لكن يا لقسوة القدر! فما كاد هذا النابغة القوي يتربع على دست عظمته حتى بدأت مقدمات الهم واليأس تسلك إليه مساربها، بدأت هذه الآفة التي نغصت عليه عيشه بقية أيامه منذ سنة 1796، فلما تمض على هذه السكينة للقوة العظيمة شهور حتى بدأ وجه الحياة يتجهم وبدأت نذر الشقاء تتقدم، وبدأت مقدمات الصمم بطنين الآذان ليل نهار طنينا مزعجا، وقد ظل سنوات يخفي مرضه حتى على أعز أصدقائه، وكيف تريد موسيقيا على أن يقول للناس إنه أصم؟! لكن ذلك لم يقعد به عن مداومة العمل، ولئن ظهرت بعض آثار الحزن الناشئة عن آلامه في عدد من الألحان التي وضعها في ذلك الحين فقد بقي أكثرها بساما طروبا، غير أنه لم يطق كتمان علته بعد أن احتملها خمس سنوات تباعا، فكتب في سنة 1801 يشكو هذه العلة إلى كثير من أصدقائه ومن بينهم صديقه أمندا إذ كتب يقول له:
عزيزي الطيب الرفيق أمندا
كم كنت أرجوك بجانبي، فصديقك بتهوفن بائس غاية البؤس، ذلك أن سمعي وهو أكرم أجزاء نفسي علي، قد ضعف كثيرا، وكنت أشعر منذ كنا معا بأعراض المرض وكنت أخفيه، لكنه اطرد سوءه من بعد، فهل أشفى؟ أرجو ذلك بالطبع، ولكن رجائي فيه قليل، فمثل هذا المرض أشد مما سواه استعصاء على البرء، وسأضطر لقضاء العيش في بؤس فأتجنب كل ما أحب وكل ما هو عزيز علي، وذلك بين عالم شقوة وأنانية، يا لشقاء الاستسلام الذي يجب أن ألجأ إليه، لا ريب أني فرضت على نفسي السمو فوق كل هذه الآلام، فهل ترى أستطيع تحقيق ما فرضت؟
هل من سبيل إلى عزاء لبتهوفن عن هذا الألم؟ هل من وسيلة لتخفيف مضضه ومرارته؟ الوسيلة الممكنة هي المرأة والسبيل هو الحب، فلو أن بتهوفن وجد يومئذ من يتعلق بها قلبه ويؤمن به وبعظمته قلبها؛ لكان له من ذلك ما يهون عليه بعض همه، ولقد كان منذ نشأته طيب القلب عطوفا، لكن حبه كان قاسيا كالفضيلة التي امتلأ بها قلبه، وكان لذلك يرى عارا أن تتدلى الموسيقى للتعبير عن حب تشويه الشهوة؛ ولذلك عاب على موزار قطعته «دون جوان»، على أن فضيلته القاسية هذه هي التي كانت سبب فشل علائقه الغرامية جميعا، ففي سنة 1801 تعلق بجوليتا جوكشياردي وأهداها لحنه المعروف «ضوء القمر»، وكتب إلى صديقه وجلر يقول له: «الآن أعيش أكثر سكينة وأختلط بالناس أكثر من ذي قبل، ولقد أبدع هذا التطور في حياتي سحر فتاة عزيزة تحبني وأحبها، وهذه هي اللحظات السعيدة الأولى التي تذوقت منذ عامين.» لكن هذا الحب زاده شعورا بمرضه كما أن جوليتا كانت لعوبا شديدة الأنانية لا تعبأ بآلام بتهوفن، ولم تعف في سنة 1802 - أي بعد سنة واحدة من حبها - عن أن تتزوج من الكونت جالنبرج، وكان حب بتهوفن إياها طاهرا مخلصا، فكانت خيانتها طعنة قاسية أصابت بها شغاف قلبه، على أنها لم تكتف بما فعلت بل جعلت تستغله لفائدة زوجها وجعل بتهوفن يذعن باسم الطيبة ويقول: «إنه عدوي، وذلك هو السبب في إسدائي إياه كل خير أستطيع إسداءه.»
وأدى به الصمم والمرض والانقطاع عن الناس وخيانة جوليتا إلى اليأس من الحياة وإلى اليقين باقتراب ختامها، وزاد به اليأس حين ذهب إلى «هيلجنستات» إحدى ضاحيات فيينا مستشفيا، ومكث بها ستة أشهر لم يفد لسمعه خلالها شيئا، هنالك كتب وصيته التي نثبتها هنا، وإن كان قد عاش بعدها خمسا وعشرين سنة، لأنها تدل على عظيم ألم هذا الرجل العظيم كما تدل على عظيم نبوغه وعظيم إيمانه بفنه وعلى طهارة نفسه وطيبة قلبه وحبه الناس، وتدل على أن هذه العواطف كانت في هياجة ثائرة كهذه الموسيقى القوية الثائرة التي نسمعها له في كثير من ألحانه وحتى في ألحانه الرقيقة اللحمة والسدا، قال:
يا أيها الذين ينظرون إلي أو يحسبونني حقودا أو برما بالناس أو متطيرا بالحياة، لشد ما تظلمونني، إنكم لا تعرفون السبب الخفي الذي يظهرني بهذا المظهر، فقد كان عقلي وقلبي متجهين منذ طفولتي إلى عاطفة رقيقة هي الطيبة، وكنت دائما مستعدا لأقوم حتى بعظائم الأعمال، لكن صوروا لأنفسكم بؤس حالي منذ ست سنين، هذه الحال التي زادها الأطباء الأغرار سوءا والتي ما أزال أخدع في أمرها عاما بعد عام آملا في تحسنها، ثم أضطر آخر الأمر لأحسبها حالا مزمنة يقتضي البرء منها - إن كان فيه أمل - سنين عدة، وقد يكون هذا البراء محالا.
لقد ولدت ذا مزاج حاد نشيط مستعد لذوق مسرات الاجتماع ثم اضطررت وما أزال في أول عمري إلى عيش العزلة، وحاولت التغلب على ذلك فصدمتني التجربة الأليمة القاسية غير مرة وجددت عندي الإحساس بمرضي، ثم إني كنت مستطيعا أن أقول للناس: ارفعوا الصوت وصيحوا فإني أصم، وكيف أستطيع أن أذيع ضعف حاسة كان يجب أن تكون عندي أدنى إلى الكمال منها عند الآخرين، حاسة كانت في الماضي بالغة من الكمال حدا لم يتح لقليل من أبناء فني أن يبلغوه، كلا! لا أستطيع، فاعذروني إذا إن رأيتموني أعيش عيش العزلة بينما أريد أن أكون معكم وفي صحبتكم وشقائي مضاعف له ألمي أن كان سببا للحكم علي حكما قاسيا، ولقد منعت من أن أجد الراحة والطمأنينة في الاجتماع بالناس وفي المحادثات الظريفة وفي العطف المتبادل، فأنا وحيد منقطع، لا أستطيع أن أجازف بنفسي في الجماعة، وما لم تكرهني على ذلك حاجة فيجب أن أعيش منفيا، فإذا اقتربت من جماعة ملك على الاضطراب مجموع حواسي من خشية أن أتعرض لوقوف الناس على بينة أمري.
ومن ثم أمضيت هذه الستة الأشهر في الريف، وقد طلب إلي طبيبي الفاضل أن يعنى بسمعي جهد الطاقة، وبلغ من ذلك أكثر مما كنت أرجو، ولقد شعرت غير مرة بالميل للاجتماع بالناس وتركت نفسي تنال مناها، ولكن أي مذلة أن أرى رجلا على مقربة مني يسمع قيثارة من بعيد ولا أسمع أنا شيئا، أو يسمع غناء الراعي ولا أسمع أنا شيئا؟! ولقد قربت هذه التجارب بيني وبين اليأس حتى كدت أقضي بيدي على حياتي، لكنه الفن - نعم هو الفن وحده الذي استبقاني - أواه! لقد بدا لي أن من المحال أن أترك هذا العالم قبل أن أتم كل ما أحسست أني مطالب بأدائه، وكذلك أطلت في هذه الحياة البائسة، والبائسة حقا، لجسد سريع التهيج حتى لينقله أقل تغيير من خير الحالات إلى أسوئها ... صبرا، كذلك يقولون! وهو الصبر الذي يجب أن أختاره الآن مرشدا وقد اخترته، وإني لأرجو أن تظل عزيمتي على المقاومة ثابتة حتى ترضى الآلهة بالقضاء على بقية حياتي، وإن يصلح الحال أو يسوء فإني لصابر، ألا ليس يسيرا أن يكره الإنسان - وما يزال في الثامنة والعشرين من العمر - على أن يكون فيلسوفا، وذلك أشد قسوة برجل الفن منه بأي رجل آخر.
اللهم إنك لتستشف من سمائك حجب قلبي وتعرفه وتعلم أنه عامر بحب الناس والرغبة في عمل الخير، وأنتم أيها الناس إذا قرأتم يوما هذا الذي أكتب فاذكروا كم كنتم ظالمين إياي، وإن الشقي ليتعزى إذا رأى شقيا مثله قام برغم كل ما ألقت الطبيعة في سبيله من عقبات بكل ما في جهده أن يقوم به كي يكون في صف رجال الفن والصفوة المختارين.
هيلجنستات في 10 أكتوبر سنه 1802 - والآن وداعا، وداعا أسيفا - إن الأمل العزيز الذي جئت به إلى هنا، هذا الأمل في أن أشفى ولو إلى حد يجب أن أيأس منه كل اليأس، وكما تتناثر أوراق الخريف وتذوي، كذلك هذا الأمل جف في نفسي وذوى، كما جئت إلى هنا أعود وقد فقدت حتى الهمة التي كثيرا ما استندت إليها أيام الصيف الجميلة، أواه أيها القدر! هب لي أن أرى مرة واحدة يوم مسرة صفو، فما أطول الزمن الذي حبس عني فيه رنين المسرة الصادقة العميق! أواه متى يا رب؟ متى أستطيع أن أحس بها في معبد الطبيعة والناس ... أبدا، كلا، فذلك يكون أبلغ القسوة.
صفحه نامشخص