وفي تلك السنوات أيضا كان في لندن مجلات أسبوعية أدبية كثيرة تختص بدراسة الأدب الإنجليزي والأوروبي. وكانت «ذي أثنيوم» ثم «ذي أكاديمي» أقوى هذه المجلات. وكانت الأولى راقية حاوية موضوعية. أما الثانية فكانت شخصية جدلية، وكان يحررها اللورد ألفريد دوجلاس صديق أوسكار وايلد. وكان شاعرا أنيقا، ولكن تاريخه الماضي وعلاقته الحميمة الشاذة بأوسكار وايلد كانا يجعلان الجمهور الإنجليزي المحافظ يصد عنه، وكانت مجلته تنزوي في استحياء في المكتبات يسأل عنها طالبها.
وربما نستغرب في مصر أنه ليس عند الإنجليز الآن مجلة أسبوعية واحدة للأدب إذا استثنينا الملحق الأدبي للتيمس ومجلة جون أو لندن وهي تكتب بالعامية. وقد يعد القارئ هذه الحال تأخرا للحركة الأدبية، ولكني أعده تقدما؛ ذلك أن الأدب انتقل من برجه العاجي - أدب للأدباء - إلى الميدان الاجتماعي بل السياسي والاقتصادي. ولذلك فإن المجلات السياسية الإنجليزية تعالج الأدب في عناية وخبرة تدلان على أنها تعرف قدره في التفكير والتوجيه. أو قل إن التطور السياسي في أوروبا قد أصبح حافلا بالانقلابات والانفجارات، وإنه جذب إليه جميع الأدباء؛ ولذلك صار الأدب مذهبيا يتحزب ويتشيع لآراء معينة في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد.
وغاية الثقافة بعد ذلك أن نزيد الحياة وجدانا بأن نجعل مشكلات العالم مشكلاتنا الشخصية؛ لأن الحياة تنادينا إلى اليقظة والفهم والجد كلما استولى علينا النعاس والركود، والأدب هو إحدى الوسائل لزيادة هذا الوجدان. وعندي أن الرجل المثقف هو الذي يرتفع وجدانه الشخصي إلى الوجدان العالمي. ولا يكون هذا إلا بالانغماس في المشكلات البشرية العالمية.
وهذا هو ما يجب أن يكون؛ لأن الأدب للأدب هو الأدب في الخواء، وقد يقال حسب الأدب أن يكون إنسانيا، ولكن كيف يكون كذلك إذا لم يشتبك في المشكلات الإنسانية الحاضرة: السياسة والاقتصاد والاجتماع؟
ووجدت من هذه الحركات الأدبية في تلك السنوات توجيها لي وتربية. وكثير من مؤلفاتي - إن لم يكن جميعها - اتجهت فيها هذه الوجهة الاجتماعية، حتى صرت أوصف بأني «كاتب اجتماعي»، وكأن هؤلاء الواصفين أرادوا أن يميزوا بيني وبين الأدباء الذين ما زالوا يفصلون بين الأدب وبين الاجتماع. ولكني - مع ذلك - أجد فرقا أساسيا آخر بيني وبين بعض الأدباء في مصر، هو أني أمارس طرازا من البلاغة يمارسون هم غيره. ذلك أن طرازي أوروبي وطرازهم عربي. وقد حملني هذا الفرق على أن أؤلف كتابي «اللغة العربية والبلاغة العصرية»؛ لأن بلاغتنا التقليدية لا تلابس حضارتنا العصرية، وقد وجدت فيها عجزا عن التعبير لشئون عصرنا، فاخترت أسلوبا آخر للتعبير الذي يجمع بين الفن والاقتصاد، كما يكون على وجدان بقيمة التفكير ثم التعبير العلمي. فإن معاجمنا العربية التي ورثناها عن الأدب العربي تقول مثلا إن الطب هو السحر. ولكننا في القرن العشرين نقول إن السحر هو الخرافة، وإن الطب قد صار علما تجريبيا اجتماعيا بيولوجيا. ويجب - لهذا السبب - أن تلابس البلاغة العصرية عند الكاتب العصري هذا الطب الجديد فتكون هي أيضا علما تجريبيا اجتماعيا بيولوجيا. وبكلمة أخرى أقول: إن البلاغة - كاللغة - اجتماعية؛ أي إنها تخدم المجتمع وتلابسه. فإذا تغير المجتمع وجب أن تتغير البلاغة. ومجتمع القرن العشرين يحتاج إلى بلاغة القرن العشرين، بلاغة العلم والاجتماع الجديدين لا بلاغة العباسيين ولا بلاغة الأمويين.
تربيتي العلمية
لما تركت مصر إلى فرنسا في سنة 1907 كان «التطور» من مركباتي الذهنية البارزة، بل المركب الأول؛ حتى إني حين هبطت باريس جمعت طائفة من الكتب التي تعالج هذا الموضوع، ولكني لم أستطع فهمها وقتئذ؛ لأني أسأت الاختيار فلم أقتن الكتب الابتدائية أو بالأحرى لم أجدها. فلما قصدت إلى لندن وجدت العشرات من هذه الكتب الابتدائية. وكانت جمعية «العقليين» تنشرها وتبيعها بأثمان التراب بسعر 25 مليما لكل كتاب. فأكببت عليها في دراسة مثابرة، مع استخراج الخلاصات وكتابة التعليقات. وقرأت كتاب داروين «أصل الأنواع». وليس في هذا الكتاب شيء يشق على الفهم. ولكنه يحتاج إلى التأمل الكثير. وداروين بعيد كل البعد عن التعبير المسرحي؛ إذ هو متواضع معتدل يكتب في حذر كأنه يخشى أن يؤمن القارئ بكل ما يقول. وهو الضد لنيتشه في الأسلوب. فإن نيتشه ناري سماوي، أما داروين فأرضي طيني. وأسلوب نيتشه عاطفي ذاتي حتى حين يهتدي إلى الحقائق الموضوعية. أما داروين فيكتب عن وجدان وتعقل؛ حتى لتحس أنه ينفض عن نفسه عاطفته وذاتيته كما ينفض أحدنا الغبار عن شخصه.
وليس شك أن حبي لداروين وتحيزي لنظرية التطور - منذ نشأتي الثقافية - قد تركا أثرهما في أسلوبي الكتابي. فقد قيل إن الأسلوب يدل على الجانب الأخلاقي للمؤلف بل يكشف عنه. أي يدل على الاتجاه التفكيري وإيثار بعض القيم على بعض. وأنا أوثر أسلوب داروين: أسلوب المنطق الصارم والحذر والاعتدال على أي أسلوب آخر يوصف بأنه «أدبي». وكثيرا ما وصفني الكتاب في مصر بأني لست «أديبا»؛ لأنهم لا يجدون عندي تلك الزخارف والتزاويق المألوفة في غيري من الكتاب. ومع ذلك فإني لا أنكر سحر الأسلوب العاطفي. ولكني إذا كنت ألتذ السحر أحيانا وأستمتع بما فيه من مهارة فإني أوثر عليه أسلوب التعقل والوجدان. وأذكر أني حين قرأت «من الأعماق» تأليف أوسكار وايلد أعجبت بسحره. حتى إني عندما بلغت الصفحة الأخيرة عدت فورا إلى الصفحة الأولى أقرؤه ثانية كأني أستعيد لحنا جميلا وأنغاما رائعة. ولكنه لم يترك في رأسي مركبات ذهنية كتلك التي تركها «أصل الأنواع» لداروين. فقد غيرني داروين. أما أوسكار وايلد وجون روسكين وكارليل من الكتاب الذاتيين فقد نسيتهم؛ لأنهم جميعا بعيدون عن الحقاق الموضوعية. وحين أقرؤهم الآن أشعر أنهم يخطبون أو يصرخون أو يتفصحون. فأجد اللذة العابرة في أسلوبهم ولكني أحس أنهم ليسوا مفكرين أساسيين. والمفكر الأساسي عندي هو داروين الذي يتحدث في اعتدال وحذر. وأسلوبه هو الأسلوب الرصين. وأقرب الناس إليه في هذا الأسلوب هو برناردشو. وقد سبق أن قلت إن أحسن ما نقيس به الكاتب أن نعرف مقدار ما تركه لنا من المركبات الذهنية؛ لأنه على قدر هذه المركبات يكون تفكيره محوريا أو بذريا؛ أي إننا لا نأخذ منه المعرفة الجامدة فقط، بل نأخذ المعرفة النامية التي تنمو وتتشعع في الخلايا الرمادية من الدماغ فتتركنا ونحن نفكر ونشتبك في اشتباكات جديدة لا تفتأ تنبهنا إلى توسع وتعمق فإيناع. ومنذ 1908 حين قرأت «أصل الأنواع» وأنا في هذا التوسع والتعمق. فقد درست البيولوجية والجيولوجية بل سيكلوجية فرويد بحافز من إيحاء داروين. كما أن داروين كان السبيل إلى التعرف إلى هربرت سبنسر. وكان داروين يصفه بأنه «فيلسوف التطور» والحق أن سبنسر هو المسئول عن تعميم هذه النظرية ونقلها إلى المجتمع، ولا عبرة بأنه ارتكب أخطاء كثيرة في التفاصيل؛ فإن الأخطاء أحيانا قد تكون منيرة مثل الإصابات؛ لأنها تفتح كوة على ناحية لم تكن مفتوحة من قبل. فإذا كان الناظر إليها قد أخطأ الرؤية، فإن فضله لا يزال عظيما لأنه فتح الكوة. وهذا هو ما أراه في كثير من المفكرين مثل فرويد وسبنسر بل داروين نفسه. فقد نبهنا فرويد في خطئه عن «مركب أوديب» كما نبهنا سبنسر في خطئه عن سوء النظام الاشتراكي، وكذلك نبهنا داروين في خطئه عن تنازع البقاء. وكل هذه الأخطاء كانت كوات جعلتنا نفكر ونبحث؛ لأنها فتحت لنا آفاقا جديدة. وقد انتقلنا بها من الميدان البيولوجي إلى ميادين الاجتماع والدين والاقتصاد.
ومن الكتاب البذريين الأساسيين الذين تأثرت بهم، وما زالت المركبات الذهنية التي خلفوها في خلاياي الرمادية قائمة بل نامية: كارل ماركس. فقد وصلت إليه عن استغراض ضده من كتاب «الانفرادية» الذين يقولون بالمباراة الاقتصادية مثل هربرت سبنسر، وخرجت منه على احترام له واحتقار لهربرت سبنسر وأمثاله. ولكن هذا الاحتقار في هذه النقطة المعينة لم ينقص إكباري للقوة التفكيرية عند سبنسر. والحق أنها قوة عظيمة جدا. فإن نظرته شاملة وهو فيلسوف أكثر مما هو عالم . ولكنه فليسوف بعيد عن الغيبيات. وقد احترف هذا الرجل التفكير احترافا. حتى ليسأم الإنسان حين يقرؤه ويكاد يسائل: لماذا هذا الجد؟ لماذا يلهث ويعرق؟ ألا يفكر في إجازة يستريح فيها؟
والحق أنه لم يفكر في إجازة. وقد أصيب لهذا السبب بانهيار عقلي تألم منه نحو سنتين، وحتى بعد ذلك كان أحيانا يطلب من ضيوفه ألا يتكلموا بل أن يبقوا في ضيافته أو رفقته صامتين ...
صفحه نامشخص