذه المصيبة آلام الحياة وهمومها ودخل الحزن قلبه ولعلمه أفانين الرثاء، فأجاد وأبدع في المراثي التي نظمها، وأكثرها مدرج في كتاب «التأملات». غير أنه من هول هاتين المصيبتين وهما موت ابنته، وعدم رواج روايته يئس في بادئ الأمر من هذا العالم الفاني، وانقطع رجاؤه بالله وضعف اعتقاده، ورفض الشعر مدة، وأقبل على الإشغال بالعلوم السياسية، ودرس المسائل الاجتماعية، فنشر كتابا عنوانه «مكاتيب على الرين» حاول فيه حل مسألة الموازنة الأوروباوية، وتوهم تقسيم ممالك أوروبا بين فرنسا وبروسيا، وأراد تقليد لامارتين في الدخول لميدان السياسة - لأن الشاعر لامارتين بعد أن خدم طويلا في كتابته السفارات الفرنساوية، وصار سفيرا في طوسقانة وأتينة ترقى إلى مسند الوزارة، ولما زار الشرق نال شرف المثول بين يدي السلطان عبد المجيد خان، وحاز على الالتفات الشاهاني، وأحسن إليه بأبعدية «جفتلك» في ولاية أزمير، فأقام فيها وحرر تاريخ الممالك العثمانية في ثمانية مجلدات - ففتح لويس فيليب باب الحكومة لفيكتور هوكو، وعينه عضوا لمجلس الأعيان سنة 1845، فجلس مع أصحاب اليمين، وانضم لحزب الأكثرية، وهو حزب الوزارة، وقال بقولهم، وتكلم في بعض المسائل فخطب خطبة في «ماركة الفابريكات»، وأخرى في «المسألة البولونية»، ومدح البابا الحر وطلب إرجاع عائلة بونابرت، فلم يكن لكلامه تأثير على أعضاء المجلس كما كان لأشعاره، ورواياته تأثير في نفوس الجمهور عند صدورها على المراسح من أفواه الممثلين، والمشخصات؛ لأنه لم ينل من القوة النطقية ما ناله من القلمية والفكرية.
ولما قوي حزب الجمهورية، وحدث انقلاب سنة 1848، وأنزل لويس فيليب عن عرش الملك، وأعلنت حكومة الجمهورية الثانية على فرنسا انتخب فيكتور هوكو عضوا في مجلس الأمة من إبالة السين، وأسس في تلك السنة جريدة الوقائع (إيفينمان)، وكتب عليها «البغض الشديد للفوضوية، والهيام في الشعب والحنو عليه»، وكان يعينه في تحرير الجريدة ابناه شارل وفرنسوا، وأصدقاؤه من أفاضل المحررين مثل بول موريس، وأوغوست فاكيري، وتيوفيل غوتيه والبر لوقروا وغيرهم، وكان المترشح لرئاسة الجمهورية اثنين وهما نابوليون الثالث، والجنرال كافينياك فمالت جريدة الوقائع في خطتها السياسية لنابوليون؛ لأن فيكتور هوكو كان يترنم في قصائد «المدح في العمود»، ويطرب لذكر مجد نابوليون الأول؛ ولذا فإنه أحب في بادئ الأمر ابن أخيه نابوليون الثالث، وظن أنه يتقرب إليه ويكون مستشارا له فرجحه في الانتخاب على الآخر، واكتسب نابوليون الثالث أكثرية الأصوات، وكانت تزيد على خمسة ملايين ونصف مليون، فأعلن رئيسا على الجمهورية، واستلم زمام الإدارة ولم يلتفت لفيكتور هوكو، فلما خاب ما أمله الشاعر انقلب عن أصحاب اليمين إلى أصحاب الشمال، وصار من أكبر رؤساء الحزب المخالف فاتهمه العقلاء بأنه مذبذب يتردد بين اليمين والشمال، ودافع عنه أصحابه بقولهم: إن الشاعر لا يهتم بالأحزاب، وإنما يرى مصلحة الأمة فيسير معها، وكان كلما خطب في المجلس خطبة شددوا عليه النكير وذكروه بسوابق أعماله وأشعاره، ولما تمت الرئاسة لنابوليون مالت نفسه للبس التاج، وشرع في إعداد المعدات وتهيئة الأسباب، فتظاهر فيكتور هوكو له بالعداوة، ونشر في تقبيح سياسته فصولا، وعرض باسمه في جريدة الوقائع، فسماه نابوليون الصغير فاتهم مراقب الجرائد ابنيه المحررين لتلك الجريدة وحاكمهما وألقاهما في السجن، ثم استبد نابوليون بالأمر وأجرى حادثة 2 ديسمبر سنة 1851، وألقى القبض على زعماء الحزب الجمهوري وجميع المتهمين بمخالفة السياسة الإمبراطورية، وكان اسم فيكتور هوكو في رأس قائمة المتهمين، فساعدته حبيبته الممثلة جوليت دروه على الاختفاء، واستحصلت له على تذكرة مرور، فخرج من باريس فارا؛ وهنا تم الدور الأول من أدوار حياته.
الدور الثاني: وهو مدة وجوده منفيا من سنة 1852 إلى رجوعه لباريس سنة 1870
بعد أن فر فيكتور هوكو من باريس تجاوز الحدود الفرنساوية، وأتى بروكسل عاصمة البلجيك، وكان في غاية الضيق من قلة النقود، فحرر لزوجته يوصيها بالتدبير والتقتير، ويعرفها بأن مصروفه في الشهر لا يتجاوز مائة فرنك، وأقبل على التحرير، والتأليف وهو يستشيط غضبا فنشر كتابه «نابوليون الصغير»، وكان أول صاعقة من الصواعق التي رماه بها، ثم نشر «تاريخ جرم»، فتهافت الناس في فرنسا وعموم أوروبا على مطالعة هذين الكتابين، فمنع نابوليون دخولهما لممالكه، وأمر سفيره في بروكسل بأن يطلب من حكومة البلجيك إبعاد فيكتور هوكو عنها، فلم تجسر الحكومة على ذلك إلا بعد أخذها قرار مجلس النواب، فدعته للخروج فذهب إلى جزيرة جرسي التابعة لإنكلترة، وهي جزيرة في بحر المانش بين فرنسا وجزائر بريطانيا العظمى، وجلب إليها عائلته، وكانت حبيبته جوليت سبقتهما، وأقامت معه في بروكسل، وشاركته في السراء والضراء، وكان في ضيق من جهة المعاش، ولم يكن معه إلا سبعة آلاف فرنك فعرف الجوع بقوله: «إن المخمصة تثقب في قلب الإنسان ثقبا وتملأه بالحقد»، ونشر كتاب «القصاص» سنة 1853، وكان صاعقة على نابوليون أشد من الأولى، وراج رواجا عظيما في فرنسا وأوروبا، وربح ملتزم طبعه في بروكسل ربحا وافرا لم يعد منه على المؤلف إلا اليسير .
ولم يزل نابوليون الثالث يضطهد رجال الحزب الجمهوري، وينفيهم من الأرض، فعارضه فيكتور هوكو ونظم عدة قصائد في وصف حالة أولئك المضطهدين الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وعدوانا، فطلب سفير فرنسا في لوندره إخراج هوكو من جزيرة جرسي وإبعاده، فأخرجته الحكومة الإنكليزية إرضاء لنابوليون، ولكنها لم تضيق عليه، فذهب إلى جزيرة كيرنيزي وهي بجوار الجزيرة الأولى في بحر المانش وتابعة مثلها للإنكليز، واشترى فيها دارا خربة مهجورة مبنية على صخرة عالية مطلة على الأوقيانوس المحيط، وتسمى «هوت فيل هوس»، فرممها وسكنها واتخذ الطبقة العليا منها غرفة لأعماله، فكان يشتغل فيها بالنظم والتأليف، ويفكر في تقلبات الدهر وأحوال العالم، وبصره شاخص إلى لجة البحر المحيط، وكان يعينه في التحرير والمطالعة ابناه وزوجتاه وصاحبه الشاعر أوغست فاكيري، فنشر سنة 1856 كتاب التأملات، وعرفه بسانحات البال، ثم أخذ يسلي همومه بمطالعة أخبار المتقدمين، ودرس سير الإنسان في مدارج الترقي والعمران، فنشر القسم الأول من كتاب «سير الدهور» سنة 1859، ثم ألف قصته الشهيرة المترجمة ب «البؤساء»، وكان له صديق حميم، وهو موسيو لوقروا ناظر البحرية في الوزارة الفرنساوية السابقة؛ أي وزارة الموسيو ميلين، فكان هذا الأديب يعين الشاعر على طبع مؤلفاته في البلاد الأجنبية، فلما بعث إليه بالمجلدين الأولين من كتاب البؤساء باعهما لملتزم الطبع في إنكلترة بمبلغ قدره 125 ألف فرنك ذهب إنكليزي.
ولما نشر هذا الكتاب سنة 1862 أقبل المترجمون على ترجمته، ونشروه في تسع لغات من لغات أوروبا في آن واحد، وكان أصحاب المطابع تستدعي الموسيو لوقروا من جميع الجهات في إنكلترة، وألمانيا، والنمسا ليشتروا منه حق الترجمة والطبع، ولما ذهب إلى لوندره عند الكتبي الشهير في بترنوستر رود سأله بعنف: كم تطلب بحق نشر كتاب البؤساء في اللغة الإنكليزية؟
فأجابه: ثلاثة آلاف ليرة إنكليزية، فتناول دفتر الشك، وحرر المبلغ والاسم، وقال له: - خذ نحن على وفاق
فيكتور هوكو وحفيداه.
فسعد حال فيكتور هوكو من جهة المعاش، وذهب عنه الضيق، فنظم داره، وغرس أرضها بالأشجار والرياحين، وطار ذكره في العالم المتمدن، وقصده الزوار، وكاتبه الرجال، وكان البعض يحرر عنوانه «فيكتور هوكو في الأوقيانوس»، فكانت المكاتيب تصله بهذا العنوان المبهم لسعة شهرته، واشتهر اسمه لاقترانه باسم نابوليون، وكبره البعد والاعتزال في مخيلات الناس حتى اعتقدوه من أكبر العقول البشرية، وكانت العيون ترقب طلوع مؤلفاته كما ترقب شمس الشتاء، وفي سنة 1864 نشر كتاب «وليم شكسبير» في الفلسفة، وبعدها بسنة نشر ديوان «أغاني الشوارع والأحراج»، وفي سنة 1866 نشر قصة «المشتغلين في البحر»، ووصف فيها ما يكابده الفلاحون من المشاق وما يتورطون فيه من الأخطار، وفي سنة 1869 نشر قصة «الإنسان الضاحك»، ولم يأل جهدا وهو في تلك الجزيرة عن الانتصار للأقوام الذين غدر بهم الزمان، ورماهم سوء الطالع بالخسران، وفعل ما فعله فولتير وهو في فيرين، فدافع عن عصاة أيرلاندة وعن مكسميليان إمبراطور المكسيك، وهو أخ إمبراطور النمسا أغراه نابوليون الثالث على لبس التاج، وأمده بالعساكر الفرنساوية ثم تخلى عنه، فحاكمه المكسيكيون وقتلوه.
ثم إن المسائل العائلية أخلت براحة الشاعر وأقلقت أفكاره، وذلك أن ابنته عادلة أحبت قومندان المركب المحافظ على الجزيرة، وتزوجت به رغما عن والدها، وذهبت معه إلى الهند منشأ الطاعون ومهب الريح الأصفر، فمات فيها وعادت لفرنسا مختلة الشعور سنة 1872، فأدخلوها البيمارستان مثل عمها وهي التي ورثت أباها، وفي سنة 1868 توفيت زوجة فيكتور هوكو في بروكسل بعد أن كف بصرها، وذهب ابناه في السنة التالية إلى باريس مع صاحبهما أوغست فاكيري؛ لينشئوا فيها جريدة «رابل» وينددوا بالحكومة الإمبراطورية، وذهب فيكتور هوكو إلى بلاد سويسرا؛ ليحضر مؤتمر لوزان ويخطب فيه خطبته المشهورة، ولما جرت الانتخابات في أوائل سنة 1870 نشر فيكتور هوكو رسالة اعتراضية عنوانها «لا»، ثم انتشبت الحرب بين فرنسا وبروسيا، ودارت الدائرة على نابوليون الثالث، فسلم سيفه في ميدان القتال إلى ملك بروسيا، وطار الخبر إلى باريس، فاجتمع رؤساء الحزب الجمهوري في دار البلدية، وأعلنوا الحكومة الجمهورية مكان الإمبراطورية في 4 سبتمبر سنة 1870، وهي حكومة الجمهورية الثالثة الحالية، ولم يعد مانع لفيكتور هوكو من الرجوع إلى فرنسا، وبذلك انتهت أيام نفيه.
صفحه نامشخص