أجب نداء هذه الآمال الحارة، وتناول هذه الأيدي التي بسطت إليك فاجعلها تصافح بعضها بعضا ... لأن الأمم إذا وجدت أنها خذلت في هذه الوساطة فإنها ستتفرق وتهيم في فوضى ثم لا بد أن تتحطم في الشطط. وعندئذ تنغمس الشعوب في الدماء وتنكفئ الأحزاب القديمة إلى رجعية دموية ... أيها الوارث لجورج واشنطون وإبراهام لنكولن هلم إلى الراية وهي ليست راية حزب أو راية أمة وإنما هي راية العالم كله. وادع نواب الشعوب إلى برلمان البشرية. وارأس أنت هذا البرلمان بالسلطة الكاملة التي هي حقك لما لك من وجدان روحي سام، ولما لأمريكا من مستقبل عظيم. تكلم! تكلم إلى الجميع؛ لأن العالم متعطش إلى صوت يعلو ويغمر تخوم الأمم وطبقاتها. كن الحكم للأمم الحرة، حتى يعرفك المستقبل بأنك كنت المصالح بينها.
وليس من شك في أن مبادئ ولسن الأربعة عشر كانت من أكبر العوامل لثورتنا في 1919. وكان ولسن يحاول تغيير العالم؛ وكان يؤمن برسالته في جد وشرف. ولكن الرجل في شرفه وسذاجته لم يقدر عتو اللؤم والخسة في الإمبراطوريين: كليمنصو رئيس وزارة فرنسا، ولويد جورج رئيس وزارة بريطانيا. فقد سايره هذان الاثنان وأوهماه بالموافقة التامة على مبادئه كي يلقي بكل القوة الأمريكية في كفة الحلفاء ضد ألمانيا، حتى إذا تم الانتصار بفضل هذه القوة للإنجليز والفرنسيين تنكر هذان الاثنان له. وكان من الفكاهات التي يتنادر بها الفرنسيون في حمق ورعونة قول كليمنصو وقت المفاوضات: «إنني في مأزق، فعن يميني نابليون وعن يساري المسيح.» وهو يعني بنابليون لويد جورج في زعمه أنه بطل، وبالمسيح ولسن في زعمه أنه مصلح للعالم. ونحن الآن في 1947 عندما نذكر هذه المفاوضات في 1919 ندرك أن ولسن لم يكن فقط الرجل البار بالبشر بل كان أيضا الرجل البصير. أما هذان الاثنان فكانا أحمقين قد طربا للانتصار ورضيا بالنظر القصير. ولو أن مبادئ ولسن عمت العالم لما وقعت الحرب الكبرى الثانية.
وعلى كل حال ربح العالم من ولسن «عصبة الأمم». وصحيح أن الإمبراطوريين من الإنجليز والفرنسيين أفسدوها وأحالوها إلى هيئة ميتة عندما أيقنوا أنها تعارض المذهب الإمبراطوري . ولكن هذه العصبة نبهت الأذهان، وبقيت ماثلة أمام العالم نحو عشرين سنة وهي تشهد - حتى بضعفها وفشلها - على ضرورة إقامة منظمة عالمية تشرف على مصالح البشر. وقد كانت هي الباعث بعد ذلك لإيجاد «منظمة الأمم المتحدة» و«مجلس الأمن».
والحق أن هاتين الحربين قد أنجبتا في الميدان الديمقراطي الغربي بطلين عالميين فقط، كلاهما أمريكي هما ولسن وروزفلت. وكلاهما دعا دعوة عالمية فعبر عن أسمى الأماني وأنضر الآمال في السلام والعدل والشرف بين البشر.
وفي العالم الآن ثقافة عالمية بشرية جديدة تختمر، وعن قريب ستتبلور، ثم سوف تتجوهر مبادئ أو ديانة عامة نؤمن بها جميعا ونقول بها إن هذا الكوكب هو وطننا، هو قريتنا التي يجب أن نجوب شوارعها ونعرف أزقتها، في القطب الشمالي أو جبال الهملايا في الصيف، وفي صحارى أفريقيا أو آسيا في الشتاء. وطن عالمي جديد كبير يلغي هذا العالم المجزأ أو هذه الأوطان القديمة.
وكثير من الفضل في هذا الاتجاه يعزى إلى ولسن وروزفلت.
ثورة 1919
في 1882 حكم علينا الإنجليز - بمعاونة المستبدين المصريين - بالموت السياسي، وبقينا في هذا الموت إلى 1919 حين بعثنا وشرعنا نعود إلى التاريخ. وعدنا إليه بالثورة والدم والتدمير.
وكانت جميع طبقات الأمة في ثورة؛ فإن الفلاحين بعد أربع سنوات من خطف محصولاتهم ورجالهم كانوا حاقدين على الإنجليز. وكانت الطبقة المتوسطة من الموظفين حاقدة أيضا على الإنجليز الذين منعوا الرياسة في الوظائف عن المصري وقصروها على الإنجليزي. وعادوا بنا إلى أيام توفيق حين كانت الرياسة للأتراك والشركس دون المصريين.
فطبقات الأمة الفقيرة والطبقة المتوسطة أيضا كانت في تململ؛ ولذلك حين تولت الطبقة المتوسطة قيادة الثورة انقاد الفلاحون والعمال إليهم. ولكن يجب ألا ننسى أن الوجدان الوطني لم يمت قط منذ 1882، ولكنه كان خامدا، وقد بعث فيه مصطفى كامل الحياة. ولكن هذا الزعيم جاء قبل أوانه ثم مات في شبابه في 1907. ثم كانت هناك فترة اختلاط فكري هو تراث التاريخ: مصر أحد أقطار الدولة العثمانية؟ أو مصر يجب أن تدعو إلى الجامعة الإسلامية؟
صفحه نامشخص