[المجلد الأول]
بسم الله الرحمن الرحيم
المؤلف والكتاب
كلمة الناشر
العلامة ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ، ولد في تونس سنة ٧٣٢ هـ- ٣٣٢ م، ينحدر من أصل أندلسي إشبيلي، تلقى العلم على عدد كبير من العلماء الاندلسيين الذين هاجروا إلى تونس.
وإذا كان في شبابه اجتذبه بلاط بني مرين في فاس للخدمة فيه فقد أتيح له الاتصال هناك بالوزير لسان الدين ابن الخطيب خلال فترة نفيه مع سلطانه إلى المغرب وقد توطدت بين الرجلين صداقة متينة ظهرت بوضوح في تلك الترجمة التي أفردها له ابن الخطيب في كتابه «الاحاطة في أخبار غرناطة» بعد عودته الى وطنه قال فيه:
... مفخر من مفاخر التخوم المغربية- أي ابن خلدون- شرح البردة شرحا بديعا دل على غزارة حفظه وتفنن إدراكه ولخص كثيرا من كتب- ابن رشد وعلق للسلطان أبي سالم في العقليات تقييدا مفيدا في المنطق، ولخص محصل الامام فخر الدين الرازيّ، وألف كتابا في الحساب، وشرع في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه بشيء لا غاية فوقه في الكمال [١]» .
وإذا كان ابن خلدون انغمر في حياة سياسية حافلة سواء في بلاط المرينيين بفاس أو الحفصيين في تونس فإنه اعتزل السياسة وآثر الانطواء بعد مقتل صديقه ابن الخطيب في سجنه فقد ملّ السياسة وانسحب من الحياة العامة واختلى أربع سنوات ٧٧٦- ٧٨٠ هـ- في قلعة بني سلامه في ولاية وهران غربي الجزائر وفي تلك الخلوة كتب «مقدمة» والتي اشتهرت بمقدمة ابن خلدون والتي قال عنها هو: «سالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها، على ذلك النحو الّذي اهتديت إليه في تلك الخلوة» .
وعاش ابن خلدون بعد ذلك مدة طويلة ارتحل خلالها الى الشام ومصر حيث ولي منصب قاضي القضاة المالكية، في مصر عدة مرات، وتصادف أيضا وجوده في دمشق عند ما حاصرها المغولي، تيمور لنك. وتمكن من الخروج قاصدا تيمور لنك، متوسلا إليه إنقاذ المدينة. وبعدها
_________
[١] يشير بذلك الى كتاب الحلل المرموقة في اللمع المنظومة لابن الخطيب وهو الفية في أصول الفقه.
1 / 3
عاد ابن خلدون الى مصر وتوفي فيها سنة ٨٠٨ هـ- ومن أشهر مؤلفاته في التاريخ: «التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا» وكتاب «العبر وديوان المبتدإ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر» وهو كتابنا هذا الّذي نقدم له.
يتألف الكتاب من سبعة أجزاء وجزء ثامن للفهارس الجزء الأول منه: مقدمة ابن خلدون المشهورة والتي تضمنت نظريته في التاريخ على أنه فرع من الفلسفة وأنه لا بد من تحليل الحوادث التاريخية وذلك بدراسة طبائع البشر والعمران وأنظمة الحكم والسلطان واستقصاء عللها وأسبابها لفهم التاريخ واستخلاص منه العبر وتناول في بقية الاجزاء الستة التالية أخبار العرب وأجيالهم ودولهم ومن عاصرهم من الدول المشاهير منذ بدء الخليقة الى عصره، ثم أخبار البربر وأجيالهم وما كان بديار المغرب خاصة والمشرق عامة من الملك والدول.
والجزء الثامن فهارس عامة.
وقد تفردت هذه النسخة بتعليقات وشروحات معتمدة على المقارنة بين كل النسخ المتوافرة بالإضافة الى المراجع العديدة لضبط النص والأحداث والأسماء حيث لاحظنا تحريف في الأسماء ناجم عن الأسماء الأعجمية والبربرية وغيرها كما يعود الاضطراب الى أخطاء النساخ والناقلين وقد ضبطنا هذه الأسماء وأشرنا في الهوامش اليها كما وردت في مختلف النسخ واستعنا لذلك بتاريخ ابن الأثير «الكامل في التاريخ» وتاريخ الطبري كما استعنا بمكتبة الدكتور سهيل زكار فيما يخص تاريخ شمال افريقية.
كما لاحظنا اضطرابا في نقل النص أحيانا وأحيانا أخرى عمد المؤلف الى ترك أمكنة بيضاء ليعود الى إملائها فيما بعد ولكن الموت عاجله قبل ذلك كما أن بعض النساخ أحيانا يترك فراغا مكان الكلمة التي لا يفهمها أو غير المقروءة ولا يعود اليها وعمدنا الى ملأ الفراغ ما أمكن من النسخ الأخرى وأشرنا اليه في الهوامش.
كما وجدنا بعض الفصول قد حذف من نسخة ووجد في نسخة أخرى وبالعكس لذلك أضفنا هذا النقص الحاصل بحيث تخرج هذه الطبعة كاملة متكاملة.
وأضفنا اليها جزءا خاصا يحتوي على فهارس للأسماء والقبائل والمدن والأماكن.
هذه النسخة الجديدة نضعها بين أيدي القراء الكرام آملين أن يجدوا فيها ما يتوخون من الدقة شاكرين لكل من ساهم معنا وقدم لنا العون والله من وراء القصد.
٢٥ جمادى الآخرة ١٤٠١ خليل شحادة- دار الفكر
1 / 4
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغنيّ بلطفه عبد الرّحمن بن محمّد بن خلدون الحضرميّ وفّقه الله.
الحمد للَّه الّذي له العزّة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وله الأسماء الحسنى والنّعوت، العالم فلا يغرب عنه ما تظهره النّجوى أو يخفيه السّكوت، القادر فلا يعجزه شيء في السّماوات والأرض ولا يفوت، أنشأنا من الأرض نسما [١] واستعمرنا فيها أجيالا وأمما ويسّر لنا منها أرزاقا وقسما، تكنفنا الأرحام والبيوت، ويكفلنا الرّزق والقوت، وتبلينا الأيّام والوقوت، وتعتورنا الآجال الّتي خطّ علينا كتابها الموقوت وله البقاء والثّبوت، وهو الحيّ الّذي لا يموت، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ومولانا محمّد النّبي العربيّ المكتوب في التّوراة والإنجيل المنعوت، الّذي تمحّض لفصاله الكون قبل أن تتعاقب الآحاد والسّبوت، ويتباين زحل واليهموت [٢]، وعلى آله وأصحابه الّذين لهم في صحبته وأتباعه الأثر
_________
[١] أي نفوسا، والله بارئ النسم أي خالق النفوس (قاموس) .
[٢] قوله اليهموت هو النون أي الحوت الّذي على ظهره الأرض السابقة ويسمى أيضا لوتيا كما في المزهر وروح البيان واللهجة ومعلوم ان بينه وبين زحل الّذي مر في الفلك السابع بونا بعيدا وقال الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي ١ هـ- في أول سورة نون اليهموت بفتح المثناة النحمية وسكون الهاء وما لشهر من أنه بالباء الموحدة غلط على ما ذكره الفاضل المحشي ومثله في روح البيان قاله نصر الهوريني أقره المصحح الثاني.
1 / 5
البعيد والصّيت، والشّمل الجميع في مظاهرته ولعدوّهم الشّمل الشّتيت، صلى الله عليه وعليهم ما اتّصل بالإسلام جدّه المبخوت. وانقطع بالكفر حبله المبتوت، وسلم كثيرا.
أمّا بعد فإنّ فنّ التّاريخ من الفنون الّتي تتداوله الأمم والأجيال وتشدّ إليه الرّكائب والرّحال، وتسمو إلى معرفته السّوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال [١]، وتتساوى في فهمه العلماء والجهّال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيّام والدّول، والسّوابق من القرون الأول، تنمو [٢] فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدّي لنا شأن الخليقة كيف تقلّبت بها الأحوال، واتّسع للدّول فيها النّطاق والمجال، وعمّروا الأرض حتّى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزّوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق.
وإنّ فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيّام وجمعوها، وسطّروها في صفحات الدّفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفّلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الرّوايات المضعفة لفّقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممّن بعدهم واتّبعوها، وأدّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتّحقيق قليل، وطرف التّنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتّقليد عريق في الآدميّين وسليل، والتّطفّل على الفنون عريض طويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل، والحقّ لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النّظر شيطانه، والنّاقل إنّما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصّحيح إذا تمقّل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل.
_________
[١] جمع قيل، والقيل الملك وقيل: هو الرئيس دون الملك الأعلى.
[٢] نما الخبر أو الحديث: ارتفع وذاع.
1 / 6
هذا وقد دوّن النّاس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدّول في العالم وسطّروا، والّذين ذهبوا بفضل الشّهرة والإمامة المعتبرة، واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخّرة، هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، مثل ابن إسحاق والطّبريّ وابن الكلبيّ ومحمّد بن عمر الواقديّ وسيف بن عمر الأسديّ وغيرهم من المشاهير، المتميّزين عن الجماهير، وإن كان في كتب المسعوديّ والواقديّ من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات. ومشهور بين الحفظة الثّقات، إلّا أنّ الكافّة اختصّتهم بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التّصنيف واتّباع آثارهم، والنّاقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم. فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الرّوايات والآثار.
ثمّ إنّ أكثر التّواريخ لهؤلاء عامّة المناهج والمسالك، لعموم الدّولتين صدر الإسلام [١] في الآفاق والممالك. وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملّة من الدّول والأمم، والأمر العمم [٢] . كالمسعوديّ ومن نحا منحاه وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التّقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشّأو البعيد، فقيّد شوارد عصره، واستوعب أخبار أفقه وقطره، واقتصر على تاريخ دولته ومصره، كما فعل أبو حيّان مؤرّخ الأندلس والدّولة الأمويّة بها وابن الرّفيق مؤرّخ إفريقية والدّولة الّتي كانت بالقيروان.
ثمّ لم يأت من بعد هؤلاء إلّا مقلّد، وبليد الطّبع والعقل وبليد، ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عمّا أحالته الأيّام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، فيجلبون [٣] الأخبار عن الدّول،
_________
[١] كذا بالأصل في جميع النسخ وتصويب العبارة: لعموم صدر الإسلام والدولتين (أي دولة بني أمية والدولة العباسية) .
[٢] امر عمم: تام، عام (لسان العرب) .
[٣] بمعنى يجمعون.
1 / 7
وحكايات الوقائع في العصور الأول، صورا قد تجرّدت عن موادّها، وصفاحا انتضيت من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها [١]، إنّما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحقّقت فصولها، يكرّرون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها، اتّباعا لمن عني من المتقدّمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال النّاشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم [٢] صحفهم عن بيانها، ثمّ إذا تعرّضوا لذكر الدّولة نسقوا أخبارها نسقا محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لا يتعرّضون لبدايتها، ولا يذكرون السّبب الّذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علّة الوقوف عند غايتها، فيبقى النّاظر متطلعا بعد إلى افتقاد أحوال مبادئ الدّول ومراتبها، مفتّشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها، حسبما نذكر ذلك كلّه في مقدّمة الكتاب. ثمّ جاء آخرون بإفراط الاختصار، وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار، مقطوعة عن الأنساب والأخبار، موضوعة عليها أعداد أيّامهم بحروف الغبار [٣]، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل، وليس يعتبر لهؤلاء مقال، ولا يعدّ لهم ثبوت ولا انتقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلّوا بالمذاهب المعروفة للمؤرّخين والعوائد.
ولمّا طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، نبّهت عين القريحة من سنة الغفلة والنّوم. وسمت التّصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السّوم [٤]، فأنشأت في التّاريخ كتابا. رفعت به عن أحوال النّاشئة من الأجيال حجابا:
وفصّلته في الأخبار والاعتبار بابا بابا، وأبديت فيه لأوّليّة الدّول والعمران عللا وأسبابا. وبنيته على أخبار الأمم الّذين عمّروا المغرب في هذه الأعصار، وملئوا
_________
[١] أي قديمها وحديثها.
[٢] اسعجم الكلام: أصبح مبهما.
[٣] اسم العلامات تدل على الأعداد (قاموس) .
[٤] السوم: طلب الشراء (لسان العرب) .
1 / 8
أكناف الضّواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدّول الطّوال أو القصار، ومن سلف لهم من الملوك والأنصار، وهما العرب والبربر، إذ هما الجيلان اللّذان عرف بالمغرب مأواهما وطال فيه على الأحقاب مثواهما، حتّى لا يكاد يتصوّر فيه ما عداهما، ولا يعرف أهله من أجيال الآدميّين سواهما، فهذّبت مناحيه تهذيبا، وقرّبته لأفهام العلماء والخاصّة تقريبا، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا، وطريقة مبتدعة وأسلوبا. وشرحت فيه من أحوال العمران والتّمدّن وما يعرض في الاجتماع الإنسانيّ من العوارض الذّاتيّة ما يمتّعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرّفك كيف دخل أهل الدّول من أبوابها، حتّى تنزع من التّقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيّام والأجيال وما بعدك ورتّبته على مقدّمة وثلاثة كتب.
المقدّمة في فضل علم التّاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرّخين.
الكتاب الأوّل في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذّاتيّة من الملك والسّلطان والكسب والمعاش والصّنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب.
الكتاب الثّاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة إلى هذا العهد وفيه من الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النّبط والسّريانيّين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والرّوم والتّرك والإفرنجة الكتاب الثّالث في أخبار البربر ومواليهم من زناتة وذكر أوّليّتهم وأحيالهم وما كان بديار المغرب خاصّة من الملك والدّول ثمّ كانت الرّحلة إلى المشرق لاجتناء [١] أنواره، وقضاء الفرض والسّنّة في مطافه ومزاره: والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره: فزدت ما نقص من أخبار ملوك العجم بتلك الدّيار، ودول التّرك فيما ملكوه من الأقطار، وأتبعت بها ما كتبته في تلك الأسطار، وأدرجتها
_________
[١] وفي بعض النسخ لاجتلاء.
1 / 9
في ذكر المعاصرين لتلك الأجيال من أمم النّواحي، وملوك الأمصار والضّواحي، سالكا سبيل الاختصار والتّلخيص، مفتديا بالمرام السّهل من العويص، داخلا من باب الأسباب على العموم إلى الإخبار على الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا، وذلّل من الحكم النّافرة صعابا، وأعطى لحوادث الدّول عللا وأسبابا، فأصبح للحكمة صوانا. وللتّاريخ جرابا.
ولمّا كان مشتملا على أخبار العرب والبربر، من أهل المدن والوبر، والإلماع بمن عاصرهم من الدّول الكبر، وأفصح بالذّكرى والعبر، في مبتدإ الأحوال ومما بعدها من الخبر، سمّيته كتاب العبر، وديوان المبتدإ والخبر، في أيّام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر، ولم أترك شيئا في أوّليّة الأجيال والدّول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التّصرّف والحول، في القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملّة، ومدينة وحلّة [١]، وعزّة وذلّة، وكثرة وقلّة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلّبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلّا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله، فجاء هذا الكتاب فذّا بما ضمّنته من العلوم الغريبة، والحكم المحجوبة القريبة، وأنا من بعدها موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء، في مثل هذا القضاء [٢]، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتّسعة الفضاء، في النّظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتّغمّد [٣] لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء، فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف من اللّوم منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة، والله اسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل.
وبعد أن استوفيت علاجه، وأنرت مشكاته للمستبصرين وأذكيت سراجه،
_________
[١] الحلة، القرية مجازا، ومعناها في الأصل، القوم النازلون في مكان ما.
[٢] بمعنى، هذه القضايا.
[٣] تغمده: ستر ما كان منه.
1 / 10
وأوضحت بين العلوم طريقه ومنهاجه، وأوسعت في فضاء المعارف نطاقه وأدرت سياجه، أتحفت بهذه النّسخة منه [١] خزانة مولانا السّلطان الإمام المجاهد، الفاتح الماهد، المتحلي منذ خلع التّمائم [٢]، ولوث [٣] العمائم، بحلي القانت الزّاهد، المتوشّح بزكاء المناقب والمحامد، وكرم الشّمائل والشّواهد، بأجمل من القلائد، في نحور الولائد، المتناول بالعزم القويّ السّاعد، والجدّ المواتي المساعد، والمجد الطّارف والتّالد، ذوائب ملكهم الرّاسي القواعد، الكريم المعالي والمصاعد، جامع أشتات العلوم والفوائد، وناظم شمل المعارف والشّوارد، ومظهر الآيات الرّبّانيّة، في فضل المدارك الإنسانيّة، بفكره الثّاقب النّاقد، ورأيه الصّحيح المعاقد، النيّر المذاهب والعقائد، نور الله الواضح المراشد، ونعمته العذبة الموارد، ولطفه الكامن بالمراصد للشّدائد. ورحمته الكريمة المقالد، الّتي وسعت صلاح الزّمان الفاسد)، واستقامة المائد من الأحوال
_________
[١] قوله أتحفت بهذه النسخة منه إلخ وجد في نسخة بخط بعض فضلاء المغاربة زيادة قبل قوله أتحفت وبعد قوله وأدرت سياجه ونصها التمست له الكف الّذي يلمح بعين الاستبصار فنونه. ويلحظ بمداركه الشريفة معياره الصحيح وقانونه. ويميز رتبته في المعارف عما دونه. فسرحت فكري في فضاء الوجود. واجلت نظري ليل التمام والهجود. بين التهائم والنجود. في العلماء الركع والسجود. والخلفاء أهل الكرم والجود. حتى وقف الاختيار بساحة الكمال. وطافت الأفكار بموقف الآمال. وظفرت أيدي المساعي والاعتمال. بمنتدى المعارف مشرقة فيه غرر الجمال. وحدائق العلوم الوارفة الظلال. عن اليمين والشمال. فأنخت مطيّ الأفكار في عرصاتها، وجلوت محاسن الأنظار على منصاتها. وأتحفت بديوانها مقاصير إيوانها. واطلعته كوكبا وقادا في أفق خزانتها وصوانها. ليكون آية للعقلاء يهتدون بمناره. ويعرفون فضل المدارك الإنسانية في أثارة. وهي خزانة مولانا السلطان الامام المجاهد. الفاتح الماهد. إلى آخر النعوت المذكورة هنا ثم قال الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين أبو العباس أحمد ابن مولانا الأمير الطاهر المقدس أبي عبد الله محمد ابن مولانا الخليفة المقدس أمير المؤمنين. أبي يحيى أبي بكر ابن الخلفاء الراشدين. من أئمة الموحدين الذين جددوا الدين. ونهجوا السبل للمهتدين. ومحوا أثر البغاة المفسدين من المجسّمة والمعتدين. سلالة أبي الحفص والفاروق. والنبعة النامية على تلك المغارس الزاكية والعروق. والنور المتلألئ من تلك الأشعة والبروق. فأوردته من مودعها إلى العلي بحيث مقر الهدى. ورياض المعارف خضلة الندي، إلى اخر ما ذكر هنا الا أنه لم يقيد الإمامة بالفارسية لكن النسخة المذكورة مختصرة عن هذه النسخة المنقولة من خزانة الكتب الفارسية ولم يقل فيها ثم كانت الرحلة إلى المشرق إلخ.
[٢] التميمة: خرزة رقطاء تنظم في السير، ثم يعقد في العنق، وهي التمائم والتميم، عن ابن جني وقيل: هي قلادة يجعل فيها سبور وعوذ، وحكي عن ثعلب، تمّت المولود، علّقت عليه التمائم (لسان العرب) .
[٣] لوث: عصب العمامة.
1 / 11
والعوائد، وذهبت بالخطوب الأوابد، وخلعت على الزّمان رونق الشّباب العائد، وحجّته الّتي لا يبطلها إنكار الجاحد ولا شبهات المعاند، (أمير المؤمنين) أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السّلطان المعظّم الشّهير الشّهيد أبي سالم إبراهيم ابن مولانا السّلطان المقدّس أمير المؤمنين، أبي الحسن ابن السّادة الأعلام من ملوك بني مرين، الّذين جدّدوا الدّين، ونهجوا السّبيل للمهتدين، ومحوا آثار البغاة المفسدين، أفاء الله على الأمّة ظلاله، (وبلّغه في نصر دعوة الإسلام آماله) .
وبعثته إلى خزانتهم الموقفة لطلبة العلم بجامع القرويّين من مدينة فاس حاضرة ملكهم وكرسيّ سلطانهم، حيث مقرّ الهدى، ورياض المعارف خضلة النّدى. وفضاء الأسرار الرّبّانيّة فسيح المدى، والإمامة الفارسيّة الكريمة [١] العزيزة إن شاء الله بنظرها الشّريف، وفضلها الغنيّ عن التّعريف، تبسط له من العناية مهادا، وتفسح له في جانب القبول آمادا، فتوضح بها أدلّة على رسوخه وأشهادا، ففي سوقها تنفق بضائع الكتّاب وعلى حضرتها تعكف ركائب العلوم والآداب، ومن مدد بصائرها المنيرة نتائج القرائح والألباب، والله يوزعنا شكر نعمتها، ويوفّر لنا حظوظ المواهب من رحمتها ويعيننا على حقوق خدمتها، ويجعلنا من السّابقين في ميدانها المحلّين في حومتها، ويضفي على أهل إيالتها، وما أوي من الإسلام إلى حرم عمالتها، لبوس حمايتها وحرمتها، وهو سبحانه المسئول أن يجعل أعمالنا خالصة في وجهتها، بريئة من شوائب الغفلة وشبهتها، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
_________
[١] قوله الفارسية أي المنسوبة إلى أبي فارس المتقدم ذكره ١ هـ-.
1 / 12
المقدمة في فضل علم التّاريخ وتحقيق مذاهبه والالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها
اعلم أنّ فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا [١] على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. والأنبياء في سيرهم. والملوك في دولهم وسياستهم. حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدّين والدّنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعدّدة ومعارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحقّ وينكّبان به عن المزلّات والمغالط لأنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النّقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السّياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ ولا قيس الغائب منها بالشّاهد والحاضر بالذّاهب فربّما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم والحيد عن جادّة الصّدق وكثيرا ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثّا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيّما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنّة الكذب ومطيّة الهذر ولا بدّ من ردّها إلى الأصول وعرضها على القواعد.
_________
[١] بمعنى يطلعنا، وهي لغة ضعيفة.
1 / 13
وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرّخين في جيوش بني إسرائيل بأنّ موسى ﵇ أحصاهم في التّيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السّلاح خاصّة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستّمائة ألف أو يزيدون ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشّام واتّساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش لكلّ مملكة من الممالك حصّة من الحامية تتّسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عمّا فوقها تشهد بذلك الغوائد المعروفة والأحوال المألوفة ثمّ إنّ مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها وبعدها إذا اصطفّت عن مدى البصر مرّتين أو ثلاثا أو أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصّفّين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر والحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء.
ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير يشهد لذلك ما كان من غلب بخت نصّر لهم والتهامه بلادهم واستيلائه على أمرهم وتخريب بيت المقدس قاعدة ملّتهم وسلطانهم وهو من بعض عمّال مملكة فارس يقال إنّه كان مرزبان المغرب من تخومها وكانت ممالكهم بالعراقين وخراسان وما وراء النّهر والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قطّ مثل هذا العدد ولا قريبا منه وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسيّة مائة وعشرين ألفا كلّهم متبوع على ما نقله سيف [١] قال وكانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف وعن عائشة والزّهريّ فإنّ جموع رستم الّذين زحف بهم سعد بالقادسيّة إنّما كانوا ستّين ألفا كلّهم متبوع وأيضا فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لاتّسع نطاق ملكهم وانفسح مدى دولتهم فإنّ العمالات والممالك في الدّول على نسبة الحامية والقبيل القائمين بها في قلّتها وكثرتها حسبما نبين في فصل الممالك من الكتاب الأوّل والقوم لم تتّسع ممالكهم إلى غير الأردنّ وفلسطين من الشّام وبلاد يثرب وخيبر من الحجاز على ما هو المعروف.
_________
[١] هو سيف بن عمر الأسدي، من جامعي تواريخ الأمم والدول.
1 / 14
وأيضا فالّذين بين موسى وإسرائيل إنّما هو أربعة آباء على ما ذكره المحقّقون فإنّه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت بفتح الهاء وكسرها ابن لاوي بكسر الواو وفتحها ابن يعقوب وهو إسرائيل الله هكذا نسبه في التّوراة والمدّة بينهما على ما نقله المسعوديّ قال دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسا وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى ﵇ إلى التّيه مائتين وعشرين سنة تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة ويبعد أن يتشعّب النّسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد وإن زعموا أنّ عدد تلك الجيوش إنّما كان في زمن سليمان ومن بعده فبعيد أيضا إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلّا أحد عشر أبا فإنّه سليمان بن داود بن يشّا بن عوفيذ (ويقال ابن عوفذ) ابن باعز (ويقال بوعز) بن سلمون بن نحشون بن عمّينوذب (ويقال حمّيناذاب) بن رمّ بن حصرون (ويقال حسرون) بن بارس (ويقال ببرس) بن يهوذا بن يعقوب ولا يتشعّب النّسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الّذي زعموه اللَّهمّ إلى المائتين والآلاف فربّما يكون وأمّا أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد واعتبر ذلك في الحاضر المشاهد والقريب المعروف تجد زعمهم باطلا ونقلهم كاذبا.
والّذي ثبت في الإسرائيليّات أنّ جنود سليمان كانت اثني عشر ألفا خاصّة وأنّ مقرّباته [١] كانت ألفا وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه هذا هو الصّحيح من أخبارهم ولا يلتفت إلى خرافات العامّة منهم وفي أيّام سليمان ﵇ وملكه كان عنفوان دولتهم واتّساع ملكهم هذا وقد نجد الكافّة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدّول الّتي لعهدهم أو قريبا منه وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النّصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السّلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين توغّلوا في العدد
_________
[١] المقرّبات، جمع مقربة: وهي من الخيل التي يقرّب معلفها ومربطها لكرامتها.
1 / 15
وتجاوزوا حدود العوائد وطاوعوا وساوس الإعراب فإذا استكشف أصحاب الدّواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثّروة في بضائعهم وفوائدهم واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم لم تجد معشار ما يعدّونه وما ذلك إلّا لولوع النّفس بالغرائب وسهولة التّجاوز على اللسان والغفلة على المتعقّب والمنتقد حتّى لا يحاسب نفسه على خطإ ولا عمد ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه ويتّخذ آيات الله هزءا [١] ويشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله وحسبك بها صفقة خاسرة.
ومن الأخبار الواهية للمؤرّخين ما ينقلونه كافّة في أخبار التّبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنّهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية [٢] والبربر من بلاد المغرب وأنّ أفريقش بن قيس بن صيفيّ من أعاظم ملوكهم الأول وكان لعهد موسى ﵇ أو قبله بقليل غزا إفريقية وأثخن في البربر وأنّه الّذي سمّاهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم وقال ما هذه البربرة فأخذ هذا الاسم عنه ودعوا به من حينئذ وأنّه لمّا انصرف من المغرب حجز هنالك قبائل من حمير فأقاموا بها واختلطوا بأهلها ومنهم صنهاجة [٣] وكتامة ومن هذا ذهب الطّبريّ والجرجانيّ والمسعوديّ وابن الكلبيّ والبيليّ إلى أنّ صنهاجة وكتامة من حمير وتأباه نسابة البربر وهو الصّحيح وذكر المسعوديّ أيضا أنّ ذا الأذعار من ملوكهم قبل أفريقش وكان على عهد سليمان ﵇ غزا المغرب ودوّخه وكذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده وأنّه بلغ وادي الرّمل في بلاد المغرب ولم يجد فيه مسلكا لكثرة الرّمل فرجع وكذلك يقولون في تبّع الآخر وهو أسعد أبو كرب وكان على عهد يستأسف من ملوك الفرس الكيانيّة أنّه ملك الموصل وأذربيجان
_________
[١] وفي بعض النسخ هزوا.
[٢] كذا المشهور بدون تشديد الباء، وقد تشدّد الياء: (إفريقية) في معجم البلدان لياقوت الحموي.
[٣] صنهاجة بفتح الصاد كما هي معروفة في المغرب، وبكسر الصاد كما وردت في ألف.
1 / 16
ولقي التّرك فهزمهم وأثخن ثمّ غزاهم ثانية وثالثة كذلك وأنّه بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس وإلى بلاد الصّغد من بلاد أمم التّرك وراء النّهر وإلى بلاد الرّوم فملك الأوّل البلاد إلى سمرقند وقطع المفازة إلى الصين فوجد أخاه الثّاني الّذي غزا إلى سمرقند قد سبقه إليها فأثخنا في بلاد الصّين ورجعا جميعا بالغنائم وتركوا ببلاد الصّين قبائل من حمير فهم بها إلى هذا العهد وبلغ الثّالث إلى قسطنطنيّة فدرسها [١] ودوّخ بلاد الرّوم ورجع.
وهذه الأخبار كلّها بعيدة عن الصّحّة عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة. وذلك أنّ ملك التّبابعة إنّما كان بجزيرة العرب وقرارهم وكرسيّهم بصنعاء اليمن. وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها فبحر الهند من الجنوب وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق وبحر السّويس الهابط منه إلى السّويس من أعمال مصر من جهة المغرب كما تراه في مصوّر الجغرافيا فلا يجد السّالكون من اليمن إلى المغرب طريقا من غير السّويس والمسلك هناك ما بين بحر السّويس والبحر الشّاميّ قدر مرحلتين فما دونهما ويبعد أن يمرّ بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن يصير من أعماله هذه ممتنع في العادة. وقد كان بتلك الأعمال العمالقة وكنعان بالشّام والقبط بمصر ثمّ ملك العمالقة مصر وملك بنو إسرائيل الشّام ولم ينقل قطّ أنّ التّبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئا من تلك الأعمال وأيضا فالشّقّة من البحر إلى المغرب بعيدة والأزودة والعلوفة للعساكر كثيرة فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى انتهاب الزّرع والنّعم وانتهاب البلاد فيما يمرّون عليه ولا يكفي ذلك للأزودة وللعلوفة عادة وإن نقلوا كفايتهم من ذلك من أعمالهم فلا تفي لهم الرّواحل بنقله فلا بدّ وأن يمرّوا في طريقهم كلّها بأعمال قد ملكوها ودوّخوها لتكون الميرة منها وإن قلنا إنّ تلك العساكر تمرّ بهؤلاء الأمم من غير أن
_________
[١] درس الأثر: بمعنى محاه (لسان العرب) .
1 / 17
تهيجهم فتحصل لهم الميرة بالمسالمة فذلك أبعد وأشدّ امتناعا فدلّ على أنّ هذه الأخبار واهية أو موضوعة. وأمّا وادي الرّمل الّذي يعجز السّالك فلم يسمع قطّ ذكره في المغرب على كثرة سالكه ومن يقصّ طرقه من الرّكّاب والقرى [١] في كلّ عصر وكلّ جهة وهو على ما ذكروه من الغرابة تتوفّر الدّواعي على نقله. وأمّا غزوهم بلاد الشّرق وأرض التّرك وإن كان طريقه أوسع من مسالك السّويس إلّا أنّ الشّقّة هنا أبعد وأمم فارس والرّوم معترضون فيها دون التّرك ولم ينقل قطّ أنّ التّبابعة ملكوا بلاد فارس ولا بلاد الرّوم وإنّما كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق وما بين البحرين والحيرة والجزيرة بين دجلة والفرات وما بينهما في الأعمال وقد وقع ذلك بين ذي الأذعار منهم وكيكاوس من ملوك الكيانيّة وبين تبّع الأصغر أبي كرب ويستأسف منهم أيضا ومع ملوك الطّوائف بعد الكيانيّة والسّاسانيّة من بعدهم بمجاوزة [٢] أرض فارس بالغزو إلى بلاد الترك والتّبت وهو ممتنع عادة من أجل الأمم المعترضة منهم والحاجة إلى الأزودة والعلوفات مع بعد الشّقّة كما مرّ فالأخبار بذلك واهية مدخولة وهي لو كانت صحيحة النّقل لكان ذلك قادحا فيها فكيف وهي لم تنقل من وجه صحيح وقول ابن إسحاق في خبر يثرب والأوس والخزرج أنّ تبّعا الآخر سار إلى المشرق محمولا على العراق وبلاد فارس وأمّا بلاد التّرك والتّبت فلا يصحّ غزوهم إليها بوجه لما تقرّر فلا تثقنّ بما يلقى إليك من ذلك وتأمّل الأخبار واعرضها على القوانين الصّحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه والله الهادي إلى الصّواب.
فصل
وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسّرون في تفسير سورة «والفجر»
_________
[١] بمعنى: الأشخاص الذين يطوفون في البلاد (قاموس) .
[٢] كذا بالأصل في جميع النسخ وتصويب العبارة: وأمّا مجاوزة أرض فارس.
1 / 18
في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ٨٩: ٦- ٧ فيجعلون لفظة إرم اسما لمدينة وصفت بأنّها ذات عماد أي أساطين وينقلون أنّه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد وشدّاد ملكا من بعده وهلك شديد فخلص الملك لشدّاد ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنّة فقال لأبنينّ مثلها فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدّة ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وأنّها مدينة عظيمة قصورها من الذّهب وأساطينها من الزّبرجد والياقوت وفيها أصناف الشّجر والأنهار المطّردة [١] ولمّا تمّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته حتّى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السّماء فهلكوا كلّهم. ذكر ذلك الطّبريّ والثّعالبيّ والزّمخشريّ وغيرهم من المفسّرين وينقلون عن عبد الله بن قلّابة [٢] من الصّحابة أنّه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه وبلغ خبره معاوية فأحضره وقصّ عليه فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثمّ التفت فأبصر ابن قلّابة فقال هذا والله ذلك الرّجل.
وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض وصحارى عدن الّتي زعموا أنّها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقبا والأدلّاء تقصّ طرقه من كلّ وجه ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريّين ولا من الأمم ولو قالوا إنّها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه إلّا أنّ ظاهر كلامهم أنّها موجودة وبعضهم يقول إنّها دمشق بناء على أنّ قوم عاد ملكوها وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنّها غائبة وإنّما يعثر عليها أهل الرّياضة والسّحر مزاعم كلّها أشبه بالخرافات والّذي حمل المفسّرين
_________
[١] الجارية.
[٢] هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي وكنيته: أبو قلابة وهو من التابعين (معجم الأدباء) .
1 / 19
على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة ذات العماد أنّها صفة إرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء ورشّح لهم ذلك قراءة ابن الزّبير عاد إرم على الإضافة من غير تنوين ثمّ وقفوا على تلك الحكايات الّتي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة الّتي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات وإلّا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام وإن أريد بها الأساطين فلا بدع في وصفهم بأنّهم أهل بناء وأساطين على العموم بما اشتهر من قوّتهم لأنّه بناء خاصّ في مدينة معيّنة أو غيرها وإن أضيفت كما في قراءة ابن الزّبير فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة كما تقول قريش كنانة وإلياس مضر وربيعة نزار وأيّ ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الّذي تمحّلت [١] لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية الّتي ينزّه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصّحّة.
ومن الحكايات المدخولة للمؤرّخين ما ينقلونه كافّة في سبب نكبة الرّشيد للبرامكة من قصّة العبّاسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه وأنّه لكلفه بمكانهما من معاقرته إيّاهما الخمر أذن لهما في عقد النّكاح دون الخلوة حرصا على اجتماعهما في مجلسه وأنّ العبّاسة تحيّلت عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبّه حتّى واقعها (زعموا في حالة السكر) فحملت ووشي بذلك للرّشيد فاستغضب وهيهات ذلك من منصب العبّاسة في دينها وأبويها وجلالها وأنّها بنت عبد الله بن عبّاس ليس بينها وبينه إلّا أربعة رجال هم أشراف الدّين وعظماء الملّة من بعده. والعبّاسة بنت محمّد المهديّ ابن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمّد السّجّاد ابن عليّ أبي الخلفاء ابن عبد الله ترجمان القرآن ابن العبّاس عمّ النّبيّ ﷺ ابنة خليفة أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النّبويّة وصحبة الرّسول وعمومته وإقامة الملّة ونور الوحي ومهبط
_________
[١] تمحل للشيء بمعنى، احتال في طلبه. وفي العبارة اضطراب، والتصويب «الّذي تمحل لتوجيهه بأمثال هذه الحكايات» .
1 / 20
الملائكة من سائر جهاتها قريبة عهد ببداوة العروبيّة وسذاجة [١] الدّين البعيدة عن عوائد التّرف ومراتع الفواحش فأين يطلب الصّون والعفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطّهارة والذّكاء [٢] إذا فقدا من بيتها أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنّس شرفها العربيّ بمولى من موالي العجم بملكة جدّه من الفرس أو بولاء جدّها من عمومة الرّسول وأشراف قريش وغايته أن جذبت دولتهم بضبعه وضبع أبيه واستخلصتهم ورقّتهم إلى منازل الأشراف وكيف يسوغ من الرّشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همّته وعظم آبائه ولو نظر المتأمّل في ذلك نظر المنصف وقاس العبّاسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولجّ في تكذيبه وأين قدر العبّاسة والرّشيد من الناس.
وإنّما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدّولة واحتجافهم [٣] أموال الجباية حتّى كان الرّشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه ولم يكن له معهم تصرّف في أمور ملكه فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمّروا مراتب الدّولة وخططها [٤] بالرّؤساء من ولدهم وصنائعهم واحتازوها عمّن سواهم من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم. يقال إنّه كان بدار الرّشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة وعشرون رئيسا من بين صاحب سيف وصاحب قلم زاحموا فيها أهل الدّولة بالمناكب ودفعوهم عنها بالرّاح لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون وليّ عهد وخليفة حتّى شبّ في حجره ودرج
_________
[١] بمعنى الوضع الصحيح الطبيعي الّذي لم تشبه شائبة (قاموس) .
[٢] في جميع النسخ المطبوعة الذكاء بالذال، وفي النسخة الباريسية المخطوطة، الزكاء بالزين وهو الأصح بمعنى الصلاح.
[٣] احتجف الشيء: استخلصه وحازه. والأصح استعمال كلمة احتجانهم، واحتجن الشيء أي جذبه، ولكن ابن خلدون يتعمد استعمال الكلمات الفريدة.
[٤] جمع خطة بضم الخاء وهي بمعنى الأمر، واما بالكسر كما أوردها محقق لجنة البيان العربيّ بمعنى «المكان المختط لعمارة: فليس لها معنى في هذا المقام.
1 / 21
من عشّه وغلب على أمره وكان يدعوه يا أبت فتوجّه الإيثار من السّلطان إليهم وعظمت الدّالّة منهم وانبسط الجاه عندهم وانصرفت نحوهم الوجوه وخضعت لهم الرّقاب وقصرت عليهم الآمال وتخطّت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء وتسرّبت إلى خزائنهم في سبيل التّزلّف والاستمالة أموال الجباية وأفاضوا في رجال الشّيعة وعظماء القرابة العطاء وطوّقوهم المنن وكسبوا [١] من بيوتات الأشراف المعدم وفكّوا العاني [٢] ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم وأسنّوا لعفاتهم [٣] الجوائز والصّلات واستولوا على القرى والضّياع من الضّواحي والأمصار في سائر الممالك حتّى أسفّوا البطانة وأحقدوا الخاصّة وأغصّوا [٤] أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد ودبّت إلى مهادهم الوثير من الدّولة عقارب السّعاية حتّى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم السّاعين عليهم لم تعطفهم لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرّحم ولاوزعتهم أواصر القرابة وقارن ذلك عند مخدومهم نواشئ الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة وكان الحقود الّتي بعثتها منهم صغائر الدّالّة. وانتهى بها الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصّتهم في يحيى بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب أخي محمّد المهديّ الملقّب بالنّفس الزّكيّة الخارج على المنصور ويحيى هذا هو الّذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الدّيلم على أمان الرّشيد بخطّه وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطّبريّ ودفعه الرّشيد إلى جعفر وجعل اعتقاله بداره وإلى نظره فحبسه مدّة ثمّ حملته الدّالّة على تخلية سبيله والاستبداد بحلّ عقاله حرما [٥] لدماء أهل البيت بزعمه ودالّة على السّلطان في حكمه. وسأله الرّشيد عنه لمّا وشي به إليه ففطن وقال أطلقته فأبدى له وجه
_________
[١] يتعدى فعل كسب بنفسه إلى مفعول ثان، وهو هنا بمعنى: كسب فلانا مالا أي اناله (قاموس) .
[٢] العاني: الأسير.
[٣] اسنوا الجوائز: أي اجزلوها، والعفاة جمع عاف، وهو طالب المعروف.
[٤] ثقال كلمة غص للطعام، واستعملها هنا ابن خلدون للغيظ على التشبيه.
[٥] أي لحرمة دماء أهل البيت.
1 / 22