وكان إعجاب الجمهور بألمانيا يفوق الوصف. وبعض هذا كان يعود بالطبع إلى الشماتة بالإنجليز المحتلين لوطننا. وكنا نهجس أحيانا بأمل الاستقلال إذا انهزمت بريطانيا أو على الأقل لم تنتصر. وكان هذا الأمل قويا في بداية الحرب وبقي إلى أن دخلت أمريكا في صف الحلفاء.
ولم تكن الطائرات عنصرا خطيرا في الحرب الكبرى الأولى، ولم تزرنا فيها غير طائرتين: الأولى ألقت قنبلة بالقرب من البنك الأهلي، والثانية ألقت قنبلة في حي الفجالة. وكان التلف صغيرا. وأيضا أرسلت ألمانيا بلونا عبر جونا ذهابا وإيابا؛ من أوروبا إلى المستعمرة الألمانية في أفريقيا الشرقية. ولم يلق أية معارضة من الإنجليز. وكان على ارتفاع بعيد حتى لم يسمع أحد بأزيز موطراته.
وقد كانت براعة الالمان في القتال عظيمة، ولكن إخفاقهم في السياسة كان عظيما أيضا؛ إذ لم يستطيعوا أن يتوقوا انضمام الأمريكيين إلى أعدائهم؛ ولذلك صحت كلمة لويد جورج رئيس الوزارة الإنجليزية عندما قال: «الألمان يكسبون المعارك الآن. ولكنا نحن سنكسب الحرب.»
وكان تشرشل بطل الحرب الكبرى الثانية بطلا أيضا في الحرب الكبرى الأولى؛ فقد كان يتهم الألمان بأنهم يصنعون الصابون من جثث القتلى أي يستخرجون الشحم من هذه الجثث ويصنعون منه الصابون. وقال أيضا إن الألمان يبعثون جنودهم إلى المدن لتلقيح النسوة بلا زواج ... وكانت هذه التهم بالطبع غير صحيحة. ومما قام به تشرشل في تلك الحرب أنه زيف ملايين النقود الورقية وبعث بها عن طريق سويسرا إلى ألمانيا حيث أفسد قيمة النقد الألماني. وتشرشل أيضا هو المسئول عن الحصار الذي ضربه الإنجليز على ألمانيا أكثر من ستة أشهر بعد إعلان الهدنة. فلم يكن يدخل ألمانيا شيء من الأغذية التي يحتاج إليها السكان، وكانوا قد بلغوا حالا بشعة من القحط. وقد عم الكساح أطفالهم لهذا الحصار.
وارتفعت الأسعار والأثمان إلى أربعة أضعاف بل خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب. ولكن الرخاء كان عاما؛ لأن الإنجليز بعد أن كانوا قد حددوا أثمان القطن في السنتين الأوليين من الحرب تركوها حتى وصلت إلى 40 و45 جنيها للقنطار. وكان أردب القمح يصل إلى 7 أو 8 جنيهات. وبقيت إيطاليا مدة طويلة وهي محايدة، فكانت تموننا بكثير من المصنوعات. ولذلك لم يزد قط ثمن البذلة على 8 أو 9 جنيهات. وأحدثت أثمان القطن المرتفعة هوسا عاما في الريف حتى بلغ ثمن الفدان خمسمائة جنيه وإيجاره 40 أو 50 جنيها. وبدهي أنه في مثل بلادنا حيث منع الإنجليز تأسيس المصانع يجب أن ترتفع أثمان الأرض كلما زاد النقد المتداول؛ إذ ليس هناك شيء آخر لاستغلال النقد الفائض. وأعرف اثنين شقيقين في الريف كانا يتجران بالقطن في 1919. وقد عمهما الهوس بشأن الزيادة المستمرة في أثمانه، فصارا يجمعان منه ويكنزان حتى أصبحت ثروتهما كلها قطنا لا يملكان شيئا غيره. وكان يعرض عليهما الثمن العالي فيرفضان انتظارا لارتفاع الثمن إلى خمسين أو مائة جنيه. وهما في هذه الآمال والأحلام وإذا بالثمن يهوي إلى أقل من أربعة جنيهات. فجن أحدهما ومات الآخر. وكثر الانتحار بين المضاربين على أثمان القطن في بورصة الإسكندرية. وفي أثناء هذه الحمى كانت الثروات الضخمة تتكون في أيام أو أسابيع؛ فقد كان هناك تجار يشترون البيض أو الزبد أو يتجرون في البهائم. فلما رأوا أن القطن يصعد إلى السماء أقبلوا عليه. فلم يكن يدور العام على أحدهم - فيما بين 1918 و1919 - حتى كان يملك عشرين أو ثلاثين ألف جنيه مع أن كل ما كان يملك في بداية تجارته لم يكن يزيد على مائتي جنيه. وكان بعض هؤلاء يتناسى قديمه ويزعم أنه أصيل عريق في الثراء. وبعض آخر كان يتبجح بعصاميته وأنه جمع ثروته بذكائه، أو كما كان يقول بذراعه. وكلاهما كان كاذبا؛ لأن كل ما في الأمر أن الحظ رفعهم كما خفض غيرهم.
وكانت الحرب تسير في سلحفة بطيئة خالية من الاقتحامات، حتى كاد الناس يعدونها شيئا مألوفا ليس هناك ما يدعو إلى أن يتغير؛ فقد حفرت الخنادق - من الجانبين - في الإقليم الشمالي من فرنسا وجهزت بالأثاث والمصابيح الكهربائية، ونظمت بينها المواصلات وحصنت بالأسمنت. وعم الجهة الغربية ركود حتى صارت عبارة «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» من العبارات الرمزية نقولها عندما لا نجد خبرا جديدا. وهنا الاختلاف بين الحرب الأولى والحرب الثانية في 1939؛ فإن الغارات الجوية التي وصلت إلى مدننا جعلت هذه الثانية متحركة نشيطة بالمقارنة إلى سكون الأولى في الخنادق. وحاول الألمان أن يحركوا الجبهة الغربية بالهجوم الكبير على فردان، ولكنهم لم ينجحوا إلا في قتل عشرات الألوف من شباب الألمان والفرنسيين. والواقع أنه لم يكن في أخبار الحرب الأولى - بعد الهجوم البرقي الألماني الأول مما بقي أثره - سوى ثلاثة أشياء هي: دخول أمريكا في الحرب، ثم انفصال روسيا بنظامها الجديد، وأخيرا شروط ولسن التي أحسسنا بها كأننا نفتتح عصرا جديدا للسلام والعدل. وكان أهم ما في هذه الشروط حق تقرير المصير للشعوب التي يستعبدها الاستعمار. وكانت عصبة الأمم إحدى الثمرات لجهاد ولسن للسلام العام.
وقد ظهر ولسن بمذهبه الجديد كما لو كان نبيا؛ فإن العالم الذي كان يئن من الإمبراطورية البريطانية استروح نسيما منعشا من هذه المبادئ الجديدة التي تقول بالمساواة والحرية وتقرير المصير. وعلقت هذه المبادئ بأذهاننا، وصرنا نلهج بها ونفكر فيما نستطيع أن ننتفع به منها. وكان الساسة الإنجليز يتململون من هذه المبادئ ولكنهم لم يستطيعوا منعها وإنكارها. وقد عادوا إلى مثل هذه الحال في الحرب الكبرى الثانية عندما دعا الرئيس روزفلت إلى ميثاق الأطلنطي والحريات الأربع؛ فقد قبلوا مبادئ ولسن ثم مبادئ روزفلت بالقول مع نية نقضها بالفعل.
وكان ولسن يسير في أوروبا ويتنقل من عاصمة إلى أخرى والجماهير تحتشد له وتتلقاه في خشوع ديني؛ حتى كان بعضهم يجثو على الركب على أرصفة المحطات، وكان الكاتب الفرنسي رومان رولان في سويسرا وقد غادر فرنسا احتجاجا على الحرب.
وقد كتب له خطابا مفتوحا قال فيه:
أنت وحدك، أيها الرئيس، بين جميع أولئك الذين يحملون الواجب الرهيب لقيادة الأمم، أنت وحدك تستمتع بسلطة روحية عالمية؛ لأنك توحي الثقة العامة.
صفحه نامشخص