تاریخ علم ادب
تاريخ علم الأدب: عند الإفرنج والعرب وفكتور هوكو
ژانرها
وكان الأمر كما قال، فإن عبد الرحمن بعد فتحه بوردو رأى الأهالي مائلة إليه، ووعدوه بالتسليم والانقياد وشوقه بعض رؤسائهم إلى فتح تور وبوانيه لما فيهما من الأموال والخيرات؛ لأن البلاد لم تكن في ذاك الوقت غنية ومعمورة كما هي اليوم، وإنما الأموال كانت مدخرة في الكنائس، والأديرة، وقصور الحكام الجبابرة، فتجاوز عبد الرحمن بالعسكر نهر غارون ووطئ بخيله ورجله تلك الأراضي الخصبة، والكروم التي يعصر فيها أحسن خمر في الدنيا، وعبر نهر دوردونيا وهو يجتمع في نهر غارون بقرب بوردو، ويسميان حينئذ نهر جيروند كما يجتمع الفرات، ودجلة ويقال لمجتمعها: شط العرب. ويصب لاجيروند في المحيط الغربي عند مدينة روايان الشهيرة بحماماتها البحرية، والتي ينسب إليها سمك روايان المشابه للسردين. وتسمى ضفة لاجيروند اليسرى من بوردو إلى البحر أرض ميدوق، وفيها شاتو لافيت، وشاتو لاتور، وشاتو مارغو وجميع كروم العنب والقصور التي يعصر فيها أطيب الخمر، وتتلى أسماؤها المتنوعة على الزجاجات التي تباع في أوتيلات الأزبكية، وتفتح على موائد أعاظم الرجال، وعلى شاطئ نهر غارون قبل دخوله بوردو أرض سوتيرن، وفيها شاتو أبكيم وبقية القصور التي يعصر فيها الخمر الأبيض، الذي يشرب في أوائل الطعام عند أكل لحوم السمك.
ولما وصل عبد الرحمن مدينة أنكوليم وجد جيشا من الإفرنج، ففرق جمعهم ودخل المدينة منصورا ظافرا ، وفي غربيها مدينة كونياك المنسوب إليها خمر الكونياك المعروف، وظل عبد الرحمن سائرا بعساكره المظفرة في تلك المروج والغابات الكثيرة المياه، وكانت كجنات تجري من تحتها الأنهار بالنسبة لصحاري أفريقية ولجزيرة العرب، والفرسان ترتع وتلعب على خيولها ومعهم نساؤهم وأولادهم، حتى وصلوا مدينة بوانيه ففتحت لهم أبوابها، ويزعم مؤرخو الإفرنج أن العرب سلبوا ما في كنيستها من أواني الذهب والفضة والأقمشة المزركشة، والمنصفون من هؤلاء المؤرخين يعترفون للعرب بالعدل والحق، والرفق بالمغلوبين. ثم عبر عبد الرحمن نهر فينا المار بأيالة فينا وهي التي مركزها بوانيه بخلاف فينا عاصمة النمسا التي حاصرها الأتراك، وأقاموا عساكرهم المظفرة على أبوابها. وفي جنوب أيالة فينا أيالة أخرى يقال لها: فينا العليا ومركزها ليموج، وما زال عبد الرحمن يتقدم حتى وصل مدينة تور وهي على نهر لوار المنصب في المحيط، وألحق أكثر من نصف فرنسا بممالك الدولة الأموية الحاكمة إذ ذاك على الهند وما وراء النهر إلى كاشغر، والصين، وتركستان، وكان الفاتح لها سنة 119ه أسد بن عبد الله القسري، فإنه دخل بغزاة المسلمين بلاد الترك، وقتل ملكهم خاقان وغنموا شيئا كثيرا.
فمنتهى الحدود التي وصل إليها العرب في أوروبا، هي نهر لوار ومدينة تور وفي شرقيهما مدينة ديجون ثم مدينة بزانسون، فالخط المار بهذه النقط يقسم فرنسا إلى قسمين شمالي وجنوبي، والجنوبي بأجمعه دخل في ملك المسلمين، وأقاموا في بعضه قليلا وفي بعضه كثيرا، واستسلموا كثيرا من أهله وتزوجوا ببناتهم وأعقبوا منهم، ولم يزل لأهل الجنوب من الفرنساويين شبه بالعرب في سيماء الوجوه.
قال المؤرخ الإنكليزي جيبون في ذكر حوادث سنة 742م: «تقدم العرب في أوروبا أكثر من ثلاثمائة مرحلة
lieues
من صخرة جبل الطارق إلى مصب نهر لوار كلها مظفرات، ولو تقدموا ثلاثماية مرحلة أخرى لوصلوا حدود بولونيا في شرق أوروبا أو جبال أيقوس من إنكلترة ولسهل عليهم عبور نهر الرين المار بألمانيا، كما سهل عليهم عبور الفرات والنيل، ولكان الأسطول العربي من جهة أخرى دخل نهر التميس بلا محاربة بحرية - لعدم وجود أسطول إنكليزي في ذاك الوقت يضاهي أسطول مصر، وسورية أو أسطول تونس - ولرأينا اليوم علماء يفسرون القرآن في مدارس أوكسفورد، ويفقهون أفراد أمة الإنكليز المختتنين، ويشرحون لهم وهم مرتفعون على كراسي الوعظ معجزات النبي العربي، فالذي خلص العالم المسيحي من ذلك هو ابن الزانية شارل مارتيل ناظر سراي الملوك الفرنساويين من سلالة ميروفينجيان.» ا.ه.
وذلك أن شارل المذكور لما رأى المسلمين لم يبق بينهم وبين باريس إلا 234 كيلومترا حشد إليه العساكر الجرارة من القبائل الشمالية الألمانية، وهم يمتازون عن سكان الأيالات الجنوبية في فرنسا بطول القامة، وزرقة الأعين، وشقرة اللون وبالصبر في الحرب والمهارة في الطعن والضرب، ولم يزالوا متصفين بهذه الأوصاف إلى يومنا هذا؛ ولذا اختار مقام السرعسكرية منهم المعلمين للمكاتب الحربية في الأستانة مثل غولج باشا، وقبله مولتكه باشا مرتب حركات الجيش في حرب السبعين الفرنسوية.
وكان عبد الرحمن نازلا بالعسكر أمام مدينة تور في الوادي الذي يجري فيه نهر لوار، ويحيط به سلسلتان من التلال تتقاربان كلما قربتا من المدينة، فبغت شارل مارتيل المسلمين وهم في هذا الموقف الحرج، وحاربهم من أعالي التلال، وانتشب القتال بين الفريقين، وأظهر عبد الرحمن من المهارة في حركات الجيش، وسوق الفرسان ما حير أخصامه وانجبر أخيرا على الخروج من ذاك الموقع الضيق والرجوع إلى سهول بواتيه وفيها التقى الجمعان، واصطف الجيشان في محل لم يزل يقال له إلى يومنا: (موسه-لا-بانايل)، ويراه المسافر من بوردو إلى باريس في القطار الحديدي على بعد عشرين كيلومترا عن بواتيه شمالا؛ أي على الضفة اليمنى لنهر كلين المنصب في نهر فينا المنصب في نهر لوار، واستمر الفريقان بضعة أيام على أهبة الحرب والطعان، وشارل لا يجسر على الهجوم خدعة منه وحذرا، ففتح عبد الرحمن الحرب وأنزل للميدان مفرزة من فرسانه، ودام القتال ستة أيام والنصر فيها للمسلمين، وفي اليوم السابع هجمت عساكر شارل هجمة اليأس والقنوط على مكان الحريم والغنائم، فانشغلت أفكار المسلمين على أموالهم، وعيالهم وقتل عبد الرحمن على رواية مؤرخي الإفرنج بعد مقاومة شديدة، وكان ذلك في شهر تشرين أول سنة 732م وسنة 114ه، ورجعت بقية السيوف من أهل الإسلام لا عن طريق رونسيفو بل عن طريق طولوز، وقرقسون، ونربون لرسوخ قدمهم في تلك الجهات.
ولحقهم شارل مارتيل واسترجع مدينة أفينيون، ولم يقدر على استرجاع نربون فهدم ما في شمال نهر أود من الحصون والقلاع، وصيره قفرا لكيلا يطمع فيه العرب، وقد نظم أحد شعراء الفرنساويين المسمى «قارل دوسنت غارد» في حدود سنة 1684 ديوانا عنوانه «إخراج العرب من فرنسا»، وجعل فيه البطل المغوار في هذه الحروب شيلوبرانداخ شارل مارتيل، فنكت عليه الشاعر بوالو وجهله على مدحه بطلا لم يحقق التاريخ وجوده بين أبطال تلك الحروب.
فاشتهر شارل في البلاد وصار الناس يتحدثون به في فرنسا، وإيطاليا، وعموم أوروبا ويروون عن شجاعته أحاديث ملفقة، ويزعمون أن بلطته أو فأسه المسمى مارتو أو مارتل قتل ما يربو على ثلاثمائة ألف من العرب، غير أن واقعة بواتيه على التحقيق لم يكن فيها تغلغل كبير على عساكر الإسلام، ولو بقي في شارل بعدها قوة لأخرجهم من ناربون ورمى بهم إلى ما وراء جبال البيرينة، وحصن منافذ الجبال وجعلها مانعة لهجومهم ولكنه لم يستطع ذلك، واستمر العرب في جنوب فرنسا حقبة من الزمان سيما في أطراف مارسيليه، ولم نزل نشاهد في متحف نربون كثيرا من آثارهم وأوانيهم الخزفية، وإليهم تنسب «جبال المور»
صفحه نامشخص