تراجم مشاهير الشرق
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
ژانرها
ثم كانت الحرب بين العثمانيين والروس سنة 1787، وكان علي باشا في جملة القواد، فأظهر بسالة شديدة نال عليها إنعاما عظيما، فتعين واليا على تريكالا من تساليا (اليونان) ودرويند الروملي في وقت واحد مع لقب باشا، فلم يمض زمن قصير حتى طهر البلاد من اللصوص بترغيبهم في الخدمة العسكرية، فأدخل في خدمته جماعة كبيرة منهم، فألف تحت لوائه جندا كبيرا، وكانت يانيا متمردة على الدولة فخرج عليها بجنده فأخضعها سنة 1778 وأصلح أحوالها، فلما رأت الدولة منه ذلك ثبتته على كرسيها وسمي من ذلك الحين «والي يانيا» وهو اللقب الذي ما زال يعرف به إلى اليوم.
فلما رأى نفسه حاكما وأنه توصل إلى الحكومة بعدته ورجاله، حدثته نفسه أن يوسع دائرة سلطانه، فجعل ينتحل أسبابا يسطو بها على جيرانه كما فعل محمد علي باشا لما تولى مصر، وقد يرى القارئ مشابهة في ترجمة حياة هذين الرجلين من بعض الوجوه، وسنأتي على إيضاح ذلك فيما يلي.
فسطا علي باشا على حدود اليونان، ففتح غربي شماليها، وهي المقاطعة التي كانت تسمى ليفاديا، وطمع في جبال سوليوتس في الجنوب الغربي من أبيروس، وحاربهم طويلا فلم يخضعوا فضيق عليهم إلى سنة 1803 فقبلوا بإخلاء جبالهم والمهاجرة إلى جزيرة كورفو، فعاهدهم على ذلك ولكنهم لم يكادوا يخرجون حتى لقيهم رجاله وذبحوهم غدرا.
وعلم علي باشا أن مطامعه هذه لا تسلم من عقاب الدولة إلا إذا تحصن وأكثر من العدة، فاتفق سنة 1797 أن الفرنساويين استولوا على البندقية، وكان كلما سمع ببسالتهم ونهضتهم أظهر إعجابه ولمح أنه يريد المسير على خطواتهم ولكنه يحتاج إلى الحصون والمعاقل، فخابر بونابرت إذ ذاك بالأمر، فبعث إليه مهندسين بنوا له حصون يانيا التي لا تزال باقية إلى هذه الغاية، فضلا عن حصونها الطبيعية، وكان عدد سكان تلك المدينة إذ ذاك 35000 بين مسيحيين ومسلمين وبوهيميين.
ولم يمض قليل حتى فشل نابليون في مصر، فاغتنم علي باشا تلك الفرصة واستخرج بريفيزا عند خليج أوطا من أيدي الفرنساويين، ثم نال مصادقة السلطان على ما فتحه من البلاد، فأصبحت مملكته شاملة كل ألبانيا من الجبل الأسود إلى أبيروس، ولم تأت سنة 1817 حتى انضم اليها أبيروس وبعض تساليا والجزء الغربي من شمالي اليونان، وتولى أحد أولاده حكومة المورا فأصبح سلطانه واسعا، واتضحت مطامعه لدى الباب العالي فلم تر الدولة طمأنينة إلا بقتله، وكان قد بلغ الثمانين من عمره، فلم تجد سبيلا إلى ذلك وهو يتظاهر بموالاتها مع الاستعداد للدفاع، فلم تسمح العناية ببقاء دولته كما سمحت ببقاء دولة محمد علي في وادي النيل، فاتفق أن ضابطا من جنده انتظم في جند الآستانة فغضب علي باشا، وبعث إليه من يقتله سنة 1820 فشق ذلك على الباب العالي فبعث إلى سائر ولاة الدولة في تركيا وأوروبا أن يزحفوا عليه، فلم ينالوا منه مأربا لمناعة يانيا بالحصون، فلم ير الباب العالي بدا من العدول إلى السياسة، فبعث إليه خورشيد باشا أول سنة 1822 أن يسلم فينال العفو السلطاني، فأذعن الشيخ تخلصا من الحروب، وفي 5 فبراير سنة 1822 دعا خورشيد باشا عليا إليه ليسلمه الخط الشريف الناطق بالعفو عنه، فجاء وهو لا يدري ما نصب له، فدخل عليه وجلسا برهة يتحادثان، ثم مد خورشيد يده فاستخرج الفرمان المؤذن بقتله ودفعه إليه، فلما رآه علي أجفل واعترض ودافع عن نفسه دفاعا شديدا ولكن الكثرة غلبته فقتلوه وأرسلوا رأسه إلى الآستانة، وانقضت دولته بعد حكومة بضع وثلاثين سنة. (2) علي باشا ومحمد علي باشا
لا يقرأ المطالع ترجمة علي باشا إلا ويتذكر سيرة رجل مصر المغفور له محمد علي باشا؛ لمشابهة بينهما في غرضهما الأساسي وهو تأسيس الدول، فقد سعى كل منهما إلى تأسيس دولة يستقل بها تمثلا بمن سبقه أو عاصره من الرجال العظام، والمثل الأول لديهم بونابرت الذي كان معاصرا لهم وارتقى بإقدامه وشجاعته وتدبيره من أدنى رتب الضباط إلى أسمى رتب الملوك، فكان قدوة رجال في الإقدام ومثال القواد العظام. وطبيعي أن ظهور مثل هذا الرجل ينبه أذهان معاصريه إلى الاقتداء به فضلا عن النهضة العمومية التي نشأت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن على أثر الحروب وإشراق شمس العلوم، وما نتج عنها من الاكتشافات والاختراعات، فتحركت الهمم وثارت الأفكار، وكان ذلك بمنزلة الاحتكاك للأذهان فظهرت القوى الكامنة في الناس على اختلاف مراتبهم وأصقاعهم، فنبغ من نبغ ومات من مات عملا بناموس الارتقاء العام.
وكان في جملة من ثارت قواهم، وظهرت مواهبهم العسكرية علي باشا في ألبانيا، ومحمد علي باشا في مصر وكلاهما من ولاة الدولة العلية، فسعيا سعيا متشابها يلتمسان غرضا متشابها، فانتهى بأحدهما إلى الانقضاء، وبالآخر إلى البقاء، فبعد أن بلغ علي باشا أوج سعده واستقل تقريبا بألبانيا وبعض ملحقاتها سقط وامحى أثره، وظل محمد علي باشا سائرا في خطته، وأسس دولة يتوارث الحكومة فيها أعقابه من بعده (تحت رعاية الدولة العلية)، فما هي الأسباب التي قضت بزوال الدولة الأولى وبقاء الثانية؟
يلوح لنا أن السبب الأول في ذلك: اختلاف الرجلين في الأخلاق الغريزية؛ فقد كان علي باشا شجاعا شديد البطش كبير المطامع طلابا للعلى، ولكنه لم يكن عادلا حسن السياسة لين العريكة مثل محمد علي؛ يدلك على ذلك معاملته لأهالي سوليوتس المتقدم ذكرهم، وفتكه بأهل كارديكي من ولايته، وذلك أنه علم بأن بعضهم ذكر والدته بالسوء فأعمل السيف فيهم، وذبح منهم مذبحة هائلة، على حين أن محمد لم يترك وسيلة في استرضاء المصريين، واستجلاب طاعتهم بالبذل، وإجراء العدل، ونشر العلوم، وضبط الإدارة.
وقد يعترض على محمد علي بذبحه المماليك غيلة في القلعة، ولكنه فعل ذلك مضطرا استبقاء لسلطته وتنفيذا لأوامر الباب العالي السرية. أما علي باشا فإنه فضلا عن تنبيه ذهن الباب العالي لمطامعه مد يده إلى كرامة عاصمة الدولة فقتل أحد ضباط الجند العثماني في وسط الآستانة كما تقدم، وفي ذلك من ضعف السياسة ما فيه. أما محمد علي فكان عونا للدولة العثمانية في كثير من حروبها؛ فدوخ لها الوهابيين، وأعانها في إخماد ثورة اليونان وإن لم ينجح.
ثانيا: أن محمد علي باشا استعان في تأييد حكومته بمصر ونشرها إلى ما يجاورها بواسطة أولاده، فقد حارب الوهابيين بقيادة ابنه طوسون، وحارب الشام والمورة بقيادة ابنه إبراهيم القائد العظيم، وأخضع السودان بابنه إسماعيل، وأيد سلطانه فيها كلها بحسن سياسته مع الدولة العلية، والمحافظة على علاقته بها بالحسنى.
صفحه نامشخص