ولكن هناك مع ذلك علامة حسنة في الصحافة الحديثة، هي عنايتها الكبيرة بالأخبار الخارجية. فإن هذه العناية - التي كان مبعثها الحربين الأخيرتين - تنير القراء وتربيهم على النظر العالمي وبحث سياستنا من الزاوية السياسية العالمية الكبرى. وهذا حسن. ولكن انسياق الجرائد وراء الإعلانات قد حد من حريتها واهتماماتها. فإن جرائدنا مثلا تعنى بالميدان السينمائي الذي يغل لها الإعلانات، أكثر مما تعنى بالزراعة المصرية التي يعمل فيها الملايين ولكن لا تنتفع منهم الصحف بالإعلانات.
وقد دلتني اختباراتي في السياسة والثقافة على أن بضع مقالات في السياسة أحيانا تعود بمثل الربح المالي الذي يعود من تأليف كتاب كامل قد احتاج إلى دراسة السنين. ولذلك فإن التأليف في مصر تضحية كبيرة لا يرضاها إلا المهوسون بالثقافة. ولذلك أيضا أصبح كثير من الأدباء الذين افتتحوا حياتهم بالتأليف صحفيين.
وذات مساء وكان ذلك في 12 يوليو من هذا العام 1946 كنت نائما على الأسفلت في غرفة مظلمة في سجن الأزبكية مع نحو أربعين من المتهمين بالسرقة والضرب والفسق والقتل وحيازة المخدرات وغير ذلك. وكانت تتهمني أني أفكر وأدعو إلى الجمهورية أو الشيوعية. وكانت خشونة الأسفلت تمنعني من النوم وتؤلمني فأرقت. وأخذت ذاكرتي تعرض لي فلم حياتي الماضية. فذكرت الحرية التي كنت أتمتع بها في 1914 حين كنت أكتب مقالات في «المستقبل» لو أن بعضها نشر هذه الأيام لقاد إلى السجن. وذكرت العناء الذي لقيته في الدراسة والتأليف، وعددت نحو عشرين كتابا ألفتها لأبناء وطني أخلصت فيها النية وبذلت المجهود كي أنير وأعلم، وكي أسمو بالشباب إلى مثليات القرن العشرين وأخرجهم من ظلمات القرون الماضية. ثم تأملت حالي على الأسفلت الخشن، وكيف أني لم أجمع مالا ولم أحصل حتى على الكرامة التي يستحقها من يخدم ويخلص في الخدمة. وكان إلى جنبي نصف رغيف هو عشائي الذي قررته لي الحكومة المصرية جزاء هذا العمر الذي قضيته في خدمة مصر. وأخذت أفكر وأجتر التفكير وعقلي يتضور من الألم، إلى أن أصبح الصباح ودخل علينا رجل بقفة فيها خبز، فناولني رغيفا للفطور وضعته فوق نصف الرغيف الذي تناولته في المساء السابق. وهكذا يفعل بنا الاستعمار والاستبداد المتحالفان.
كفاحي السياسي
كنت طوال إقامتي في أوروبا أدرس السياسة من الجرائد اليومية الإنجليزية والفرنسية وأستمع إلى المحاضرات الحزبية التي يلقيها الدعاة البارزون من الأحزاب. ولكن التفاتي إلى السياسة كان بمثابة النشاط الموجي على السطح. أما في الأعماق فكانت التيارات التي تحفزني وتوجهني اجتماعية ثقافية. فقد كنت مثابرا على الملاحظة المباشرة للمجتمع الأوروبي أقابل بينه وبين المجتمع المصري في مركز المرأة ونظام العائلة بل نظام البيت وأحوال العمال في المدينة والريف والحرية أو بالأحرى الحريات العامة في البيت والمجتمع والصحافة والخطابة. ومن ذلك الوقت إلى الآن - أي من 1907 إلى 1947 - وأنا أكافح في جبهات متعددة سياسية واجتماعية واقتصادية. وأحيانا تتداخل هذه الجهات أو تمتزج حتى تصير جبهة واحدة. كما حدث مثلا في 1930 حين كنت أقف في صف الوفد في مكافحة الطغيان الذي حاول إسماعيل صدقي باشا أن يعممه بعد أن ألغى دستور 1923 كما سبق أن ألغى الإنجليز دستور عرابي في 1882. ولكن حتى في هذه المعمعة السياسية التي هبت في الأمة تقاتل المستبدين والمستعمرين معا كنت أيضا أكافح كفاحا آخر من أجل الاستقلال الاقتصادي. فألفت جمعية «المصري للمصري» لإيجاد وجدان - أي وعي - وطني اقتصادي.
وكانت الأحزاب السياسية في أوروبا قد شرعت حوالي 1910 تتجه اتجاها اشتراكيا. وكان هذا الاتجاه على أقواه في ألمانيا وفرنسا وعلى أضعفه في بريطانيا. بل الحق إنه لم يكن في 1909 في مجلس العموم الإنجليزي غير اشتراكي واحد - من نحو 600 عضو - يدعى فكتور جرايسون، وكان يجمع بين حماسة الشباب وحماسة المذهب. وقد حاول ذات مرة أن يقسر المجلس على المناقشة في شأن العاطلين. فقرر المجلس إخراجه. وكان يلقي الخطب في الاجتماعات الشعبية ويفخر بأن المجلس طرده. والغريب أن هذا الشاب اختفى فجأة ولم يعرف إلى الآن كيف كانت نهايته.
ولكن كان بمجلس العموم في ذلك الوقت حزب للعمال وحزب آخر يسمى «العمال المستقلين» يتزعمه كير هاردي. ولكن هؤلاء العمال جميعا لم يكونوا اشتراكيين مذهبيين ولم تكن الدعوة بينهم إلى الاشتراكية بل كانت دعوة متواضعة قانعة بزيادة الأجور للعمال وترقية أحوالهم المعيشية. وقد زرت كير هاردي في غرفته المتواضعة في لندن في 1909. وكان اسكوتلنديا في وجهه سماحة وطيبة قد أرخى لحيته. وكان يصر على اتخاذ قبعة العمال المخصوفة من القش. وكانت سكرتيرته آنسة مثقفة جاءت بعد ذلك إلى مصر وتولت رياسة التحرير لجريدة «ذي إجبشيان جازيت». وكان السبب لزيارتي لكير هاردي أني قرأت له كتيبا عن الهند شرح فيه ما رآه فيها من المظالم البريطانية للهنود. ورأيت في هذا الكتاب ما يثير وما يبعث على التفكير فيما يفعله الإنجليز في مصر. ولما قابلته قال لي إنه اشتراكي وإن الاشتراكية سوف تعم أوروبا ثم تنتقل إلى سائر القارات. وإن الاستعمار البريطاني يجب أن يزول من مصر والهند، وإن واجبنا الوطني الأول في مصر هو إخراج الإنجليز ثم إيجاد الإصلاحات الاجتماعية في المجتمع المصري.
وكانت الخطوط السياسية التي نراها الآن في السياسة العالمية في 1947 واضحة في أوروبا في 1909. ولكن الخطوط اليمينية كانت وقتئذ أبرز من الخطوط اليسارية. أي إن أصوات الاستبداد والاحتكار والحرب والاستعمار كانت عالية تنطق بها دولة القياصرة في روسيا ودولة السلاطين في تركيا، ثم دولتا الوسط في أوروبا. وأخيرا الإمبراطورية البريطانية وفرنسا. أما في 1947 فإن هذه الدول جميعها - باستثناء بريطانيا وفرنسا - قد زالت وأخذت الجمهوريات مكانها. كما أن الأكثرية السياسية للأحزاب قد أصبحت يسارية للاشتراكيين والشيوعيين في جميع أوروبا المتمدنة. وقولنا «المتمدنة» يستثني بالطبع إسبانيا وبرتغال حيث الفاشية لا تزال حية. وهذا اتجاه واضح لا يخطئه إلا المغفلون أو المتغافلون.
وقد أصبحت من تلك السنين أتوسم الأحزاب وأرود المستقبل في ضوء هذه الاتجاهات الاشتراكية العالمية. ولذلك لم تفاجئني الأحداث الكبرى مثل حرب 1914 التي بعثتها المباراة الاقتصادية بين ألمانيا وبريطانيا، أو مثل حرب 1939 التي بعثها الصراع بين أحزاب اليمين من المحافظين وبين أحزاب اليسار من الاشتراكيين والشيوعيين. وإن كانت هذه الحرب قد فقدت منذ بدايتها تقريبا روحها المذهبي واستحالت إلى النزاع الاقتصادي القديم بين بريطانيا وألمانيا، كما دخلت فيها مركبات اقتصادية أخرى.
ولما عدت من أوروبا وضعت رسالة صغيرة عن الاشتراكية. كما وضعت قبل ذلك رسالة أخرى عن «السبرمان» أي إنسان المستقبل. وكذلك لخصت كتاب جرانت الين عن «نشوء فكرة الله» وترجمت نحو 120 صفحة من قصة «الجريمة والعقاب» لدستويفسكي. وكل هذا النشاط قمت به فيما بين 1909 و1914. وهو يدل على أن أفكاري العامة الحاضرة كانت تتبلور في ذهني: السياسة الاشتراكية، والأدب الروسي والفلسفة الداروينية، مع النفور من الغيبيات.
صفحه نامشخص