[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم حمدا وثناء لله تعالى جل جلاله، خالق العالم وعالم السر ورازق الأحياء ومالك الأرض والسماء؛ والصلاة والسلام على صفوة الآدميين وخاتم النبيين محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وأتباعه وأشياعه (رضوان الله عليهم أجمعين).
أما بعد- فيقول أبو نصر أحمد بن محمد بن نصر القباوى (1): إن أبا بكر محمد بن جعفر النرشخى قد ألف كتابا باسم الأمير الحميد أبى محمد نوح بن نصر ابن أحمد بن إسماعيل السامانى (رحمه الله تعالى) فى ذكر بخارى ومناقبها وفضائلها وما فيها وفى رساتيقها من مرافق ومنافع وما ينسب إليها، وفى ذكر الأحاديث التى رويت فى فضائل بخارى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والصحابة والتابعين وعلماء الدين (رضوان الله عليهم أجمعين).
وكان تأليف هذا الكتاب باللغة العربية وبعبارات بليغة فى شهور سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة (943 م).
ولما كان أكثر الناس لا يرغب فى قراءة الكتب العربية، طلب منى الأصدقاء أن أقوم بترجمة الكتاب إلى الفارسية، فأجاب الفقير طلبهم وترجمه فى جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة (1128 م). وبما أن النسخة العربية قد احتوت أشياء غير جديرة بالذكر يزداد الطبع مللا بقراءتها، فقد حذفت تلك الأشياء، واختصره أضعف العباد محمد بن زفر بن عمر فى شهور سنة أربع وسبعين وخمسمائة (1178 م) لمجلس صدر صدور الزمان العالى السيد الإمام الأجل الأعز
صفحه ۱۵
برهان الملة والدين، سيف الإسلام والمسلمين، حسام الأئمة فى العالمين، سلطان الشريعة ظهر الخلافة إمام الحرمين مفتى الخافقين، كريم الطرفين ذى المناقب والمفاخر عبد العزيز بن الصدر الإمام الحميد برهان الدين عبد العزيز قدس الله أرواح السلف وبارك فى الخلف فى العز والعلى.
صفحه ۱۶
ذكر جماعة كانوا قضاة فى بخارى
كان منهم: سيبويه بن عبد العزيز البخارى النحوى. قال محمد بن أعين:
سمعت من عبد الله بن مبارك أن سيبويه تولى قضاء بخارى ولم يظلم مقدار درهمين، ثم استطرد قائلا: مقدار درهمين كثير، لم يظلم مثقال ذرة. ثم تولى القضاء مخلد ابن عمر سنين طويلة إلى أن استشهد آخر الأمر، وكذا أبو ديم حازم السدوسى الذى وصله فرمان القضاء من الخليفة، وعيسى بن موسى التيمى المعروف بغنجار (رحمه الله) ولى القضاء فلم يقبل، فقال له السلطان إن لم تل القضاء فاختر شخصا نوله، فلم يقبل هذا أيضا، فأمر السلطان، أن اذكروا أسماء أهل القضاء أمامه، ففعلوا كذلك، وحينما كانوا يذكرون اسم شخص أمامه كان يقول: ليس بأهل:
فلما ذكروا حسن بن عثمان الهمدانى سكت، فقالوا إن السكوت منه علامة الرضا، فولوا حسن بن عثمان القضاء ولم يكن فى عهده فى مدن خراسان (1) أى شخص فى علمه وزهده.
ثم عامر بن عمر بن عمران، ثم إسحق بن إبرهيم بن الخيطى وتوفى بطوس بعد عزله فى ثمان ومائتين (823 م). ثم سعيد بن خلف البلخى الذى ولى القضاء فى سلخ جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ومائتين (828 م) وقد مارس القضاء على وجه كان يضرب به المثل فى العدل والإنصاف والشفقة على خلق الله تعالى، وسن سننا حسنة منها: أنه وضع نظام عسس المياه، وتقسيم الماء فى بخارى بالعدل والإنصاف حتى لا يجوز القوى على الضعيف.
صفحه ۱۷
وكذا عبد المجيد بن إبرهيم النرشخى (رحمه الله) الذى كان يعد من عباد الله الصالحين، وأحمد بن إبرهيم البركدى (رحمه الله) كان قاضيا فى عهد السلطان أحمد ابن إسماعيل السامانى وفقيها وزاهدا.
ثم أبو ذر محمد بن يوسف البخارى وكان من جملة أصحاب الإمام الشافعى (رحمه الله)، وكان ذا علم وزهد كما كان مقدما على علماء بخارى، وقد امتحنوه كثيرا عن طريق تقديم الرشوة له خفية وبكل الوسائل ولكنه لم ياوث نفسه بأى شىء بل كان العدل والإنصاف يزدادان كل يوم منه ظهورا، وعند ما بلغ الشيخوخة طلب إعفاءه من القضاء وذهب إلى الحج وأدى الفريضة، ثم أقام فى العراق مدة يطلب علم حديث النبى (صلى الله عليه وسلم)، وتتلمذ ثم عاد إلى بخارى فاختار العزلة إلى نهاية حياته رحمة الله عليه.
وكذا أبو الفضل بن محمد بن أحمد المروزى السلمى الفقيه (رحمه الله)، وهو صاحب «المختصر الكافى» تولى القضاء فى بخارى سنوات طوالا فلم تؤخذ عليه ذرة عيب، وكان يعمم العدل والإنصاف، فلم يكن له مثيل فى الدنيا فى العلم والزهد فى زمانه وصار بعد ذلك وزيرا للسلطان ومات شهيدا رحمة الله عليه.
يقول مصنف هذا الكتاب: ولو ذكرنا جميع علماء بخارى لاحتجنا إلى دفاتر عديدة نملؤها، وهذه الفئة التى ذكرناها من العلماء هم هؤلاء الذين قال النبى (صلى الله عليه وسلم) فى حقهم «علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل».
فصل: لم يورد محمد بن جعفر النرشخى هذا الفصل فى كتابه، وذكر الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد النيسابورى فى كتاب خزائن العلوم أن هذا الموضع المعروف اليوم ببخارى كان يتكون من بركة ومقصبة وغيضة ومرج وفى بعض أجزائه كان لا يجد أى حيوان مخاضة، لأن الثلوج كانت تذوب على الجبال بالولايات التى بناحية سمرقند (1) فيجتمع الماء هنالك. وبناحية سمرقند نهر عظيم يقال له نهر
صفحه ۱۸
«ماصف» يتجمع فيه ماء كثير، وهذا الماء الكثير يخد الأرض ويلفظ وحلا كثيرا يطم الحفر، وكان الماء يأتى بكثرة ويحمل الطمى إلى ناحيتى «بتك» و«فرب» ثم توقف ذلك الماء وقد طمر هذا الموضع الذى يقال له «بخارى» وتمهدت الأرض وأصبح ذلك النهر العظيم السغد (1) وهذا الموضع المطمور بخارى. واجتمع الناس من كل صوب، وازدهر ذلك المكان وأقبل الناس من ناحية التركستان (2)، وكان بهذه الولاية كثير من الماء والشجر والصيد، فأعجب هؤلاء الناس بها وأقاموا فيها، وكانوا أول الأمر يعيشون ويقيمون فى الخيام والسرادقات، فتجمعوا وتكاثروا على
صفحه ۱۹
مر العصور وبنوا العمائر واختاروا من بينهم واحدا اسمه «أبروى» نصبوه أميرا عليهم. ولم تكن قامت بعد هذه المدينة، بل كانت هنالك بعض الرساتيق من جملتها «نور» و«خرقان رود» و«وردانة» و«تراوجه» و«سفنه» و«إيسوانه».
وكانت القرية الكبيرة التى يقيم فيها الأمير هى «بيكند» والمدينة «قلعة دبوسى» (1) وكانت تسمى المدينة. وبعد مدة كبر «أبروى» وسلك طريق الظلم فى هذه الولاية، فلم يستطع الناس الصبر طويلا وفر الدهاقين والأغنياء منها إلى التركستان، حيث بنوا شبه مدينة سموها «حموكت» (2)، لأن فلاحا (دهقانا) عظيما اسمه «حموك» كان رئيس تلك الطائفة التى ذهبت إلى هنالك.
و«حموك» فى اللغة البخارية معناها جوهر، و«كت» معناها المدينة، أى «مدينة حموك». وفى اللغة البخارية يقال للشخص العظيم «حموك» (3). ثم أرسل الناس الذين بقوا فى بخارى رسولا إلى عظمائهم طالبين النجدة من جور «أبروى»، فتوجه هؤلاء العظماء والفلاحون إلى ملك الترك وكان اسمه «قراجورين ترك» ويلقبونه «بياغو» لعظمته، وقد استنجدوا به، فأرسل «بياغو» ابنه «شير كشور» (4) مع جيش عظيم، فلما وصل إلى بخارى قبض على «أبروى» فى «بيكند» وقيده، ثم أمر فملأوا جوالا بالزنابير (5) وأدخلوا فيه «أبروى» حتى مات. وقد أعجب «شير كشور» بهذه الولاية فأرسل إلى أبيه كتابا يطلبها منه مستأذنا فى البقاء ببخارى، فجاء الرد (من بياغو): «قد منحتك تلك الولاية»، وأوفد «شير كشور» رسولا إلى حموكت لإعادة هؤلاء الذين هربوا من بخارى مع نسائهم وأطفالهم، ثم صدر مرسوم باعتبار كل عائد من «حموكت» من جملة الخواص، لأن كل من كان
Desm. V, I. p: 768
صفحه ۲۰
غنيا ودهقانا كبيرا كان قد فر، وبقى المعدمون والفقراء، وعندما عاد هؤلاء القوم إلى بخارى دخل فى خدمتهم أولئك الفقراء، وكان بينهم دهقان عظيم يسمى «بخار خداة» لكونه ابن دهقان كان يملك أكثر الضياع، وكان أغلب هؤلاء الناس عبيده وخدامه.
وقد بنى «شير كشور» مدينة «بخارى» وقرى «مماستين» و«سقمتين» و«سمتين» و«فرب» (1) وحكم مدة عشرين سنة، وعند ما تولى بعده ملك آخر بنى «اسكجكت» (2) و«شرغ» و«رامتين» ثم قرية «فرخشى» (3)، وعند ما جىء بابنة ملك الصين عروسا إلى بخارى، جاءوا فى جهازها بمعبد للأصنام من الصين ووضعوه برامتين.
وفى أيام خلافة أمير المؤمنين أبى بكر الصديق رضى الله عنه، سك النقد فى بخارى من الفضة الخالصة، ولم يكن بها من قبل نقود فضية وقد فتحت بخارى أيام معاوية على يد قتيبة بن مسلم؛ فولى «طغشادة» بخارى اثنين وثلاثين عاما من قبل قتيبة بن مسلم، ولما قتله أبو مسلم فى سمرقند فى عهد نصر بن سيار أمير خراسان كان «طغشادة» قد حكم بعد قتيبة بن مسلم عشر سنوات (وقتله أبو مسلم (رحمه الله)) (4) ثم ملك بعده أخوه «سكان بن طغشادة» سبع سنوات وقتل فى قصر
صفحه ۲۱
«فرخشى» على أثر ثورة بأمر الخليفة وذلك فى شهر رمضان حينما كان مشغولا بقراءة القرآن، ودفن أيضا فى ذلك القصر وتولى بعده أخوه «بنيات بن طغشادة» الملك سبع سنوات وقتل بأمر الخليفة فى قصر «فرخشى» وسنذكر سبب ذلك بعد هذا، وظلت بخاى بعده فى قبضة أبناء «طغشادة» وخدامه وأحفاده إلى عهد الأمير إسماعيل السامانى حيث خرج الملك من يد أبناء «بخار خداة» وسيأتى ذكره فيما بعد.
صفحه ۲۲
ذكر سيدة (خاتون) كانت ملكة بخارى وأولادها الذين تولوا الملك بعدها
يقول محمد بن جعفر: عند ما مات «بيدون بخار خداة (1)» ترك طفلا رضيعا اسمه «طغشادة»، فجلست على العرش هذه الخاتون (السيدة) التى كانت أم الطفل ومكثت فى الحكم خمس عشرة سنة. وأخذ العرب يقصدون بخارى فى عهدها، فكانت الخاتون فى كل مرة تعقد الصلح معهم وتعطيهم المال.
ويقال إنه لم يكن فى عصر من العصور من هو أصوب رأيا منها، فكانت تحكم بصائب الرأى وينقاد لها الناس. وكان من عادتها أن تخرج كل يوم من حصن بخارى على ظهر جوادها وتقف على باب «ريكستان» وقد سمى هذا الباب بباب العلافين (دروازه علف فروشان) حيث كانت تجلس على تخت وأمامها الغلمان والخصيان والأشراف والحشم.
وكانت قد فرضت على أهل الرستاق أن يجىء لخدمتها مائتا شاب من الدهاقين والأمراء متمنطقين بمناطق ذهبية ويحملون السيوف ويقفون من بعيد، وعند خروج الخاتون كانوا يحيونها ويقفون فى صفين وهى تنظر فى أمور المملكة وتأمر وتنهى وتخلع على من تريد وتعاقب من تريد وتظل هكذا من الصباح إلى الضحى ثم تعود إلى الحصن وترسل الموائد وتطعم جميع الخدم والحشم.
وعند ما يأتى المساء كانت تخرج على هذه الصورة وتجلس على التخت وقد اصطف أمامها الدهاقين والأمراء فى صفين للتحية، وذلك إلى غروب الشمس وحينئذ تقوم وتركب وتذهب إلى القصر، ويذهب هؤلاء إلى موطنهم فى الرستاق.
وفى اليوم التالى يأتى قوم آخرون للخدمة بنفس الطريقة وهكذا دواليك حتى تأتى
صفحه ۲۳
النوبة على هؤلاء القوم (ثانية)، وكان يتحتم على كل منهم أن يجىء فى العام أربعة أيام على هذا المنوال.
فلما توفيت هذه الخاتون كان ابنها «طغشادة» قد كبر واستأهل الملك بينما كان الكل يطمع فى هذا الملك.
وقد كان ثمة وزير أصله من التركستان يسمى «وردان خداة» وكانت له إمرة «وردانة» وقد خاض معه قتيبة (1) حروبا كثيرة إلى أن مات «وردان خداة» هذا، واستولى قتيبة على بخارى بعد أن أخرج «وردان خداة» مرارا من هذه الولاية حتى هرب إلى التركستان. فأعطى قتيبة بخارى لطغشادة ثانية وأجلسه على العرش وصفا له الملك وكف عنه أيدى جميع أعدائه.
وكان «طغشادة» قد أسلم على يد قتيبة وظل يحكم بخارى طيلة حياة قتيبة، كما بقى ملك بخارى فى يده بعد قتيبة فى عهد نصر بن سيار. فملك بخارى اثنين وثلاثين عاما، وأنجب طغشادة وهو فى الإسلام ولدا أسماه قتيبة محبة فى قتيبة بن مسلم، فأجلس قتيبة هذا على عرش والده وبقى على الإسلام مدة إلى أن ارتد فى زمان أبى مسلم (رحمه الله)، فعلم أبو مسلم بذلك وقتله وأهلك أخاه كذلك مع أهله، وبعد ذلك صار «بنيات بن طغشادة» ملكا على بخارى وكان قد ولد فى الإسلام وظل عليه مدة. فلما ظهر «المقنع» وظهرت فتنة المبيضة أى ذوى الأردية البيضاء (سپيدجا مكان) فى رستاق بخارى مال إليهم «بنيات» وأعامهم حتى طالت أيديهم وتغلبوا، فأخبر صاحب البريد الخليفة، وكان الخليفة إذ ذاك «المهدى». ولما فرغ المهدى من أمر المقنع والمبيضة أرسل الفرسان، وكان بنيات جالسا فى قصر «فرخشى» يحتسى الشراب فى المجلس وينظر من الشرفة، فرأى الفرسان قادمين من بعيد، فأدرك بالفراسة على الفور أنهم من قبل الخليفة، وبينا كان يتدبر الأمر إذ بهم وصلوا وسلوا السيوف دون أن يتكلموا وضربوا رأسه وذلك
صفحه ۲۴
فى عام مائة وستة وستين من الهجرة 782 م وفر قومه كلهم وعاد هؤلاء الفرسان أجمعين.
وعند ما قتل أبو مسلم (1) قتيبة بن طغشادة بسبب ارتداده عن الإسلام وقتل كذلك أخاه وأهل بيته، أعطى ضياعه ومستغلاته لبنيات بن طغشادة الذى ظلت معه حتى عصر الأمير إسماعيل السامانى.
فلما ارتد بنيات وقتل، ظلت تلك الضياع فى يد أولاد بخار خداة. وكان آخر من خرجت من يده هذه الأملاك (2) هو أبو إسحق إبرهيم بن خالد بن بنيات.
وكان إبرهيم يقيم فى بخارى والأملاك فى يده ويرسل كل عام بالخراج والغلات من ناحية ما وراء النهر (3) إلى أخيه نصر ليبعث بها إلى أمير المؤمنين المقتدر (4).
صفحه ۲۵
وقد انتزع الأمير إسماعيل السامانى هذه الضياع والمستغلات من يده لأن أحمد بن محمد الليث الذى كان صاحب الشرطة قال ذات يوم للأمير:
أيها الأمير- ممن آلت هذه الضياع بهذا الحسن وكثرة الغلات إلى أبى إسحق؟
فقال الأمير إسماعيل السامانى: إن هذه الضياع ليست ملكه بل هى أملاك سلطانية. فقال أحمد بن محمد الليث: إنها أملاكهم ولكن الخليفة انتزعها من أيديهم بسبب ردة أبيهم وصيرها ملك بيت المال، ثم عاد فأعطاها له على سبيل الأجر والجامكية وهو لا يقوم بالخدمة كما يجب ويرى هذه الضياع ملكا له.
وبينما كانوا فى هذا الحديث إذ دخل أبو إسحق بن إبرهيم، فقال له الأمير إسماعيل السامانى: يا أبا إسحق- ما مقدار ما يعود عليك كل عام من الغلة من هذه الضياع؟. فقال أبو إسحق: تغل كل عام عشرين ألف درهم بعد كثير من التعب والتكلف. فأمر الأمير إسماعيل أحمد بن محمد الليث قائلا: خذ هذا الموضع وقل لأبى الحسن العارض أن يعطيه كل عام عشرين ألف درهم. وبهذا خرجت هذه الضياع من يده ولم تعد إليه.
وقد توفى أبو إسحق سنة إحدى وثلثمائة (923 م) وبقى أولاده فى قريتى «سفنة» و«سيونج».
صفحه ۲۶
ذكر بخارى وملحقاتها
ذكر أبو الحسن النيسابورى فى كتابه «خزائن العلوم» أن مدينة بخارى من جملة مدن خراسان (1)، ولو أن نهر جيحون (2) يقع بينهما. و«كرمينة» (3) من رساتيق بخارى وماؤها من ماء بخارى وخراجها من خراج بخارى ولها رستاق على حدة، وبها مسجد جامع، وقد كان فيها أدباء وشعراء كثيرون، وقد سميت «كرمينة» قديما ب «بادية خردك» ومن بخارى إلى كرمينة أربعة عشر فرسخا.
و«نور» مكان عظيم وفيها مسجد جامع وأربطة كثيرة، ويذهب إليها كل عام أهل بخارى والأماكن الأخرى للزيارة.
ويغالى أهل بخارى فى هذا الأمر فيرون أن من يذهب لزيارة «نور» تكون له فضيلة الحج، وحينما يعود يزينون له المدينة بالأقواس لعودته من ذلك المكان المبارك.
وتسمى «نور» هذه فى الولايات الأخرى بنور بخارى وقد دفن فيها كثير من التابعين، رضى الله عنهم أجمعين إلى يوم الدين.
ثم «طوايسة» (4) واسمها «أرقود» وكان بها قوم منعمون مترفون، وفى بيت كل منهم طاووس أو طاووسان من باب الترف، ولم يكن العرب قد رأوا الطاووس
صفحه ۲۷
قبل ذلك، فلما رأوا هنالك طواويس كثيرة، سموا تلك القرية بذات الطوايس (الطواويس)، وقد زال اسمها الأصلى وتركوا بعد ذلك كلمة «ذات» أيضا وقالوا «طوايس». وفيها مسجد جامع ولها سور عظيم، وفى قديم الأيام كانت هناك سوق من تقاليدها أن تباع بها سنويا لمدة عشرة أيام من فصل الخريف بقايا السلع المعيبة من رقيق ودواب وغير ذلك من متخلفات معيبة أخرى، ولم يكن فى الإمكان ردها ثانية أو قبول أى شرط للبائع والمشترى. وكان يحضر هذه السوق أكثر من عشرة آلاف من التجار وأصحاب الحوائج من «فرغانة» (1) و«الشاش» (2) وأماكن أخرى، ويعودون بأرباح طائلة. ولهذا كان أهل هذه القرية أغنياء، ولم تكن الزراعة سبب غناهم. وهى تقع على الطريق الرئيسى إلى سمرقند وتبعد عن بخارى سبعة فراسخ.
«اسكجكت» (3): لها خندق عظيم وكان بها قوم أغنياء، ولم تكن الزراعة مصدر ثرائهم، لأن ضياع تلك القرية من خربة ومعمورة تبلغ ألف «جفت» (4)
صفحه ۲۸
وكان كل أهلها تجارا ويكثر بها «الكرباس» (1).
وكانت تقام بها السوق كل يوم خميس، وتلك القرية من جملة الأملاك السلطانية الخاصة (2) وكان أبو أحمد الموفق بالله قد أقطع تلك القرية محمد ابن طاهر أمير خراسان ثم باعها إلى سهل بن أحمد الداغونى البخارى وأخذ الثمن، وبنى (الداغونى) فيها حماما وقصرا عظيما فى زاوية على ضفاف النهر وظلت بقية ذلك القصر إلى زماننا، ويسمى بقصر الداغونى، وقد هدمت مياه النهر ذلك القصر.
وكان لسهل بن أحمد الداغونى هذا أتاوة عل أهل «أسكجكت» مقدارها عشرة آلاف درهم سنويا مقسمة على بيوتها، وقد منعت الأتاوة من هذه القرية لمدة سنتين أو ثلاث، فرجعوا إلى السلطان وطلبوا منه العون، وأخرج ورثة سهل ابن أحمد قبالة (3) فى أيام (الأمير) إسماعيل السامانى، فرأى القبالة صحيحة، ولكن الخصومة كانت قد طال بها العهد، فتوسط سادة المدينة وصالحوا أهل القرية وورثة الداغونى على مائة وسبعين ألف درهم. وقد اشترى أهل هذه القرية قريتهم هذه، فرفعت عنهم تلك الإتاوة، ودفعوا ذلك المال. ولم يكن بهذه القرية مسجد جامع قط حتى كان فى أيام الملك شمس الملك نصر بن إبرهيم بن طمغاج خان، سيد من أهل هذه القرية يقال له «خوان سالار» (4) وكان رجلا محتشما كثير العشيرة ومن جملة عمال السلطان، فبنى مسجدا جامعا فى غاية الرواء من خالص ماله، وأنفق عليه مالا طائلا وأقام به صلاة الجمعة.
يقول أحمد بن محمد بن نصر: أخبرنى خطيب «شرغ» أنهم لم يقيموا فى ذلك المسجد الجامع غير صلاة جمعة واحدة، ولم يسمح أئمة بخارى بعد ذلك ولم يجيزوا
صفحه ۲۹
أن تقام هنالك صلاة جمعة، وقد تعطل هذا المسجد الجامع إلى أن صار «قدر خان جبرئيل بن عمر بن طغرل خان» أميرا على بخارى وكان اسمه طغرل بيك ولقبه كولارتكين، فاشترى أخشاب ذلك المسجد من ورثة «خوان سالار» وهدمه وجاء بالأخشاب إلى مدينة بخارى، وبنى مدرسة بقرب سويقة البقالين (چوبه بقالان) استخدم فيها تلك الأخشاب وأنفق مالا لا حد له، وتسمى تلك المدرسة بمدرسة كولارتكين وبها تربة الأمير.
و«شرغ» (1) تقع مقابل «اسكجكت» ولا يوجد بينهما أى بستان أو أرض خالية سوى نهر عظيم يقال له نهر «سامجن» ويسمى اليوم نهر «شرغ» ويسميه بعض الناس «حرام كام». وكان على هذا النهر جسر عظيم بين كلا القريتين.
ولم يكن فى «شرغ» هذه فى أى وقت مسجد جامع، وقد بنى ذلك الجسر بغاية الإحكام من الآجر فى أيام أرسلان خان محمد بن سليمان بناء على أمره وبنوا مسجدا جامعا من ماله الخاص، وقد أمر ببناء رباط للغرباء بجانب «اسكجكت». ولهذه القرية قلعة كبيرة يمكن أن تقارن بمدينة لعظمتها. وقد ذكر محمد بن جعفر أنه كان لهم قديما سوق وكانوا يجيئون كل سنة من الولايات البعيدة ويتاجرون ويبيعون عشرة أيام وسط الشتاء، وكان أكثر ما ينتج هناك الحلوى المحشوة المصنوعة من الدوشاب (2) والقنطارى (3) والأخشاب والسمك المملح والطازج وفراء الخراف والحملان. وكانت التجارة رائجة وأما اليوم فى زماننا فتقام السوق كل يوم جمعة ويقصدها التجار من المدينة ونواحيها. ومن حاصلات تلك القرية التى يحملها التجار اليوم إلى الولايات الروى (4) والكرباس (5).
صفحه ۳۰
وروى محمد بن جعفر، أن الأمير إسماعيل السامانى (رحمه الله) اشترى هذه القرية وجميع ضياعها وعقاراتها وأوقفها كلها على رباط كان قد بناه بباب سمرقند داخل مدينة بخارى، وذلك الرباط وتلك الأوقاف أيضا غير موجودة اليوم. وكانت شرغ واسكجكت هاتان أجمل قرى بخارى حماها الله تعالى.
«زندنه (1)»: بها حصن كبير وأسواق كثيرة ومسجد جامع، وهناك تؤدى الصلاة وتقام السوق كل يوم جمعة وما ينتج بها يقال له ال «زندنيجى» وهو الكرباس أى من قرية زندنة، وهو جيد وموفور أيضا وينسج ذلك الكرباس فى كثير من قرى بخارى ويسمى الزندنيجى أيضا لأنه ظهر أول الأمر فى تلك القرية. ويحمل من ذلك الكرباس إلى جميع الولايات مثل العراق وفارس وكرمان (2) والهند وغيرها ويتخذ منه جميع العظماء والملوك ثيابا ويشترونه بثمن الديباج، عمرها الله.
«وردانه» (3): قرية كبيرة ذات قلعة وسور عظيم ومتين، وكانت منذ القدم مقر الملوك وليس فيها الآن مقر الملك، وهى أقدم من مدينة بخارى، بناها الملك شاهپور، وهى حد التركستان. وكانت تقام هناك سوق يوما فى كل أسبوع وكانت التجارة فيها رائجة، ومن حاصلانها الزندنيجى الجيد.
«أفشنه» (4) لها قلعة كبيرة وسور محكم وتتبعها عدة نواح، ويقام بها السوق
صفحه ۳۱
يوما فى كل أسبوع، وضياع وفلوات هذه القرية وقف على طلاب العلم، وقد بنى قتيبة بن مسلم هنالك مسجدا جامعا، كما بنى محمد بن واسع أيضا مسجدا، والدعاء فيه مستجاب ويقصده الناس من المدينة ويتبركون به.
«بركد» (1): قرية قديمة وكبيرة ولها حصن عظيم وتسمى هذه القرية «بركد علويان» لأن الأمير إسماعيل السامانى اشتراها وأوقف عشر حصص (2) منها على العلويين وحصتين على دراويش بخارى وحصتين على ورثته.
«راميتن» (3): ذات حصن كبير وهى قرية محكمة أقدم من مدينة بخارى، وقد سميت هذه القرية فى بعض الكتب بخارى، وهى مقام الملوك من قديم الزمان، وبعد أن أصبحت بخارى مدينة كان الملوك يشتون فى هذه القرية وظلت كذلك فى الإسلام. وحين وصل أبو مسلم (رحمه الله) إلى بخارى أقام بهذه القرية، وقد بناها أفراسياب (4)، وكان أفراسياب لا يقيم بمكان آخر غير هذه القرية حين كان يأتى إلى هذه الولاية. وقد ذكر فى كتب الفرس أنه عاش ألفى سنة، وكان رجلا ساحرا من أبناء الملك نوح، وقد قتل صهره سياوش (5)، وكان لسياوش ابن يسمى
صفحه ۳۲
قبر تيمور (قبر أمير) بمدينة سمرقند
صفحه ۳۳
كيخسرو وقد قدم هذه الولاية فى عسكر عظيم طلبا لثأر والده، وقد أحاط أفراسياب قرية راميتن هذه بسور ورابط كيخسرو بعسكره حول هذا السور سنتين وبنى إزاءها قرية وسمى تلك القرية «رامش» (1) وسميت رامش لطيبها. وما تزال هذه القرية حتى الآن معمورة. وبنى فى قرية رامش بيت نار يقول المجوس إنه أقدم من بيت نار بخارى. وقد قبض كيخسرو بعد عامين على أفراسياب وقتله.
وقبر أفراسياب فى مدخل مدينة بخارى بباب المعبد فوق ذلك التل الكبير المتصل بتل السيد الإمام أبى حفص الكبير (رحمه الله). ولأهل بخارى فى مقتل سياوش أغان عجيبة ويسميها المطربون ثأرسياوش (2). ويقول محمد بن جعفر إنه مضت ثلاثة آلاف سنة من هذا التاريخ. والله أعلم.
«ورخشه» (3): من جملة القرى الكبيرة، وكانت مثل بخارى وأقدم منها وقد كتب فى بعض النسخ «رجفندون» بدل «ورخشه» وكانت مقر الملوك وذات سور محكم، وقد حاصرها الملوك مرات، وكان لها ربض مثل ربض مدينة بخارى، ولرجفندون أو ورخشة اثنا عشر جدولا هى فى داخل سور بخارى وكان بها قصر عامر يضرب به المثل فى حسنه وقد بناه بخار خداة (4)، وقد مضى على بناء ذلك القصر أكثر من ألف سنة وكان قد تخرب وتعطل سنين طويلة ثم عمره «خنك خداة» ثم تخرب، ثم عمره بنيات بن طغشادة بخار خداة فى الإسلام وجعله مقرا له حتى قتل فيه.
وقد دعى الأمير إسماعيل السامانى (رحمه الله تعالى) أهالى تلك القرية وقال لهم:
صفحه ۳۵