المقدمة
1 - البصرة القديمة
2 - البصرة الحديثة
المأخذ
المقدمة
1 - البصرة القديمة
2 - البصرة الحديثة
المأخذ
مختصر تاريخ البصرة
مختصر تاريخ البصرة
صفحه نامشخص
تأليف
علي ظريف الأعظمي
المقدمة
لما كان الإقبال على المباحث التاريخية يزداد يوما فيوما في قطرنا المحبوب، وكانت رغبة النشء الجديد كثيرة في الأسفار التاريخية والمصنفات العلمية، وكانت مدينة البصرة من المدن الإسلامية الكبرى التي لها شأن عظيم في تاريخ العرب؛ أهديت هذا المختصر إلى صاحب المكتبة العربية السيد نعمان الأعظمي؛ لما له من الولوع في خدمة العلوم والآداب، على أن ينشره خدمة لهذا العلم الجليل، وتسهيلا للقراء جعلته فصلين؛ يتضمن الأول منهما ذكر ما تمكنت من جمعه من تاريخ البصرة القديمة منذ تأسيسها إلى حين خرابها، وما حدث فيها من الانقلابات السياسية والوقائع الحربية والتغييرات الإدارية وغيرها. ويبحث الثاني عن تاريخ البصرة الحديثة - الحالية - منذ عمرت حتى انقراض الدولة العثمانية.
ولما كنت معترفا بقلة بضاعتي أرجو ممن يجد لي هفوة أو زلة أن يرشدني إلى الصواب لأصلح موضع الخطأ في طبعة أخرى. كما أني أرجو من القراء أن يعذروني عن ذكر الحوادث التي حدثت بعد أفول هلال دولة الأتراك لما أخشاه من الوقوع في شرك يصعب علي التخلص منه.
الفصل الأول
البصرة القديمة
(1) تمهيد
كان في عهد الدولة الساسانية الفارسية (226-651م)
1
صفحه نامشخص
في جنوبي العراق بين دجلة وكارون إمارة فارسية تسمى إمارة ميشان،
2
كان مركزها بلدة ميشان على الخليج الفارسي بأسفل موضع البصرة، وكانت هذه الإمارة تضم بلدة ميشان ومدينة الأبلة وعدة حصون ومواضع، كان لبعضها أسماء فارسية، ولبعضها أسماء عربية، منها المسلحة التي سماها العرب بعد خرابها الخريبة،
3
ومنها الثني والحفير والمضيح وغيره،
4
وكانت تلك الإمارة أو ذلك الثغر أعظم ثغور الفرس وأشدها شوكة في ذلك العهد، وكان عليها في عهد الملك أردشير الثالث بن شيرويه
5
قائد فارسي اسمه هرمز، وهو ممن تم شرفهم عند الفرس في ذلك العصر.
وفي الوقت الذي كانت المملكة الفارسية قد تزعزعت أركانها من توالي الفتن الداخلية المستعرة نيرانها في كل جهة من جهاتها في الوقت الذي كان القائد العربي المثنى بن حارثة الشيباني يغير فيه بجموعة على ناحية الحيرة في أيام الخليفة الأول أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة كان قطبة بن قتادة السدوسي يغير بجموعة على ناحية إمارة ميشان أو ناحية المنطقة التي بها لواء البصرة اليوم.
صفحه نامشخص
6
وكان الخليفة الأول
7
قد علم بالاضطرابات المتوالية التي كانت في مملكة الفرس، وكان يفكر في فتح بلادهم ومستعمراتهم، ولكنه كان مشغولا حينذاك بقتال المرتدين، فلما فرغ من حرب المرتدين، ودانت له جزيرة العرب؛ عزم على فتح العراق، وكتب في أواخر سنة 11ه الموافقة لسنة 632م إلى القائد الكبير خالد بن الوليد - وهو يومئذ باليمامة - يأمره أن يسير بجيشه إلى العراق؛ لنشر الدعوة والفتح، وأن يبدأ بثغر الهند، وهو الأبلة،
8
وأن يستنفر من قاتل أهل الردة، وأن لا يستعين بمرتد، وكتب بمثل ذلك إلى عياض بن غنم، ولكنه أمره أن يبدأ بالمضيح ويدخل العراق من أعلاه، ويسير حتى يلتقي بخالد، وكتب إلى المثنى وأصحابه - حرملة ومعذور وسلمى - يأمرهم أن يلحقوا بخالد بالأبلة، وكانوا يومئذ يغيرون على ناحية الحيرة، فسار خالد بمن معه في أوائل محرم سنة 12ه، وسار عياض بمن معه أيضا في الوقت نفسه، ثم كتب كل منهما وهما في الطريق يستمدان الخليفة، فأمد خالدا بالقعقاع بن عمرو التميمي، وأمد عياضا بعبد بن غوث الحميري. ثم التقى خالد وعياض بأرض العراق في الجهة الجنوبية منه، وكان مجموع من معهما عشرة آلاف مقاتل، ثم انضم إليهما المثنى وأصحابه، وكانوا ثمانية آلاف مقاتل، فبلغ الجيش الإسلامي ثمانية عشر ألف مقاتل.
ولما تكامل الجيش العربي جعله خالد ثلاث فرق؛ الأولى: وهي المقدمة جعل عليها المثنى بن حارثة، والثانية: جعل عليها عدي بن حاتم، والثالثة: قادها بنفسه، وسير الأولى ثم الثانية ووعدهما الحفير، ولم يحملهم على طريق واحد، ثم سار هو في طريق آخر وقرر مصادمة الفرس في الحفير. (2) وقعة الحفير
بعد أن عبأ خالد جيوشه وسيرها إلى الحفير سمع القائد هرمز أمير ميشان بقدومهم، فكتب إلى كسرى بالخبر، وطلب منه النجدة، وسار بمن معه إلى الكواظم،
9
ثم سمع أن المسلمين تواعدوا الحفير فسبقهم إليه ونزل به، فسمع خالد بهم فنزل بقربهم، وكتب إلى هرمز يقول:
صفحه نامشخص
أما بعد، فأسلم تسلم، أو اعقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر الجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
فاختار هرمز الحرب، وبعث بكتاب خالد إلى كسرى، وجمع جموعه، وتهيأ للحرب، وعبأ كل من خالد وهرمز جيشه، ثم التحم القتال بين الفريقين، فانجلت المعركة عن انهزام الفرس وقتل قائدهم هرمز، وغنم المسلمون أموالهم، وذلك في محرم سنة 12ه، وهذه أول وقعة حدثت في العراق بين المسلمين والفرس، وتسمى وقعة الحفير وذات السلاسل (لأن الفرس اقترنوا بالسلاسل لئلا يفر منهم أحد).
10 (3) وقعة الثني
لما انتهى خالد من وقعة الحفير أرسل المثنى بن حارثة في آثار الفرس المنهزمين، وسار هو بمن معه حتى نزل موضع الجسر الأعظم عند موقع البصرة.
وكان ملك الفرس لما وصله كتاب هرمز يخبره بقدوم الجيش الإسلامي ويطلب منه النجدة، قد أمد هرمزا بجيش تحت قيادة قارن بن قريانس، فلما وصل المذار
11
لقيهم المنهزمون، فاجتمعوا وتوقفوا قليلا ثم ساروا فنزلوا الثني، فسمع بمجيئهم خالد فتهيأ لملاقاتهم، وسار إليهم، فاقتتل الفريقان، وكانت معركة هائلة قتل فيها عدد كبير من الفرس فيهم قائدهم قارن وهو ممن تم شرفه عند الفرس كهرمز، وكانت الغنائم في هذه الوقعة كثيرة، وسبى المسلمون فيها عيالات المقاتلة
12
وسميت: وقعة الثني، وقد حدثت في أوائل صفر سنة 12ه. (4) مسير خالد إلى الشمال
بعد أن فرغ خالد من وقعة الثني أمر على قسم من جيشه سعيد بن النعمان، وسيره إلى الحفير، وأمره بالنزول هناك، وأقام هو في قسم من جيشه في الثني يترقب أخبار الفرس، ويترصد حركاتهم. ثم ارتأى بعد أيام قليلة أن يسير نحو شمالي البصرة مما يلي الفرات للتوغل في البلاد العراقية، فجمع جيوشه، وسار بهم بعد أن ترك حامية في موضع البصرة أو مما يلي تلك المنطقة لإشغال من هناك من الفرس،
صفحه نامشخص
13
والظاهر أنه أمر على تلك الحامية قطبة بن قتادة؛ لأن قطبة كتب بعد موت أبي بكر إلى عمر بن الخطاب يعلمه مكانه، ويقول له: لو كان معه عدد كاف لظفر بمن كان قبله من الفرس فنفاهم عن بلادهم. فكتب إليه عمر يأمره بالمقام والحذر، ووجه إليه شريح بن عامر أحد بني سعد بن بكر، فلما وصل شريح ترك قطبة في موضعه، ومضى إلى الأهواز لغزو الفرس فقتلوه، وظل قطبة يغير على تلك الجهات إلى أن أرسل عمر سعد بن أبي وقاص قائدا عاما على الجيش الإسلامي، فأرسل سعد بعد وقعة القادسية الشهيرة التي مزقت الفرس في محرم سنة 14ه عتبة بن غزوان المازني إلى جهة موضع البصرة بأمر الخليفة الثاني عمر،
14
فلما وصل عتبة بمن معه نزل حيال الجسر الصغير، فبلغ صاحب الفرات قدومه، فأقبل لقتاله بجموعه. فتزاحف الفريقان وحدثت بينهما معركة عنيفة انجلت عن انكسار الفرس، ووقوع قائدهم أسيرا بيد عتبة. (5) فتح الأبلة
بعد أن هزم عتبة حامية الفرس مرارا في تلك الجهات، واستولى على عدة حصون أو مخافر كانت تقيم فيها جنود فارسية لمنع غارات العرب منها المسلحة التي سموها بعد خرابها الخريبة؛ اجتمع أهل الأبلة وخرجوا لقتاله، فقاتلهم فانتصر عليهم وهزمهم حتى دخلوا المدينة في رعب شديد، ثم رجع إلى معسكره وترك في قلوب من في الأبلة خوفا اضطرهم إلى إخلاء المدينة، فحملوا ما خف وعبروا الماء، فبلغ ذلك عتبة فأسرع إليها ودخلها، وغنم المسلمون أموالا وسلاحا وسبيا، وذلك في رجب سنة 14ه. (6) تأسيس البصرة القديمة
على إثر فتح الأبلة نزل عتبة بجيشه على طرف البر إلى جانب مسلحة الفرس التي خربت في تلك الأثناء فسموها الخريبة، واتخذ المكان معسكرا؛ لأنه لا يحول الماء بينه وبين مكة؛ إذ كان من ذلك الموضع على الضفة الغربية للفرات إلى مكة رمال وجبال وسهول لا يفصل بينهما نهر، ثم كتب إلى الخليفة الثاني في موسم الشتاء يستأذنه بالبناء فأذن له، فبنى مسجدا ودارا للإمارة من القصب في الرحبة التي سميت رحبة بني هاشم، وذلك في سنة 14ه/636م فبنى الناس بيوتهم من القصب، وقد بنيت على بعد أربعة فراسخ من مدينة الأبلة قرب الخليج الفارسي في منتهى العراق عند موقع الزبير.
وعلى إثر ذلك اجتمع أهل ميشان، وخرجوا لقتال المسلمين، فخرج إليهم عتبة فهزمهم، وأخذ مرزبان ميشان أسيرا.
وبعد قليل استعمل عتبة على جيشه مجاشع بن مسعود، وسيره إلى الفرات، واستخلف على المدينة المغيرة بن شعبة إلى أن يعود مجاشع فإذا قدم فهو الأمير، وسار عتبة إلى يثرب عاصمة المسلمين لملاقاة الخليفة عمر بن الخطاب. فانتصر مجاشع بن مسعود على أهل الفرات. أما المغيرة بن شعبة فإنه بلغه أن الفرس القريبين منه اجتمعوا لقتاله، فخرج إليهم بمن معه فلقيهم بالمرغاب، وانتصر عليهم، وكتب بذلك إلى الخليفة. فلما وصل كتابه إلى الخليفة قال لعتبة: «من استعملت على البصرة؟» فقال: «مجاشع بن مسعود»، قال: «أتستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر؟» وأخبره بما كان من أمر المغيرة، وأمره بالرجوع إلى عمله، وأوصاه بوصايا هامة، فمات عتبة في الطريق في سنة 14ه.
ولما بلغ الخليفة الثاني موت عتبة ولى على البصرة المغيرة بن شعبة، وذلك في سنة 14ه، ثم عزله في سنة 16ه وولى عليها أبا موسى الأشعري.
15
صفحه نامشخص
وفي هذه السنة - سنة 16ه - حدث حريق بالبصرة فخافوا الحريق مرة أخرى فاستأذنوا الخليفة في البناء باللبن، فأذن لهم وكتب إليهم يقول: «افعلوا، ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة»، فخططوا المناهج والشوارع، وجعلوا المدينة خططا بحسب القبائل لكل قبيلة خط، وجعلوا عرض شارعها الأعظم ستين ذراعا وعرض ما سواه عشرين ذراعا، وجعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع، ووسط كل خط رحبة فسيحة لمرابط خيولهم، وتلاصقوا بالمنازل، وأول شيء بني فيها مسجدها ووضعوه في الوسط بحيث تتفرع الشوارع منه،
16
ولما أذن عمر ببنائها باللبن ساق إليها جماعات كبيرة من أشراف العرب من أهل البادية، وأسكنهم فيها، وكان على تنزيلها أبو الحرباء عاصم بن دلف.
17 (7) البصرة في عهد الخلفاء الراشدين
لما تم فتح العراق بعد سقوط المدائن عاصمة الفرس على يد القائد الإسلامي سعد بن أبي وقاص في سنة 16ه الموافقة لسنة 637م؛ رتب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب العمال، وقدر رواتبهم، وأقر أبا موسى الأشعري على ولاية البصرة، وجعل له ستمائة درهم في الشهر، ووجه شريح بن الحارث على قضاء البصرة، وأجرى عليه مائة درهم وعشرة أجربة في الشهر.
18
وكتب إلى أبي موسى الأشعري بإبقاء الخراج بالمساحة باعتبار الجريب كما كان في أيام الفرس؛ على الجريب من الحنطة قفيز ودرهم - أو أربعة دراهم - وعلى الشعير درهمين، وعلى الجريب من النخل ثمانية دراهم، ومن الكرم - العنب - عشرة دراهم، ومن القصب ستة دراهم، ومن الرطبة خمسة دراهم، سواء زرعت الأرض أم تركت - والجريب 3600 ذراع مربع، والقفيز عشر الجريب - أما الأراضي التي كانت للدولة الفارسية المنقرضة وهي التي صارت ملكا للدولة الإسلامية؛ فإنه وضع عليها العشر كما وضع المكس على التجارة.
وأبقى الجزية على أهل الذمة كما كانت في عهد الفرس باعتبار درجات الناس ومقدرتهم، واستثنى نصارى العرب منها، وجعل عليهم الزكاة كالمسلمين؛ لأنهم نصروا جيوشه.
وبعد أن كان موضع البصرة معسكرا للجيش الإسلامي تقيم فيه العرب مع نسائهم وأولادهم كما يقيم جيش الاحتلال في هذا العصر؛ صار ذلك الموضع مدينة كبيرة ذات أسواق واسعة وبيوت فخمة، وسميت بهذا الاسم «البصرة» لأنها بنيت على أرض غليظة ذات حجارة رخوة بيضاء - إذ تسمي العرب مثل هذه الأرض البصرة - وأخذت عمارتها تزداد يوما فيوما منذ أيام عمر بن الخطاب.
ولما قتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في أواخر سنة 23ه الموافقة لسنة 644م، وتولى بعده عثمان بن عفان؛ أقر أبا موسى الأشعري على البصرة، ثم عزله في سنة 29ه وولاها عبد الله بن عامر بن كريز - وهو ابن خال عثمان - وكان حدث السن،
صفحه نامشخص
19
وفي أيامه في سنة 23ه طعن أهل الكوفة في عثمان، وأنكروا عليه ولاية جماعة من أقربائه لا يصلحون للإمارة، ثم سكنوا، ولكنهم ظلوا ناقمين عليه سرا حتى إذا ما كانت سنة 35ه ثاروا، واتفق معهم أهل البصرة وأهل مصر، وخرج خمسمائة رجل من الكوفة ومثلهم من البصرة ومثلهم من المصريين، واجتمعوا بالمدينة، وطلبوا من عثمان عزل عماله، وكان عثمان قد سار على سيرة الشيخين بادئ بدء، ثم غير سيرته فعزل أكثر الولاة القديرين، وولى أقرباءه؛ لأنه كان كلفا بأهله مستسلما إلى أقربائه من بني أمية حتى نقم عليه أكثر أصحابه ونفروا منه. فكبرت الفتنة فحاصروه في داره، ثم هجموا عليه وقتلوه بعد حوادث طويلة، وذلك في 18 ذي الحجة سنة 35ه الموافقة لسنة 656م.
وبويع بالخلافة الإمام علي في 25 ذي الحجة من السنة المذكورة، فعزل أكثر ولاة عثمان، منهم أمير البصرة عبد الله بن عامر؛ فإنه عزله في أوائل سنة 36ه الموافقة لسنة 656م، وولى مكانه عثمان بن حنيف، فلما وصل البصرة الأمير الجديد ولى على شرطة البصرة حكيم بن جبلة.
وفي أيام إمارة ابن حنيف حدثت وقعة الجمل الشهيرة بالبصرة، وخلاصتها ما يأتي: (7-1) وقعة الجمل
لما قتل عثمان، وصارت الخلافة للإمام علي، استاء كثير من أهل مكة والمدينة وغيرها لقتل عثمان خصوصا بنو أمية، ومن جملتهم عائشة بنت أبي بكر، فإنها لما بلغها الخبر استنكرت قتله استنكارا شديدا، وكانت يومئذ بمكة وقالت: «ما كنت أبالي أن تقع السماء على الأرض، قتل والله مظلوما وأنا طالبة بدمه»، مع أنها كانت من جملة الناقمين عليه حينما غير سيرته واستسلم لأقربائه، فانضمت عائشة إلى من اتهم عليا بقتل عثمان؛ لأن قتلة عثمان التفوا حوله، وكان طلحة والزبير بن العوام ممن طمع بالخلافة بعد قتل عثمان، ولكنهما لما رأيا الأكثرية الساحقة لعلي وافقوا القوم وبايعاه مع الناس وعينا كل منهما إلى ولاية من الولايات الكبرى، بل كان طلحة لا يشك في ولاية اليمن، والزبير لا يشك في ولاية العراق، فلما استبان لهما أن عليا غير موليهما قابلاه فقالا له: «هل تدري علام بايعناك؟» قال: «نعم، على السمع والطاعة، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان»، فقالا: «ولكنا بايعناك على أنا شريكاك في الأمر »، فقال علي: «ولكنكما شريكان في القول والاستقامة والعون على العجز والأولاد»، فانصرفا ثم أظهرا الشكاة؛ فتكلم الزبير في ملأ من قريش فقال: «هذا جزاؤنا من علي؟! قمنا له في أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب وسببنا له القتل وهو جالس في بيته، وكفي الأمر، فلما نال ما أراد جعل دوننا غيرنا.» فقال طلحة: «ما اللؤم إلا أنا كنا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا وبايعناه، وأعطيناه ما في أيدينا، ومنعنا ما في يده، فأصبحنا وقد أخطأنا ما رجونا»،
20
فانتهى قولهما إلى علي فدعا عبد الله بن عباس فقال له: «هل بلغك قول هذين الرجلين؟» قال: «نعم، بلغني قولهما»، قال: «فما ترى؟» قال: «أرى أنهما أحبا الولاية، فول البصرة الزبير، وول طلحة الكوفة؛ فإنهما ليسا بأقرب إليك من الوليد وابن عامر من عثمان»، فقال علي: «ويحك، إن العراقيين بها الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي.»
فلما يئس كل من طلحة والزبير من الولاية مضيا إلى مكة، والتقيا بعائشة، وعظما لها شأن عثمان، وشايعاها على ما تطلبه هي وغيرها من الذين ساءهم قتل عثمان، وقالا لها: «تجملنا هربا من غوغاء الناس، وفارقنا قومنا حيارى لا يعرفون حقا، ولا ينكرون باطلا، ولا يمنعون أنفسهم»، فقالت: «ننهض إلى هذه الغوغاء أو نأتي الشام»، وعزمت على الاقتصاص من علي، وانحازت إلى من قام ضده من ذوي المطامع الذين اتخذوا قتل عثمان ذريعة لنيل مقاصدهم، وصارت تطالب عليا بدم عثمان جهارا، وقوي عزمها بطلحة والزبير.
وكان قد وصلهم خبر رد أهل الشام بيعة علي، وقيام معاوية بالمطالبة بدم عثمان، فعزموا الشخوص إلى البصرة، وشرعوا في تجهيز الجيوش، وانضم إليهم جمهور كبير، فبلغ ذلك عليا فلم يستطع أن يسلم قتلة عثمان؛ لأنهم يعدون بالألوف، وهم الذين عملوا على توليته الخلافة، ولو أنه أمر بالقبض عليهم لم يسلموا حتى تسفك آخر قطرة من دمائهم، فيكون ذلك صدع لوحدة المسلمين؛ فامتنع علي عن تسليمهم. فخرجت عائشة من مكة ومعها طلحة والزبير وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم، وغيرهم من بني أمية الذين أعانوها، ونادى مناديها في الناس يطلب ثأر عثمان، فاجتمع نحو ثلاثة آلاف مقاتل
21
صفحه نامشخص
فساروا نحو البصرة.
وبلغ عليا خبرهم وكان متجهزا إلى الشام، فأرسل إليهم ينصحهم فلم يجيبوه، فتجهز لهم، وسار في أثرهم قاصدا البصرة، وانضمت له جموع حتى بلغوا نحو تسعة آلاف مقاتل.
22
أما عائشة فإنها وصلت البصرة، واصطف لها الناس في الطريق، فقالوا لها: «يا أم المؤمنين، ما الذي أخرجك من بيتك؟» وعلت أصواتهم بهذه الكلمة وأكثروا عليها، فقالت: «أيها الناس، والله ما بلغ من ذنب عثمان أن يستحل دمه، ولقد قتل مظلوما، غضبنا لكم من السوط والعصا ولا نغضب لعثمان من القتل؟! وإن من الرأي أن ننظر إلى قتلة عثمان فيقتلون به، ثم يرد هذا الأمر شورى على ما جعله عمر بن الخطاب»، فلما أتمت قولها قال فريق من البصريين: «صدقت»، وقال آخرون: «كذبت»؛ وانقسموا إلى قسمين: قسم اتفق مع المطالبين بدم عثمان وهم الأكثر، وقسم عدهم هؤلاء من الخوارج، ولم يزل الناس يقولون ذلك - صدقت، كذبت - حتى ضرب بعضهم وجوه بعض، ورد على عائشة رجل من عبد القيس فنالوا منه، ونتفوا لحيته، وترامى الناس بالحجارة، واضطربوا وهم مجتمعون في مربد البصرة،
23
فجاء رئيس شرطة البصرة حكيم بن جبلة إلى الأمير عثمان بن حنيف، ودعاه إلى قتال أصحاب عائشة، فأبى عثمان، وكان حكيم عند نزول جيش عائشة في الخريبة قد أشار على عثمان بمنعهم من دخور البصرة فأبى وقال: «ما أدري ما رأي أمير المؤمنين في ذلك»، فدخلوا بدون مانع، وكتب الأمير إلى الإمام علي يخبره بقدومهم، وبما حدث يوم دخولهم البصرة.
ثم أتى عبد الله بن الزبير إلى خزينة الرزق؛ ليأخذ الطعام إلى أصحابه منها، فجاء حكيم في سبعمائة من عبد القيس فقاتله، فقتل حكيم وسبعون رجلا من أصحابه، وذلك في جمادى الآخرة سنة 36ه، ثم ملك أصحاب عائشة بيت مال البصرة، وقتلوا من الوكلاء خمسين رجلا، ويروى أنهم هجموا ليلا على دار الإمارة وقتلوا أربعين رجلا من حرس عثمان بن حنيف، وقبضوا على عثمان وحبسوه، واستولوا على دار الإمارة وبيت المال. ثم أطلقوا عثمان،
24
فسار إلى ملاقاة الإمام علي.
وبعد قليل وصل الإمام علي بجيشه، ونزل في الزاوية من البصرة، وأرسل القعقاع إلى الثائرين ينصحهم، وظل يراسلهم ثلاثة أيام، وكتب إلى طلحة والزبير يدعوهما للتدبر في مصير أمرهما، وكتب إلى عائشة يردها عما عزمت عليه. فكتب إليه الزبير يقول: «إنك سرت مسيرا له ما بعده، ولست راجعا وفي نفسك منه حاجة، فاقض لأمرك»، وكتب إليه طلحة: «إنك لست راضيا دون دخولنا في طاعتك، ولسنا بداخلين فيها أبدا، فاقض ما أنت قاض»، وكتبت إليه عائشة: «جل الأمر عن العتاب، والسلام.»
صفحه نامشخص
وأصر طلحة والزبير وعائشة على الحرب، فعبأ الزبير الجيش وتولى قيادته العامة، وجعل طلحة على الفرسان، وعبد الله بن الزبير على المشاة، ومحمد بن طلحة على القلب، ومروان بن الحكم على المقدمة، وعبد الرحمن بن عبادة على الميمنة، وهلال بن وكيع على الميسرة.
وعبأ علي جيشه؛ فجعل على المقدمة عبد الله بن عباس، وعلى المؤخرة هند المرادي، وعلى الفرسان عمار بن ياسر، وعلى المشاة محمد بن أبي بكر، وسلم رايته إلى ابنه محمد بن الحنفية.
فلما تهيأ الفريقان للقتال أمر علي مناديا فنادى في أصحابه: «لا يرمين أحد سهما ولا حجرا، ولا يطعن برمح حتى أعذر إلى القوم فأتخذ عليهم الحجة البالغة.» ثم خرج علي على بغلة النبي الشهباء، ووقف بين الجيشين، فنادى الزبير وطلحة فخرجا إليه، فقال للزبير: «ما الذي حملك على هذا؟» قال: «لأني أراك لست أهلا لهذا الأمر»،
25
فالتفت علي إلى طلحة فقال: «جئت بعرس النبي تقاتل بها، وخبأت عرسك بالبيت، أما بايعتني؟» قال: «بايعناك والسيف على أعناقنا.» ثم قال علي لهما: «استحلفا عائشة بحق الله وبحق رسوله عليها أربع خصال أن تصدق فيها ؛ هل تعلم رجلا في قريش أولى مني برسول الله، وإسلامي قبل كافة الناس، وكفايتي رسول الله كفار العرب بسيفي ورمحي، وعلى براءتي من دم عثمان، وعلى أني لم أستكره أحدا على بيعة، وعلى أني لم أكن أحسن قولا في عثمان منكما»، ثم وجه عتابه نحو الزبير وذكره بأمور كان قد نسيها، فرق له الزبير، أما طلحة فإنه أغلظ له القول في الجواب، ثم انصرفوا إلى مواضعهم.
وأراد علي حقن الدماء فأرسل من ينصح الثائرين ويردعهم، فجرت بين الفريقين مراسلات حتى كاد الصلح أن يتم بها، وشاع بين الجيشين خبر الصلح فاستبشروا بالخير، فلما جن الليل اجتمع الذين اشتركوا في قتل عثمان، وتشاوروا على انتشاب الحرب؛ لأنهم خافوا إن تم الصلح أن يقتلوا بعثمان، فأوقدوا نار الحرب مع الغلس فجفل الناس وتصادموا، وهجم بعضهم على بعض، واستعرت نار الحرب، ونسب كل فريق إلى الفريق الآخر الغدر، وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة فقال: «أدركي، فقد أبى القوم إلا القتال، لعل الله أن يصلح بك»، فركبت على جملها في هودج قد ضربت عليه صفائح الحديد حتى لا تخرقه النبال فتصيبها، وبرزت من البيوت حتى وقفت في وسط جيشها والناس يقتتلون. فقال الزبير لابنه عبد الله: «يا بني، عليك بحربك، أما أنا فراجع إلى بيتي»، فقال عبد الله: «الآن وقد التقت حلقتا البطان، واجتمعت الفئتان؟ والله لا نغسل رءوسنا منها»، فقال الزبير: «يا بني، لا تعد هذا مني جبنا، فوالله ما فارقت أحدا في جاهلية ولا إسلام»، قال: «فما يردك؟» قال: «ما إن علمته كسرك.»
فانصرف الزبير إلى البصرة، ومنها سار قاصدا مكة، فقتله عمرو بن جرموز المجاشعي غدرا
26
بوادي السباع، فتولى القيادة العامة عبد الله بن الزبير، بينما عائشة واقفة إذ فاجأتها الهزيمة، وشرعت جموعها تفر نحو البصرة، فأطافت الخيل بالجمل، وكان البصريون يحمونه، ويقاتلون دونه إكراما للتي عليه. فقالت عائشة لكعب بن سور: «خل عن الجمل، وتقدم بالمصحف فادعهم إليه»، وناولته مصحفا، فاستقبل القوم، فرموه رشقا واحدا فقتلوه، ورموا عائشة في هودجها، فجعلت تنادي: «البقية البقية يا بني»، ويعلو صوتها: «الله الله، اذكروا الله والحساب»، فيأبون إلا إقداما، وبالأخص أهل الكوفة؛ فلما رأى المنهزمون ذلك عادوا ورجعوا في أمر جديد، وصارت عائشة تشجعهم على القتال، وتحضهم على بذل أرواحهم في سبيل نيل الانتصار، فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا، ثم رجعوا فتقاتلوا، وكان طلحة قد قتل،
27
صفحه نامشخص
وجعل القوم يتقاتلون على زمام الجمل، هذا يأخذه ليأسر عائشة، والآخر يأخذه ليخلصها؛ حتى ضاع الزمام بين الأيدي، ومات دون الجمل خلق كثير من الفريقين، وأخذ الزمام سبعون قرشيا ما نجا منهم واحد - ويروى تسعون - وصار الناس يتساقطون تحت الجمل، وعائشة تنادي: «البقية البقية.»
فلما رأى علي اشتداد القتال بين الطرفين أمر بالهجوم على الجمل وأخذه عنوة، ونادى: «اعقروا الجمل»، فهجموا هجمة عظيمة، فعقروا الجمل فسقط، وانهزم جيش عائشة، فأمر علي مناديا فنادى: «لا تتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تدخلوا الدور»، وحمل الهودج من بين القتلى، فإذا هو كالقنفذ لما فيه من السهام، فجاء علي حتى وقف على الجمل، وقال لمحمد بن أبي بكر: «انظر أحية هي أم لا»، ويروى أنه قال له: «انظر، هل وصل إليها شيء من جراحة؟» فأدخل محمد رأسه في هودجها. فقالت: «من أنت؟» قال: «أخوك البر»، فقالت: «عقق»، قال: «يا أخية، هل أصابك شيء؟» فقالت: «ما أنت وذاك.» ويروى أنه لما سقط الجمل اجتمع القعقاع وزفر على قطع بطانه، وحملاه وطافا به، ثم وضعاه، ولما أراد محمد أن ينظر إلى أخته عائشة مد يده في الهودج فقالت عائشة: «من هذا؟ أحرق الله يده»، فقال لها: «قولي: في الدنيا»، فقالت: «في الدنيا». ثم أتاها علي فقال: «كيف أنت يا أماه؟» قالت: «بخير»، قال: «يغفر الله لك»، قالت: «ولك»، فلما كان الليل أدخلها أخوها محمد البصرة بأمر علي، فأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحرث بن أبي طلحة. وانتهت هذه الحادثة بمكان الخريبة بانتصار الإمام علي في يوم الخميس 22 جمادى الآخرة سنة 36ه/656م وكان اشتباكهم في القتال في يوم الخميس 15 من الشهر المذكور - ويروى في 11 منه.
وقتل من الطرفين زهاء عشرة آلاف
28
وسميت وقعة الجمل؛ لأنهم لم يروا منظرا مثل ذلك اليوم الذي تساقط الرجال فيه حول الجمل كتساقط الفراش على السراج، ولما هدأ الناس جهز علي عائشة بكل ما ينبغي من زاد ومتاع وركائب
29
واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمدا وشرذمة من الجند، وسيرها إلى مكة، ومنها إلى المدينة بالاحترام اللائق بها.
ولما كان يوم مسيرها خرج الناس لتشييعها، فخرجت يوم السبت غرة رجب سنة 36ه فوقف لها الإمام علي فودعتهم، وقالت: «يا بني، لا يعتب بعضنا على بعض، والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبين أحمائها»، فقال علي: «صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة»، وشيعها علي بنفسه عدة أميال، وسرح بنيه معها مسافة يوم، وقد ندمت عائشة على ما فعلت وعادت بخفي حنين، وهي أول سيدة عربية قادت الجيوش في الإسلام. (7-2) إمارة عبد الله بن عباس على البصرة
ولما انتهى علي من وقعة الجمل، واستتب أمره في العراق ولى على البصرة عبد الله بن عباس - هو ابن عمه - وذلك في سنة 36ه، وسار هو إلى الكوفة. فلما كانت سنة 37ه سار الإمام علي لقتال معاوية في صفين، وسار عبد الله إلى الكوفة، واستخلف على البصرة زياد ابن أبيه، فوجه معاوية بن أبي سفيان - بعد استيلاء عمرو بن العاص على مصر - في سنة 38ه عامر بن الحضرمي - ويروى أنه عبد الله بن الحضرمي - في جمع إلى البصرة، ولما سيره قال: «يا عامر، إن جل أهل البصرة يرون رأينا في عثمان، وقد قتلوا في الطلب بدمه، فهم لذلك حنقون يودون أن يأتيهم من يجمعهم، وينهض بهم في الطلب بثأرهم ودم إمامهم. فانزل في مضر، وتودد الأزد فإنهم كلهم معك، ودع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم؛ لأنهم كلهم ترابية فاحذرهم»، فسار ابن الحضرمي حتى وصل البصرة، فنزل في بني تميم، فأتاه العثمانية مسلمين عليه، وحضره غيرهم فخطبهم وحثهم على الأخذ بثأر عثمان.
وبلغ ذلك زيادا وهو يومئذ نائبا عن عبد الله بن عباس أمير البصرة، فكتب إلى الإمام علي بالخبر، فأرسل إليه أعين بن ضبيعة التميمي؛ ليفرق قومه عن ابن الحضرمي، فإن امتنعوا قاتل بمن أطاعه من عصاه، وكتب إلى زياد يعلمه ذلك. فلما قدم أعين نزل عند زياد، وجمع رجالا، ثم سار إلى قومه فتبعه عدد قليل، فنهض بمن معه لقتال ابن الحضرمي ومن معه، فواقفهم يوما ثم انصرف، فقتله قومه غدرا.
صفحه نامشخص
فلما قتل أعين أراد زياد قتال بني تميم، فأرسلت تميم إلى الأزد: «إنا لم نعرض لجاركم فما تريدون منا؟» فكرهت الأزد قتالهم وقالوا: «إن عرضوا لجارنا منعناه»، وكان زياد قد لجأ إلى الأزد فأجاروه وحموه، فكتب زياد إلى الإمام علي يخبره بقتل أعين وما جرى، فأرسل علي جارية بن قدامة السعدي التميمي، وبعث معه خمسين رجلا من تميم - ويروى خمسمائة - وكتب إلى زياد يأمره بمعونة جارية والإشارة عليه، فلما قدم جارية البصرة حذره زياد ما أصاب أعين، فأقام جارية في الأزد، وقرأ كتاب علي إلى أهل البصرة يوبخهم ويتهددهم ويتوعدهم بالمسير إليهم والإيقاع بهم. ثم سار جارية إلى قومه بني تميم، وقرأ عليهم كتاب علي، ووعدهم، فأجابه الأزد وكثير من تميم، فسار بمن تبعه لقتال ابن الحضرمي، فالتقيا بالقرب من قصر سنبل السعدي، وكان على خيل ابن الحضرمي عبد الله بن حازم السلمي فاقتتلوا ساعة فانهزم ابن الحضرمي، وتحصن بقصر سنبل،
30
فأحرق جارية القصر بمن فيه، فهلك ابن الحضرمي وسبعون رجلا معه، وعاد زياد إلى القصر، ورجع إلى عمله بعد أن تغلب عليه ابن الحضرمي، واضطره إلى الالتجاء بالأزد هربا منه
31
وعلى إثر ذلك عاد إلى البصرة عبد الله بن العباس.
فلما كانت سنة 40ه وشي أبو الأسود الدؤلي على عبد الله بن عباس، فأرسل الإمام علي إلى عبد الله يعاتبه ويحاسبه في الخراج، وكتب إلى أبي الأسود يأمره بمراقبة أمور البصرة، فاغتاظ ابن عباس، وكتب إلى الإمام علي: «ابعث إلى عملك من أحببت؛ فإني ظاعن عنه، والسلام»، واستدعى أخواله من بني هلال بن عامر، فاجتمعت معه قيس كلها، فسار من البصرة إلى مكة ، فضيع الإمام علي زعيما كبيرا يتبعه عدد كبير، كما ضيع أمثاله بتدقيقه الشديد في محاسبتهم، والمبالغة في المحافظة على الدين في الوقت الذي طمع فيه العمال في الأحكام، وفسدت نياتهم، واتخذ بعض أعدائه قتل عثمان ذريعة للوصول إلى عرش الخلافة، ومنهم معاوية الذي ابتاع الأحزاب بالمال، واجتذب كبار الرجال بالدهاء.
ولما استقال عبد الله بن عباس من إمارة البصرة ولى الإمام علي عليها حمران بن أبان، فبقي على عمله إلى أن قتل الإمام في الكوفة في 17 رمضان سنة 40ه/661م، وتولى الخلافة ابنه الحسن، فلما سلم الحسن لمعاوية الأمر، وتنازل له عن الخلافة في ربيع الأول سنة 41ه/661م بعد أن حكم ستة أشهر عصى حمران بالبصرة.
32 (8) البصرة في عهد الأمويين
لم استقل معاوية بن أبي سفيان بالخلافة، وتم له الأمر سنة 41ه، ووجه الولاة إلى الأمصار، وكان حمران بن أبان قد تغلب على البصرة؛ بعث معاوية بسر بن أرطأة بجيش، فانتزع بسر البصرة من حمران، وتولى إمارتها ستة أشهر ثم عزله معاوية في أواخر هذه السنة - سنة 41ه - وولى على البصرة عتبة بن أبي سفيان، وضم إليه خراسان وسجستان، ثم عزله في سنة 43ه، وأرسل بدله عبد الله بن عامر بن كريز - الذي كان أميرها في أيام عثمان - وضم إليه خراسان، وكان ابن عامر هذا كثير الحلم لينا؛ فطمع به أهل البصرة واستخفوا بالحكومة، وخالفوا أوامرها، فعزله معاوية في سنة 44ه/664م وبعث مكانه الحرث بن عبد الله الأزدي - ويروى: الحارث، وهو من أهل الشام. فلما وصل الحرث إلى البصرة ولى على شرطتها عبد الله بن عمرو الثقفي، واجتهد الحرث في إصلاح الأمور فعجز، وكثر النهب والسلب والقتل، وامتنع أكثر الناس عن تسليم الخراج، واستخفوا برجال الحكومة، فلم يبق لها غير، الاسم فعزله معاوية بعد أربعة أشهر، وولى إمارة البصرة زياد بن أبيه، وذلك في سنة 45ه.
33 (8-1) إمارة زياد على البصرة
صفحه نامشخص
زياد ابن أبيه أو ابن سمية، هو أحد دهاة العرب وساستها وخطباؤها وقادتها، استكتبه أبو موسى الأشعري يوم كان أميرا على البصرة في عهد عمر بن الخطاب، ثم استخلفه عبد الله بن عباس على البصرة مدة في أيام الإمام علي. فلما اضطربت فارس ولاه الإمام علي عليها فتمكن بدهائه من إيقاع الشقاق بين الثائرين، وما زال يضرب بعضهم ببعض حتى سكنت الفتن، وزال الاضطراب، وبقي على عمله حتى قتل الإمام علي، وتولى الحسن وزياد على فارس، فلما تنازل الحسن لمعاوية عن الخلافة بعث معاوية إلى زياد يطالبه في المال، فكتب إليه: «صرفت بعضه في وجهه، واستودعت بعضه للحاجة إليه، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله»، فكتب إليه معاوية بالقدوم لينظر في ذلك، فامتنع زياد. فما ولى معاوية بسرا على البصرة أمره باستقدام زياد، فجمع بسر أولاد زياد في البصرة وحبسهم، وهم: عبد الرحمن، وعبد الله، وعباد، وكتب إلى زياد يقول: «لتقدمن أو لأقتلن بنيك»، فامتنع زياد، واعتزم بسر على قتلهم، فسار أبو بكرة - هو أخو زياد لأمه - إلى معاوية، فلما قدم عليه قال: «إن الناس لم يبايعوك على قتل الأطفال، وإن بسرا يريد قتل بني زياد»، فكتب معاوية إلى بسر يأمره بالإفراج عنهم، فأطلق سراحهم.
وخاف معاوية من زياد فصالحه، واستقدمه إلى الشام، واستلحقه بنسب أبيه سفيان. ثم ولاه البصرة في سنة 45ه/667م.
ولما قدم زياد البصرة دخل مسجدها وصعد منبره، فاجتمع الناس، فخطب خطبته البتراء.
34
الخطبة
أما بعد؛ فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله على النار؛ ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور التي ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول، إنه ليس منكم إلا من طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم الضعيف يقهر والضعيفة المسلوبة في النهار لا تنصر، والعدد غير قليل، والجمع غير مفترق. ألم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة عن دلج الليل وغارة النهار، قربتم القرابة، وباعدتم الدين ، تعتذرون بغير العذر، وتغضون على النكر. كل امرئ منكم يرد عن سفيهه، صنع من لا يخاف عقابا، ولا يرجو معادا، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب. حرام علي الطعام والشراب حتى أضع هذه المواخير بالأرض هدما وإحراقا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما يصلح به أوله؛ لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله، لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمطيع بالعاصي؛ حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: «انج سعد فقد هلك سعيد»، أو تستقيم لي قناتكم.
إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، وقد كان بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس، إنا قد أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا. فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا.
فلما فرغ من خطبته قال له عبد الله بن الأدهم: «أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب»، فقال زياد: «كذبت، ذلك نبي الله داود.»
واستعمل زياد الشدة والعنف، وجرد السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، فخافه الناس وساد الأمن وهدأت الأحوال، واستعمل عند دخوله البصرة على شرطته عبد الله بن الحصين، وأمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل، واستكثر من الشرطة والجند ، فبلغ عدد الشرطة أربعة آلاف شرطي وعدد الجند ثمانين ألفا في البصرة، واستعان زياد في تدبير شئون الإدارة بجماعة من كبار الرجال، منهم أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن الحصين - رئيس شرطة البصرة؛ فساد الأمن، وسارت الأمور على أتم نظام، وزادت عمارة البصرة، وكثرت خيراتها، وتهافت إليها الناس من كل جانب، ويروى أنه ولى قضاء البصرة عمران بن الحصين فاستقال، فولى مكانه عبد الله بن فضالة، ثم أخاه عاصما، ثم زرارة بن أوفى.
ولما مات المغيرة بن شعبة أمير الكوفة في سنة 50ه - ويروى في سنة 49ه - ضم معاوية الكوفة إلى زياد، وجمع له المصرين - البصرة والكوفة - وهي أول مرة ضمتا معا أو أول مرة ضمت الولايتان لوال واحد، ثم ضم إليه خراسان، وأضاف إليه سجستان، ثم جمع له البحرين وعمان. فثبت زياد دعائم الملك لمعاوية، ومنذ ضمت إليه الكوفة في سنة 50ه أخذ يقيم في الكوفة ستة أشهر ومثلها في البصرة،
صفحه نامشخص
35
واستخلف على البصرة عند مسيره إلى الكوفة سمرة بن جندب، فظلم سمرة أهل البصرة حتى قيل إنه قتل ثمانية آلاف منهم في مدة قصيرة، فبلغ ذلك زياد، فأنكر عليه عمله، فعزله، وولى مكانه عبد الله بن عمر بن غيلان.
ولما مات زياد بالكوفة في رمضان في سنة 53ه أقر معاوية على البصرة عبد الله بن عمر بن غيلان، ثم عزله في سنة 55ه، وولى مكانه عبيد الله بن زياد،
36
ثم عزله في سنة 59ه، وبعد أيام قليلة أعاده إليها.
ومات معاوية في سنة 60ه/681م، وتولى بعده ولي عهده ابنه يزيد الأول؛ فأقر عبيد الله على البصرة.
كان ابن زياد مخلص النية لبني سفيان شديدا على أعدائهم، بل إنه كان أشد من أبيه على الخوارج، حتى قيل: إنه قتل منهم يوم إمارته على البصرة عددا عظيما عدا الذين قتلهم صبرا في سنة 58ه وفيهم عروة بن أدية أخو أبي بلال مرداس بن أدية، وكان سبب قتله أن ابن زياد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع الناس وفيهم عروة بن أدية، فقال: «خمس كن في الأمم قبلنا فقد صرن فينا:
أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين .» فلما سمع ذلك ابن زياد ظن أنه لم يجترئ عليه إلا ومعه جماعة من أصحابه، فقام وركب وترك رهانه، فلام الناس عروة وقالوا له: «والله ليقتلنك»، فاختفى عروة فطلبه ابن زياد، ثم قبض عليه فقتله، فخرج مرداس أخو عروة في أربعين رجلا بالأهواز، واجتمع حوله جماعات، فأرسل إليهم ابن زياد ألفي مقاتل تحت قيادة ابن حصن التميمي فاندحر جيش ابن زياد.
وفي أيام إمارة ابن زياد على البصرة قدم الكوفة مسلم بن عقيل داعية للحسين بن علي، وكان على الكوفة يومئذ النعمان بن بشير، فبلغ ذلك يزيد الأول، فعزل النعمان عن الكوفة، وضمها إلى ابن زياد، وكتب إليه يأمره بالقبض على مسلم وقتله أو نفيه من الكوفة، وفي الوقت الذي ورد فيه كتاب يزيد إلى عبيد الله بن زياد وصل كتاب الحسين بن علي إلى شيعته من أهل البصرة مع مولى له اسمه سلمان، يقول لهم فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلام عليكم. أما بعد؛ إني أدعوكم إلى إحياء معالم الحق وإماتة البدع، فإن تجيبوا تهتدوا سبيل الرشاد، والسلام» فكتموه جميعا إلا المنذر بن الجارود فإنه فشاه لتزويجه ابنته هند من ابن زياد، فدخل عليه وأخبره بالكتاب، فطلب ابن زياد رسول الحسين، وقبض عليه وقتله.
وعلى إثر ذلك استخلف ابن زياد على البصرة أخاه عثمان بن زياد، وسار هو إلى الكوفة، فخرج لتشييعه جماعة من أشراف البصرة فيهم المنذر بن الجارود وشريك بن الأعور، فوصل ابن زياد الكوفة، وجرى ما جرى هناك من خيانة الكوفيين، وغدرهم، وقتل مسلم، ثم قتل الحسين بن علي في محرم سنة 61ه، وسودت هذه الحادثة المؤلمة صحائف تاريخ بني أمية.
صفحه نامشخص
وعلى إثر حادثة كربلاء ظهرت الخوارج، وعظم أمرها، فوجه ابن زياد جيشا لقتالهم بالأهواز، فاندحرت عساكره، فاغتاظ حتى كان لا يدع بالبصرة أحدا ممن يتهم برأي الخوارج إلا قتله، حتى قيل: إنه قتل بالتهمة والظنة تسعمائة رجل من البصريين.
ولما مات يزيد الأول في سنة 64ه/684م تفاقم أمر الخوارج، وزادوا بمن التحق بهم من البصريين وغيرهم ممن كانوا على رأيهم، فاضطربت البصرة، وصار أهلها فرقا وأحزابا، وكان ابن زياد يومئذ بالبصرة، فلما بلغه نعي يزيد نادى: «الصلاة جامعة»، فاجتمع الناس بالمسجد فصعد ابن زياد المنبر وقال: «يا أهل البصرة إن مهاجرنا إليكم، ودارنا فيكم، ومولدي فيكم، ولقد وليتكم وما يحصي ديوان مقاتلكم إلا سبعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة ألف، وما كان يحصي ديوان عمالكم إلا تسعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة وأربعين ألفا، وما تركت لكم قاطبة من أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم، وإن يزيد قد توفي، وقد اختلف الناس بالشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددا وأعرضهم فناء وأغنى الناس وأوسعهم بلادا، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه لدينكم وجماعتكم دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على أحد يليكم حتى تقضوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، ولا يستغني الناس عنكم»، فقالوا له: «قد سمعنا مقالتك، وما نعلم أحدا أقوى عليها منك، فهلم فلنبايعك»، فأبى عليهم ذلك ثلاثا، ثم بسط يده فبايعوه بالإمارة، وانصرفوا عنه يمسحون أيديهم بحيطان المسجد، وعبد الله لا يشعر بهم، ويقولون: «أيظن ابن مرجانة أنا ننقاد له في الجماعة والفرقة؟»
وظن ابن زياد أنهم صدقوه، وأنهم بايعوه بنية خالصة، فبعث إلى أهل الكوفة من يطلب بيعتهم له فأبوا ذلك، وأمروا عليهم عامر بن مسعود حتى يجتمع الناس، ثم كتبوا إلى ابن الزبير بمكة يبايعونه بالخلافة، فلما علم البصريون بما فعله الكوفيون خلعوا طاعة ابن زياد، وسخروا منه واحتقروه - ويروى أنهم هموا بقتله - فخاف على نفسه، فاستجار بالحرث بن قيس الأزدي، ثم بمسعود بن عمرو سيد الأزد، فأجاراه، ثم هرب بحاشيته من العراق إلى الشام بعد أن أخذ من بيت المال مليونا وتسعمائة ألف درهم.
واجتمعت كلمة البصريين على توجيه الإمارة لعبد الله بن الحرث بن نوفل، فولوه عليهم إلى أن يجتمع الناس على إمام، وذلك في السنة نفسها 64ه، وهم يومئذ لا إمام لهم ، والخوارج قد صاروا على قاب قوسين أو أدنى منهم.
وخاف البصريون على أنفسهم من الخوارج، فاجتمعوا على توجيه مسلم بن عبيس القرشي لقتالهم، وجمعوا له خمسة آلاف فارس، وسيروه، فالتقى مسلم بالخوارج، فكسروا جيشه، ووقع هو قتيلا في المعركة في محل يسمى الدولاب، فجهزوا جيشا ثانيا - زهاء عشرة آلاف راجل - وأودعوا القيادة إلى عثمان بن معمر القرشي، وسيروه لقتال الخوارج، فلحقهم بفارس، فدارت الدائرة على جيش البصريين، ووقع قائده عثمان قتيلا. (8-2) خروج البصرة من يد الأمويين
وعلى إثر ما تقدم كتب البصريون إلى عبد الله بن الزبير بمكة يعلمونه أن لا إمام لهم، ويبايعونه بالخلافة، ويسألونه أن يوجه إليهم رجلا من قبله يتولى أمر البصرة،
37
فوجه إليهم عمر بن عبد الله بن عمر التميمي، وذلك في سنة 64ه، وكان البصريون يومئذ منقسمين إلى فرق وأحزاب، فاضطرب أمر الإدارة على الأمير فعزله ابن الزبير، وولى مكانه الحرث بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك في سنة 65ه - وسماه بعضهم الحارث، ولما وصل الحرث إلى البصرة جمع أهلها واستشارهم في رجل يوليه حرب الخوارج، فطلبوا القائد المشهور المهلب بن أبي صفرة، وكانت الخوارج المعروفين بالأزارقة قد استولوا حينذاك على أصفهان والأهواز وما بينهما، وتوجهوا نحو البصرة حتى اقتربوا منها، وكان المهلب قد قدم من عند عبد الله بن الزبير إلى البصرة وقد ولاه خراسان، فاجتمع أشراف البصرة وأميرها الحرث، وأحضروا المهلب، وطلبوا منه أن يتولى حرب الخوارج فاعتذر بعهده على خراسان أولا، ثم لبى طلبهم، وانتخب من البصريين ممن يعرف شجاعته ونجدته اثني عشر ألف مقاتل - ويروى عشرون ألفا،
38
وسار حتى التقى بالخوارج، وصار يزيحهم مرحلة بعد مرحلة، حتى انتهوا إلى منزل من الأهواز، وهناك حدثت بين الفريقين معركة هائلة، كاد أهل البصرة ينهزمون لولا ثبات المهلب وقوة جأشه، وأصابت المهلب ضربة في وجهه أغمي عليه منها، فظن أصحابه أنه قد مات، فهاجموا وهجموا هجمة المستميت، فقتلوا عددا كبيرا من الخوارج فيهم زعيمهم نافع بن الأزرق - وقيل: عبيد الله بن الماحوز - وانهزم الباقون هزيمة منكرة إلى كرمان وجانب أصفهان.
صفحه نامشخص
وبلغ أهل البصرة أن المهلب قد قتل، فرجت المدينة بأهلها وهم أمير البصرة الحرث أن يهرب، وبينما هم في خوف واضطراب إذ أقبل رسول المهلب يبشرهم بسلامته وبالنصر، ومعه كتاب المهلب يعرفهم بالظفر وبما حدث، فاستبشروا بذلك واطمئنوا إليه، وأقام أمير البصرة بعد أن هم بالهرب، وأرسل كتاب المهلب إلى ابن الزبير، وذلك في سنة 65ه وبقي المهلب يطارد الخوارج مدة طويلة.
وفي أيام إمارة الحرث بن أبي ربيعة أرسل مروان بن الحكم في سنة 65ه جيشين؛ أحدهما: يقوده ابن زياد إلى إخضاع الجزيرة، وولاه إياها على أن يسير بعد فتحها إلى العراق لأخذه من ابن الزبير، والثاني: يقوده حبيش بن دلجة لقتال عامل ابن الزبير في المدينة «يثرب»، فانتصر حبيش على أمير المدينة، فأرسل أمير البصرة الحرث جيشا من البصرة تحت قيادة حنيف التميمي نجدة لأمير المدينة فاندحر جيش حبيش، ووقع هو قتيلا في المعركة، وعادت فلول جيشه إلى الشام. أما ابن زياد فإنه لما وصل الجزيرة أتاه كتاب عبد الملك بن مروان يخبره بموت أبيه مروان، ويستعمله على ما استعمله عليه أبوه، ويحثه على المسير إلى العراق، فسار حتى إذا كان بعين الوردة قابلته عصابة كبيرة مقبلة من العراق تحت قيادة سليمان بن صرد الخزاعي الكوفي،
39
فتقاتلوا فقتل سليمان ومعظم جيشه، وأقام ابن زياد هناك يترقب الفرص للزحف على العراق.
أما عبد الله بن الزبير: فإنه لما بلغه ما كان من عزم عامله بالبصرة على الهرب عزله، وولى البصرة عبد الله بن معمر، وذلك في سنة 65ه، وفي هذه السنة حدث طاعون بالبصرة، وفتك بأهلها فماتت به أم الأمير عبد الله ثم مات هو أيضا، فولى ابن الزبير على البصرة ابنه حمزة، وكان ضعيف الرأي والتدبير، فعجز عن إدارة الإمارة، واحتقره البصريون، فعزله أبوه، وأعاد الحرث بن أبي ربيعة وذلك في سنة 66ه.
وفي أثناء تلك الفوضى السائدة في العراق وغيره كان قد خرج المختار بن عبيد الثقفي بالعراق مطالبا بدم الحسين بن علي، فاستولى على الكوفة في سنة 66ه/675م وقاتل قاتلي الحسين وظفر بهم وقتلهم، وفيهم شمر بن ذي الجوشن وعمر بن سعد بن أبي وقاص وحفص بن عمر والمذكور وغيره، وبعث برءوسهم إلى محمد بن الحنفية نجل الإمام علي، ثم حارب عبد الله بن زياد فاستولى على الموصل، ولم يزل يقاتل ابن زياد حتى قتله وأحرق جثته في سنة 67ه بعد أن هزم جيوشه، ولكنه كان غير مخلص النية لأحد؛ لأنه من جملة الطامعين بالسيادة في أثناء تلك الفوضى، فكان يدعو الناس إلى بيعة محمد بن الحنفية ظاهرا، وهو يريدها لنفسه باطنا، ولم يكن محمد راضيا بتلك الدعوة، فكتب إليه يتبرأ منه، فحول دعوته لابن الزبير فحدث بينهما اختلاف فيما أنفقه المختار من بيت المال، فخلع المختار طاعة ابن الزبير، واستقل بالكوفة، وكتب إلى علي بن الحسين يرغبه في الخلافة على أن يكون هو وأهل الكوفة أول مبايعيه، فلم يجبه علي إلى ما طلب، فخشي ابن الزبير استفحال أمر المختار فولى أخاه مصعبا العراقين، وعهد إليه أن يقاتل المختار، وأن يستعين بالمهلب بن أبي صفرة، وأن يصلح شئون المصرين - البصرة والكوفة - وذلك في سنة 67ه. (8-3) إمارة مصعب بن الزبير على العراق
تقدم ذكر الأسباب التي دعت عبد الله بن الزبير أن يولي أخاه مصعبا إمارة العراقين في سنة 67ه/687م خصوصا وأنه كان خائفا من أن يحمل عبد الملك بن مروان على العراق وليس هناك من هو كفؤ لملاقاته من القواد المحنكين، ولما قدم مصعب البصرة دخلها متلثما، فدخل المسجد وصعد منبره، فقال الناس: «أمير أمير»، فاجتمعوا، وجاء الأمير المعزول «الحرث» فسفر مصعب لثامه فعرفوه، وأمر مصعب الحرث بصعود المنبر فأجلسه تحته بدرجة، ثم قام مصعب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
بسم الله الرحمن الرحيم:
طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون
إلى قوله:
صفحه نامشخص
من المفسدين (فأشار بيده نحو الشام)،
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (وأشار نحو الحجاز).
ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (وأشار نحو الكوفة).
ثم قال: «يا أهل البصرة، بلغني أنكم تلقبون أمراءكم، وقد لقبت بالجزار»، ويروى أنه قال: «يا أهل البصرة، لا يقدم عليكم أحد إلا لقبتموه، وأنا ألقب نفسي بالجزار.» فصاروا يلقبونه بالجزار، ومكث مصعب في البصرة أياما.
ثم استقدم المهلب بن أبي صفرة؛ ليستعين به كما أمره به أخوه عبد الله، وجاءه أشراف الكوفة وهو بالبصرة، وطلبوا منه أن يسير لتخليص الكوفة من المختار، فجند جيشا عظيما قاده بنفسه ومعه أشراف البصريين، وسار إلى الكوفة لقتال المختار، فالتقى به، وبعد عدة معارك، حدثت بينهما معركة عنيفة دامت ثلاثة أيام متواليات، فانهزم المختار، فحصره مصعب وقتله، ونزل رجاله على حكم مصعب، وكانوا سبعة آلاف - ويروى ثمانية آلاف - فقتلهم كلهم صبرا، وبعث برأس المختار إلى أخيه عبد الله بن الزبير بمكة، وذلك في سنة 67ه. وبقتل المختار تم أمر ابن الزبير في العراق، وهدأت أحوال البصرة وغيرها، وبقي مصعب تارة يمكث في البصرة وآونة بالكوفة.
فلما كانت سنة 70ه أرسل عبد الملك بن مروان خالد بن عبد الله بن أسيد إلى البصرة؛ ليثير القبائل التي حولها على ابن الزبير. فوصل خالد مستخفيا في خاصته، ونزل على عمرو بن أصمع الباهلي، فبلغ ذلك صاحب شرطة البصرة عباد بن الحصين فسار إليه يطلبه، ولم يكن يومئذ مصعب بالبصرة، فانهزم خالد والتجأ بخالد بن مسمع فأجاره، وأرسل إلى قبيلتي بكر بن وائل والأزد، فأتته فرسان القبيلتين، وأول راية وصلته راية بني يشكر، فبلغ ذلك ابن الحصين، فأقبل في الخيل فتواقفوا بغير قتال، فلما كان الغد سار خالد بمن معه إلى محل يسمى الجفرة، فجاءه مدد من عبد الملك بن مروان عليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وفي الوقت نفسه أرسل مصعب ألف فارس مددا لابن الحصين؛ فاشتبكوا في القتال، وكانت الحرب سجالا بين الفريقين، وبعد معارك دامت أربعة وعشرين يوما اصطلحوا على شرط أن يخرج خالد من العراق، فخرج، وعلى إثر ذلك جاء مصعب إلى البصرة فأقام بها.
ولما كانت سنة 71ه سار مصعب بجماعة من رؤساء أهل العراق ووجوههم وأشرافهم قاصدا مكة. فلما وصل دخل على أخيه عبد الله فقال: «يا أمير المؤمنين، قد جئتك برؤساء أهل العراق وأشرافهم، كل مطاع في قومه، وهم الذين سارعوا إلى بيعتك، وقاموا بإحياء دعوتك، ونابذوا أهل معصيتك، وسارعوا في قطع عدوك، فأعطهم من هذا المال»، فقال عبد الله: «جئتني بعبد أهل العراق وتأمرني أن أعطيهم من مال الله، لا أفعل، وايم الله إني لوددت أن أصرفهم كما تصرف الدنانير بالدراهم؛ عشرة من هؤلاء برجل من أهل الشام»، فقال رجل منهم: «علقناك وعلقت أهل الشام»، ثم انصرفوا وهم ناقمون عليه، وقد يئسوا مما عنده، لا يرجون رفده، ولا يطمعون فيما عنده، ويروى أنهم بعد أن رجعوا إلى العراق اجتمعوا وأجمعوا على خلع ابن الزبير، فكتبوا سرا إلى عبد الملك بن مروان أن أقبل إلينا. (8-4) رجوع البصرة إلى بني أمية
كان مروان بن الحكم قد مات في سنة 65ه/684م، وتولى مكانه ابنه الداهية عبد الملك، فاشتغل بإخماد الثورات التي كانت في سورية، ثم أرسل في سنة 70ه خالد بن عبد الله؛ ليثير القبائل العراقية على ابن الزبير - كجس النبض - فلما انتهى من أشغاله في سورية في سنة 72ه استعد لقتال عبد الله بن الزبير، وكان قد بلغه ما جرى في العراق على يد المختار ثم على يد مصعب، وما حدث من الفتن والثورات حتى دانت البلاد العراقية لابن الزبير، وبلغ عبد الله بن الزبير استعداد عبد الملك، فكتب إلى أخيه مصعب بالكوفة يأمره بالمسير إلى الشام لقتال عبد الملك، فاستعد مصعب للمسير، وجهز الجيوش، وجعل على مقدمته إبراهيم بن الأشتر، وفي الوقت نفسه جهز عبد الملك جيشا عرمرما وسار به من الشام قاصدا العراق لمحاربة مصعب بن الزبير، واستصحب معه جماعة من القواد الكبار، فيهم الحجاج بن يوسف الثقفي، فالتقى الجيشان بمسكن،
40
وذلك في سنة 72ه.
صفحه نامشخص
وكان عبد الملك ومصعب قبل ذلك متصافيين وصديقين متحابين، فبعث إليه عبد الملك أن ادن مني أكلمك، فدنا كل واحد من صاحبه، وتنحى الناس، فسلم عبد الملك عليه ، وقال له: «يا مصعب، قد علمت ما أجرى الله بيني وبينك منذ ثلاثين سنة، وما اعتقدته من إخائي وصحبتي، والله أنا خير لك من عبد الله، وأنفع منه لدينك ودنياك، فثق بذلك مني، وانصرف إلى وجوه هؤلاء القوم، وخذ بيعة هذين المصرين - البصرة والكوفة - والأمر أمرك لا تعصى ولا تخالف، وإن شئت اتخذتك وزيرا لا تعصى»، فقال له مصعب: «أما ما ذكرت في من ثقتي بك ومودتي وإخائي فذلك كما ذكرته، ولكن بعد قتلك عمرو بن سعيد لا يطمأن إليك، وهو أقرب رحما مني إليك وأولى بما عندك فقتلته غدرا، ووالله لو قتلته في ضرب وحرب لمسك عاره ولما سلمت من إثمه، وأما ما ذكرته من أنك خير لي من أخي فدع عنك أبا بكر، وإياك وإياه، لا تتعرض له، واتركه ما تركك، واربح عاجل عافيته، وارج الله في السلامة من عاقبته»، فقال عبد الملك: «لا تخوفني به، فوالله إني لأعلم منه مثل ما تعلم، إن فيه ثلات لا يسود بها أبدا: عجب قد ملأه، واستغناء برأيه، وبخل التزمه.»
فلما يئس عبد الملك من مصعب رجع إلى مقره، وكتب إلى رؤساء العراقين - البصرة والكوفة - الذين هم أمراء جيش مصعب يفسدهم عليه، ويدعوهم إلى نفسه، ويوعدهم خيرا إن أطاعوه، ويهددهم شرا إن هم عصوه، وجعل لهم أموالا عامة وعهودا وشروطا، وكتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي قائد مقدمة مصعب يجعل له وحده مثل جميع ما جعل لأصحابه على أن يخلعوا عبد الله بن الزبير، فأجابه أكثرهم، وشرطوا عليه شروطا، وسألوه الولايات؛ لأن نياتهم كانت قد فسدت على ابن الزبير، حتى قيل: إن أربعين زعيما منهم سألوه ولاية أصبهان، فقال عبد الملك لمن حضره: «ويحكم ما أصبهان هذه؟!» تعجبا ممن طلبها، كل ذلك جرى ومصعب لا يتصور الغدر في أصحابه. فجاءه أحدهم وهو إبراهيم بن الأشتر فأراه كتاب عبد الملك، وأكد له أنه كاتب غيره، ونصحه أن يستوثق منهم أو يقتلهم؛ لئلا يكونوا سببا لفشله، فقال مصعب: «ما كنت لأفعل ذلك حتى يستبين لي ذلك من أمرهم»، قال إبراهيم: «فأخرى»، قال: «وما هي؟» قال: «احبسهم في السجن حتى يتبين ذلك»، فأبى مصعب، فقال إبراهيم: «عليك السلام ورحمة الله وبركاته»، وكان إبراهيم هذا قد قال لمصعب قبل ذلك: «دعني أدعو أهل الكوفة بدعوة لا يخلعونها أبدا، وهي ما شرط الله»، فقال مصعب: «لا، والله لا أفعل، لا أكون قتلتهم بالأمس وأستنصر بهم اليوم.»
وعلى إثر ذلك اشتبكوا في القتال، والتحم الجيشان، فلما حمي وطيس الحرب حول هؤلاء الرؤساء برءوسهم ومالوا إلى عبد الملك وانضموا إليه بجموعهم، ومصعب ينظر إليهم وقد ندم على عدم سماعه النصيحة من إبراهيم، ولات ساعة مندم، وبقي في شرذمة قليلة من المخلصين له. فلما غدر أهل العراق بمصعب وانجلت خيانتهم قال لابنه عيسى: «يا بني، انج بنفسك، فلعن الله أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق»، فقال عيسى: «لا خير في الحياة بعدك يا أباه»، وظل يقاتل مع أبيه قتالا شديدا حتى قتل هو وإبراهيم بن الأشتر وجماعة من أنصار مصعب، وحمل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على مصعب، فقال: «أيها الناس، أيها الأمير»، فقال مصعب: «غدركم يا أهل العراق»، فرفع عبيد الله سيفه ليضرب مصعبا فبدره مصعب بالسيف على البيضة، فنشب فيها، فجعل يقلب السيف ولا ينتزع من البيضة، فجاء غلام لعبيد الله فضرب مصعبا بالسيف فقتله، ثم حز رأسه عبيد الله وسار به إلى عبد الملك، فلما رآه سجد شكرا لله، وذلك في جمادى الآخرة سنة 72ه، ودفن مصعب في محل المعركة، ولم يكن لفشله سبب غير غدر أهل المصرين - البصرة والكوفة. (8-5) إمارة خالد
وعلى إثر ما تقدم بايع أهل العراق لعبد الملك بن مروان، فدخل الكوفة باحتفال عظيم فبايعه أهلها، ولما سكن الحال ولى على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وبعد أن دبر عبد الملك شئون البلاد العراقية جهز الحجاج بن يوسف الثقفي بجيش كبير - قيل: أرسل معه ألفا وخمسمائة من أهل الشام عدا أهل العراق - وسيره لقتال عبد الله بن الزبير بمكة ، فانتصر الحجاج، ومات ابن الزبير قتيلا في سنة 73ه وانتهت الخلافة، ولم يبق أمام عبد الملك من مناظر، وكانت مدة حكم ابن الزبير على البصرة ثمانية سنوات (64-72ه)، أما أمير البصرة الجديد خالد بن عبد الله، فإنه عزل المهلب بن أبي صفرة عن حرب الخوارج، وولاه الأهواز، وأرسل أخاه عبد العزيز بن عبد الله على حرب الخوارج، فهزموه هزيمة منكرة، فلما بلغ خالدا خبر الهزيمة كتب إلى عبد الملك يخبره بها، فكتب إليه يقول: «أما بعد؛ فقد قدم رسولك بكتابك تعلمني فيه بعثتك أخاك على قتال الخوارج، وبهزيمة من هزم وقتل من قتل، وسألت رسولك عن مكان المهلب، فحدثني أنه عامل لك على الأهواز، فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج وهو الميمون النقية الحسن السياسة البصير بالحرب المقاسي لها ابنها وابن أبنائها، انظر، ينهض بالناس حتى تستقبلهم بالأهواز ومن وراء الأهواز، وقد بعثت إلى بشر أن يمدك بجيش من أهل الكوفة، فإذا لقيت عدوك فلا تعمل فيهم برأي حتى تحضره المهلب وتستشيره فيه إن شاء الله.» فخرج خالد بجيش البصرة، وجاءه المدد من الكوفة - خمسة آلاف مقاتل - فسار حتى وصل الأهواز، ففشلت جيوشه. فلما علم بذلك عبد الملك ورآه غير ممتثل لأمره عزله، وضم البصرة إلى أخيه بشر بن مروان، وذلك في سنة 72ه، وصارت له إمارة المصرين - البصرة والكوفة، وفي أيام إمارة خالد في سنة 72ه اجتمع الزنوج بفرات البصرة ونهبوا وسلبوا ودمروا بعض القرى المجاورة للبصرة، فجمع لهم خالد جيشا فهزمهم، وقبض على جماعة منهم فقتلهم، وعلى إثر ذلك اجتمع الزنوج وأمروا عليهم رباح الملقب ب «شيرزنجي»، وساروا لقتال البصريين فحدثت بين الفريقين عدة معارك انجلت عن تمزيق الزنوج.
ولما ضم عبد الملك البصرة إلى أخيه بشر في سنة 72ه استخلف على الكوفة عمرو بن حريث، وسار إلى البصرة، فورده كتاب عبد الملك يقول فيه: «أما بعد، فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة - الخوارج، ولينتخب من أهل مصره ووجوههم وفرسانهم وأولي الفضل والتجربة منهم، فإنه أعرف بهم، وخله ورأيه في الحرب فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين.» فدعا بشر المهلب، وتلا عليه كتاب عبد الملك، فلبى الأمر، وشرعا بتجهيز الجيوش، وجاءتهم نجدة من الكوفة، فسار المهلب بالجيوش حتى وصل رامهرمز وبها الخوارج، وقبل الاشتباك بالحرب جاءهم نعي بشر بن مروان من البصرة وخبر إسناد إمارة البصرة إلى خالد بن عبد الله بن أسيد، فرفض القتال كثير من أهل البصرة والكوفة، فكتب إليهم خالد يأمرهم بالعودة ويحذرهم المخالفة، فلم يجد ذلك فيهم نفعا، وذلك في سنة 73ه. وفي أيام بشر كثرت الخوارج في أطراف البصرة، وأغاروا على القرى، وخربوا عدة منها، وقتلوا ونهبوا، فجهز لهم بشر فمزق جموعهم. (8-6) إمارة الحجاج
دخلت سنة 75ه الموافقة لسنة 695م فولى عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي العراقين - البصرة والكوفة،
41
فوصل الحجاج الكوفة في اثني عشر راكبا على النجائب، وأرسل إلى البصرة الحكم بن أيوب الثقفي أميرا من قبله، وبعد أيام قليلة سار الحجاج إلى البصرة، فاستقبله الناس، فلما وصلها دخل مسجدها، وخطب خطبة تشابه خطبته بالكوفة، وبعد أن هددهم وتوعدهم قال: «إن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم - يعني الخوارج - مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذه عطاءه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه»، ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون، فجاءه رجل يشكري فقال: «أيها الأمير، إن بي فتقا، وقد رآه بشر بن مروان فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال.» فلم يقبل الحجاج عذره وقتله، ففزع لذلك البصريون، خصوصا وأنهم كانوا قد حقدوا عليه، وأضمروا له الشر منذ أغلظ لهم القول في خطبته وتهددهم، فخرجوا حتى تداركوا على العارض بقنطرة رامهرمز، وخرج الحجاج حتى نزل رستقاباذ ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخا، فقام الحجاج في الناس، فقال: «إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم لست أجيزها»، فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي، وقال: «إنها ليست بزيادة ابن الزبير، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك، أثبتها لنا»، فكذبه الحجاج وتوعده، وذلك في أوائل شعبان سنة 75ه.
ثم وجه الحجاج المهلب لقتال الخوارج، ووجه معه البصريين والكوفيين، وظل المهلب يطارد الخوارج مدة حتى قهرهم بعد أن جرت له معهم حروب عديدة لا محل لذكرها هنا، وظل البصريون يضمرون الشر للحجاج حتى اجتمعوا سرا فبايعوا عبد الله بن الجارود بالإمارة، فخرج ابن الجارود في سنة 77ه، وتبعه وجوه البصرة، فتجهز الحجاج لقتالهم، وبعد عدة معارك خاف أصحاب ابن الجارود من أن يمد عبد الملك الحجاج بالجيوش؛ فانضمت إليه جماعة بعد أخرى، حتى انحاز أكثرهم إلى الحجاج، وظل ابن الجارود بشرذمة قليلة فانتصر الحجاج، وقتل زعيم الثورة ابن الجارود وجماعة من أصحابه، ودخل البصرة ظافرا. ثم حدثت الحروب المشهورة بين الحجاج وشبيب بالكوفة، كان النصر في آخرها للحجاج. (8-7) استيلاء ابن الأشعث على البصرة
ولما بعث الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث إلى سجستان لقتال الثائرين هناك جهز عشرين ألفا من البصرة ومثلهم من الكوفة، وسيرهم معه إلى سجستان. فلما صالح ابن الأشعث الثائرين عزله الحجاج، فاتفق ابن الأشعث مع رؤساء جيشه على الخروج على الحجاج، فعادوا من سجستان، فلما كانوا في فارس خلعوا عبد الملك بن مروان، وبايعوا ابن الأشعث، فسار بهم إلى العراق قاصدا قتال الحجاج ونفيه من البلاد، وبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عبد الملك يخبره ويسأله أن يوجه إليه الجنود من الشام ، فبادر عبد الملك بإرسال الجنود، والحجاج مقيم بالبصرة، وبعد قليل وصل ابن الأشعث العراق، فالتقى جيشه بجيش الحجاج في «تستر»، فانكسرت مقدمة الحجاج وجاءته الهزيمة، فرجع ونزل الزاوية، وجاءت جيوش ابن الأشعث حتى نزلت البصرة، فبايعه أهلها، وكان دخوله فيها في آخر ذي الحجة سنة 81ه.
صفحه نامشخص
وعلى إثر ذلك جمع الحجاج جيشه، وجاءته الإمدادات من سورية، فتقابل الجيشان بالزاوية، فانكسرت جيوش ابن الأشعث، فاضطر إلى الخروج من البصرة، فخرج منها وسار إلى الكوفة. أما الحجاج: فإنه ولى على البصرة أميرها السابق الحكم بن أيوب الثقفي، وسار هو بجيوشه في إثر ابن الأشعث، وبعد حروب استمرت مدة طويلة انتصر الحجاج انتصارا نهائيا في جمادى الآخرة سنة 83ه، وفر ابن الأشعث إلى سجستان، وهناك مات منتحرا.
وفي أيامه في سنة 80ه حدث بالبصرة طاعون، فمات به خلق كثير، وفر منه عدد كبير من البصريين، وتفرقوا في البلاد.
ولما مات عبد الملك بن مروان في سنة 86ه الموافقة لسنة 705م وتولى ابنه الوليد؛ أقر الحجاج على العراق وخراسان والشرق كله، وفي سنة 87ه ولى الحجاج البصرة الجراح بن عبد الله العكي، ثم مات الحجاج في سنة 95ه الموافقة لسنة 713م بمدينة واسط التي بناها في سنة 81ه، بعد أن حكم العراق زهاء عشرين سنة. (8-8) استيلاء ابن المهلب على البصرة
كان الحجاج لما حضرته الوفاة قد استخلف على حرب المصرين يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، وعلى الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج، فأقرهم الوليد بن عبد الملك، ثم ولى إمارة العراق في السنة نفسها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وذلك في سنة 95ه.
فلما مات الوليد في سنة 96ه/714م وبويع لأخيه سليمان بن عبد الملك ولى العراق يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فأقام يزيد بالبصرة، فلما كانت سنة 97ه نقله إلى ولاية خراسان، وولى على البصرة بدله عبد الله بن هلال الكلابي، ثم عزله في سنة 98ه وجعل مكانه سفيان بن عبد الله الكندي.
ولما مات سليمان بن عبد الملك في سنة 99ه الموافقة لسنة 717م وتولى الخلافة عمر بن عبد العزيز ولى على البصرة عدي بن أرطأة الفزاري، وولى قضاءها إياس بن معاوية بن قرة بن إياس بن هلال القاضي المشهور، وفي السنة نفسها عزل عمر يزيد بن المهلب عن خراسان، وأمر بالقبض عليه وإحضاره، وكان يزيد يومئذ في خراسان، فأقبل منها يريد العراق، فلما دخل البصرة قبض عليه أميرها عدي بن أرطأة، فحبسه ثم أوثقه، وبعثه مخفورا إلى عمر بن عبد العزيز بدمشق، فلما حضر سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك، فقال يزيد: «كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني به»، فقال عمر: «لا أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله، وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها»، فلما لم يجد عمر عند يزيد عذرا مقبولا أمر بحبسه بحصن حلب، واستمر يزيد بن المهلب في سجنه، فلما مرض عمر بن عبد العزيز مرضه الذي مات فيه في سنة 101ه/720م حس ابن المهلب بقرب موت عمر، فأعد للهرب عدته خوفا من يزيد بن عبد الملك لعداوة بينهما، فانهزم من السجن قاصدا البصرة، وكتب إلى عمر: «إني والله لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك، ولكني خفت أن يلي الخلافة يزيد بن عبد الملك فيقتلني شر قتلة» فوصل كتابه وبعمر رمق فقال: «اللهم إن كان يريد بالمسلمين سوءا فألحقه به، وهضه فقد هاضني.»
ومات عمر بعد أيام قليلة، وتولى مكانه يزيد بن عبد الملك بن مروان، فبلغ ذلك يزيد بن المهلب فخلع طاعة بني مروان، ولحق بالبصرة، ودعا لنفسه، فاجتمع حوله خلق، وبلغ جيشه مائة وعشرين ألف مقاتل، فحمل على البصرة بعد أن استولى على أطرافها وعلى فارس والأهواز، فحصن البصرة أميرها عدي بن أرطأة، ودافع عنها دفاعا شديدا، وبعد حروب استولى ابن المهلب على البصرة، وقبض على عدي وجماعة من أصحابه فحبسهم، واستعمل الشدة، فهرب جماعة من أعيان البصرة إلى الشام وجماعة إلى الكوفة، وذلك في سنة 101ه/720م، وقوي أمر ابن المهلب، فخافه يزيد بن عبد الملك، فجهز جيشا كبيرا من الشام بلغ عدده ثمانين ألف مقاتل، وسيره تحت قيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك، وأرسل معه ابن أخيه العباس بن الوليد، وذلك في سنة 102ه.
أما ابن المهلب فإنه لما بلغه قدوم جيش ابن عبد الملك استعد لملاقاته، وجمع أهل البصرة فخطب فيهم، ودعاهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وحثهم على جهاد بني أمية، وزعم أن قتال أهل الشام أعظم ثوابا من قتال الترك والديلم، فانضم إليه من البصريين عدد كبير، فلما تهيأ للمسير اصطف له البصريون صفين، وقد نصبوا الرايات والرماح وهم ينتظرون خروجه، ويقولون: «يدعونا إلى سنة العمرين»، فاتفق أن مر الحسن البصري سيد فقهاء أهل البصرة، فرأى الرايات والرماح وصفوف البصريين فقال: «كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بها إلى بني مروان يريد بهلاك هؤلاء القوم رضاهم، فلما غضب غضبة نصب قصبا، ثم وضع عليها خرقا، ثم قال: «إني قد خالفتهم فخالفوهم»، فقال هؤلاء القوم: «نعم»، وقال: «إني أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله ثم يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه»، ويروى أن الحسن كان ممن حضر خطبة ابن المهلب، فلما سمعها قال: «والله لقد رأيناك واليا وموليا فما ينبغي لك ذلك»، فقام الناس فأسكتوه خوفا من أن يسمعه ابن المهلب.
ثم ولى ابن المهلب أخاه مروان على البصرة - وقيل: استخلف على البصرة ابنه معاوية - وخرج بجيوشه حتى أتى واسطا، فأقام بها أياما، ثم سار منها حتى نزل العقر، وأقبل مسلمة بن عبد الملك فنزل بجيوشه على ابن المهلب، فاشتبكوا في القتال، فكانت بين الفريقين حروب هائلة دامت ثمانية أيام، فلما حمي وطيس الحرب تفرق أصحاب ابن المهلب، وثبت معه البصريون، فاستمات ابن المهلب، وهجم بأصحابه الصادقين هجمات هائلة لم يسمع بمثلها حتى قتل في يوم الجمعة 12 صفر سنة 102ه، وقتل معه أخوه حبيب بن المهلب
42
صفحه نامشخص
وجماعة من أصحابه المخلصين، وفر من نجا، وقتل في هذه الحادثة ثمانية عشر ألف رجل من البصريين - ويروى ثمانية وعشرون ألفا، فلما بلغ أهل البصرة خبر قتلاهم ارتجت المدينة، وكثرت فيها المآتم، حتى قيل: إن المآتم دامت نحو سنة.
ولما انتهت فتنة ابن المهلب أسند يزيد بن عبد الملك إمارة العراق وخراسان إلى أخيه مسلمة، فاستخلف هذا الأمير على البصرة عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وذلك في سنة 102ه، ثم عزل يزيد أخاه مسلمة في سنة 103ه، وأرسل بدله عمر بن هبيرة الفزاري، فاستخلف ابن هبيرة على البصرة موسى بن عبد الله. فلما مات يزيد وتولى أخوه هشام بن عبد الملك في سنة 105ه/724م أقر ابن هبيرة على العراق، ثم عزله في سنة 106ه، وولى مكانه خالد بن عبد الله القسري، فأرسل خالد عقبة بن عبد الأعلى أميرا على البصرة، حتى إذا كانت سنة 109ه عزله، ووجه إمارة البصرة إلى أبان بن صبارة اليثربي، ثم عزله في سنة 110ه، فولى مكانه بلال بن أبي بكرة - ويروى ابن أبي بردة - وضم إليه قضاء البصرة، وفي أول إمارته في سنة 110ه مات بالبصرة الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشاعر المشهور الفرزدق، وفي أيامه في سنة 116ه حدث بالبصرة طاعون دام أكثر من شهر، فمات به عدد كبير من البصريين، وفي أيامه أحصيت نفوس أهل البصرة بعد الطاعون فكانت ثلاثمائة ألف نسمة، ولما كانت سنة 120ه عزل هشام خالدا عن العراق، وولى مكانه يوسف بن عمرو الثقفي، فأرسل يوسف كثير بن عبد الله السلمي أميرا على البصرة. فمات هشام في سنة 125ه/743م، وتولى بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فقتل في سنة 126ه، وجلس مكانه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فولى إمارة العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في السنة نفسها، فاستخلف على البصرة المسور بن عمرو بن عباد، وفي أيامه ظهرت الدعوة العباسية، ودخل البصرة سرا دعاة بني العباس، فنشروا دعوتهم، فاستجاب لهم كثير من البصريين خفية؛ لأنهم كانوا قد سئموا حكم الأمويين، فلما مات يزيد بعد ستة أشهر بويع لإبراهيم بن الوليد، فخلع نفسه وبايع مروان بن محمد في سنة 127ه/745م، وفي كل هذه المدة كانت الفتن متوالية في العراق؛ بل إن المملكة الإسلامية كانت بعد هشام بن عبد الملك كشعلة نار. (8-9) انقراض الدولة الأموية من البصرة
كان مروان بن محمد قد أقر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز على إمارة العراق، فخرج عليه الضحاك بن قيس، فحدثت بينه وبين عبد الله ابن عبد العزيز عدة حروب، انتصر في أكثرها الضحاك، ثم حمل على البصرة وحاصرها ثمانية أيام حتى اضطر أميرها المسور إلى تسليمها، فسلمها إلى الضحاك بعد أن أعطاه الأمان، وذلك في سنة 128ه/745م، فبلغ ذلك مروان فعزل عبد الله بن عمر عن العراق، وأرسل بدله يزيد بن هبيرة، وسير معه جيشا كبيرا لقتال الضحاك وغيره من الخوارج، وبعد أن قمع يزيد من بالكوفة من الخوارج سار إلى البصرة وحارب من حولها من الخوارج إحدى عشر يوما، فاسترد البصرة وانهزم الضحاك، فدخل يزيد البصرة ظافرا، وضبط نواحيها، وولى عليها شبيب بن شيبة؛ فساد الأمن فيها، وذلك في سنة 129ه، وعلى إثر ذلك ثار في العراق سليمان بن هشام بن عبد الملك، وطلب الخلافة لنفسه، وانضم إليه عشرة آلاف من البصريين، وبايعوه بالخلافة، ثم سار بجموع لحرب مروان بالشام، فلاقاه مروان فانتصر عليه، وتمزقت جموع سليمان.
وفي أيام ابن هبيرة حدث بالبصرة في سنة 130ه طاعون، فمات به خلق كثير، وعلى ذلك تولى إمارة البصرة مسلم بن قتيبة الباهلي في سنة 131ه، وفي أيامه قوي أمر بني العباس، وظهرت دعوتهم، فكانت الضربة القاضية على بني أمية.
ولما انتشرت عساكر العباسيين حصن البصرة مسلم بن قتيبة، واستعد للدفاع، فأرسل عبد الله السفاح مؤسس الدولة العباسية جيشا كبيرا لأخذ البصرة بقيادة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، ووجه إليه إمارة البصرة. فلما وصل سفيان طلب تسليم المدينة فأبى أميرها مسلم معتمدا على ما عنده من العدد والعدد؛ إذ كان في البصرة حينذاك جماعة من بني أمية وكثير من ولاة الأمويين الذين فروا من خراسان بعد تغلب قواد بني العباس عليها، وكان فيها أربعة آلاف مقاتل جاءت نجدة إليه عدا جيوش المدينة.
فلما رأى سفيان امتناع مسلم باشر الحرب، فاشتدت المعارك سبعة أيام متوالية، فانجلت عن انتصار جيوش بني العباس، فدخل سفيان البصرة منصورا، وعلى يده انقرضت دولة بني أمية من البصرة، وذلك في سنة 132ه، وقد قتل في هذه الحادثة عدد كثير من البصريين، ونكبت هذه المدينة نكبة عظيمة يوم سقوطها؛ إذ قام الرعاع فنهبوا وسلبوا وقتلوا؛ فنهبت أكثر الأسواق، وخربت دور كثيرة - قيل بلغ عددها سبعة آلاف دار - وأحصي من قتل في هذه الفتنة من أهل بصرة فكانوا أحد عشر ألفا.
ولما دخل القائد العباسي سفيان أعلن الأمان، وأمر مناديه، فاجتمع الناس في المسجد، فخطب فيهم لبني العباس، فبايع الناس للسفاح، ثم شرع في تنظيم شئون إمارته، ثم قبض على جماعة من بني أمية الذين كانوا في البصرة، فقتلهم وصلب جثثهم، وكتب بالفتح وبالخبر إلى الخليفة السفاح بالكوفة. (8-10) تتمة لما مر
كان الأمويون كثيري الاهتمام بشئون البصرة؛ لأهمية موقعها الجغرافي والتجاري والسياسي، ولكونها وسطا بين سورية والحجاز وفارس وبين النهرين؛ ولذلك اتخذوها في بعض الأحيان مقرا لإمارة العراق، ولما رأى الناس اعتناءهم الشديد بهذه المدينة تهافتوا إليها من كل الجهات حتى أصبحت في عهدهم من أعظم مدن الشرق، وصارت مهدا للعلوم والفنون والآداب، ومركزا للتجارة والصناعة، ومجتمعا لكبار الرجال من العلماء والفقهاء والفلاسفة والشعراء وغيرهم.
ومع وجود الفتن والاضطرابات أحيانا حول المدينة وأخرى في داخلها كانت عمارتها في أيامهم تزداد عاما فعاما، حتى قيل: بلغت مساحتها في أيام إمارة خالد بن عبد الله القسري 36 ميلا مربعا، عدا المغارس التي بها البساتين والأنهار، وبالغ بعضهم فقال: بلغت أنهارها التي تجري فيها الزوارق في أيام إمارة بلال بن أبي بردة مائة وعشرين ألفا.
وكان الولاة في عهدهم يتصرفون في الإمارة، ويجبون الأموال، وينفقون منها على الجند وفي ما تقتضيه الحالة، وعلى العمارة؛ من إصلاح الجسور وحفر الترع وغير ذلك، ثم يرسلون ما بقي إلى بيت المال في مركز الإمارة العامة «الكوفة»، أو إلى بيت المال في العاصمة «دمشق».
صفحه نامشخص