تراجم مشاهير الشرق
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
ژانرها
1
يتصل نسبه بالإمام الحسين، ولد في شهر مايو (أيار) عام 1807 في قرية القيطنة التابعة لأيالة وهران في جزائر الغرب، وكان والده من أكابر العلماء العاملين محترما لدى أعيان الجزائر لبسط يده وكرم أخلاقه ودعته.
وقد بذل قصارى جهده في تثقيفه لما آنس فيه من الذكاء والدراية، حتى إنه تمكن بمدة قصيرة من اكتساب جانب عظيم من العلم وحفظ القرآن الشريف حفظا جيدا، واشتهر في السابعة عشرة من عمره بشدة البأس، وقوة البدن، والفروسية، حتى كان يشار إليه بالبنان بين الفرسان لمهارته في ركوب الخيل واللعب على ظهورها، وكان يطارد الخنزير البري في الغابات ويصطاده، على أن ذلك لم يشغله عن القيام بواجباته الدينية.
شكل 20-1: عبد القادر الجزائري (ولد سنة 1807 وتوفي سنة 1888).
وفي نوفمبر من سنة 1825 صحب والده إلى الحرمين لأداء فريضة الحج فمرا بحاشيتهما بالإسكندرية، وزارا القاهرة وفيها المغفور له محمد علي باشا فأكرمهما، ومن القاهرة قصدا الحجاز عن طريق السويس، وعرجا بعد الحج نحو دمشق قضيا فيها زمنا، وسارا منها إلى بغداد لزيارة مقام سيدي عبد القادر الكيلاني فنالا كل رعاية وإكرام، ثم عادا من هناك إلى الحرمين ثانية ومنها إلى وطنهما، فوصلاه في أوائل عام 1828.
ولم يزدد عبد القادر بعد هذا السفر إلا شغفا في العلم، فاعتزل لتحصيله ولازم الخلوة يطالع كتب العلم والفلسفة، فدرس رسائل أفلاطون، وفيثاغورس، وأرسططاليس، وتعمق في درس الفقه، والحديث، والجغرافية، والفلك، والتاريخ، وكتب العقاقير، وجمع مكتبة من أثمن مكاتب تلك الأيام.
وفي عام 1830 استولى الفرنساويون على الجزائر، ونشروا المنشورات الرسمية بامتلاك البلاد واستخراجها من أيدي العثمانيين، فشق ذلك على القبائل العربية القاطنة في تلك الأنحاء وانتفضوا على الفرنساويين، وكان الفرنساويون تحت قيادة الجنرال برمونت وقد بلغوا جبل الأطلس فاضطروا للتقهقر إلى الشطوط، وأخذوا في تحصينها، ثم عادوا فاستولوا على مدينة وهران.
وتسبب عن تداخل الفرنساويين وخروج جانب من تلك البلاد من حوزة الدولة العلية اختلال الأحوال، فسادت الفوضى واجتمع المرابطون ورؤساء القبائل وفي جملتهم الأمير محيي الدين والد صاحب الترجمة، وتشاوروا في الأمر فقر رأيهم على الانضمام إلى سلطان مراكش مولاي عبد الرحمن، فبعثوا إليه بذلك فوافقهم فدخلت الجزائر في سلطانه وخطب الجزائريون له وبايعوه، فغضب الفرنساويون وبعثوا إلى مولاي عبد الرحمن يهددونه بالحرب أو يسحب جنوده من الجزائر، ففضل الانسحاب فاجتمع كبار أهل الجزائر وتفاوضوا في أمرهم فقر رأيهم على أن يقيموا عليهم الأمير محيي الدين سلطانا يرجعون إليه، فذهبوا إلى القيطة (بلدته) وطلبوا إليه قبول اقتراحهم وأرادوا مبايعته فأمسك عن الإجابة، فأصروا عليه وهددوه بالقتل إذا تمنع، فأجابهم على أن تكون تلك السلطة لولده عبد القادر فقبلوا، وكان عبد القادر يحارب الفرنساويين في مكان يقال له: (حصن فيليب) فبعثوا إليه وبايعوه وسنه إذ ذاك 25 سنة فذهب إلى الجامع وصلى وحث الناس على الطاعة والسير بمقتضى الشرع الشريف والاقتداء بالخلفاء الراشدين، وأول شيء باشره جمع كلمة القبائل وضمها بعضها إلى بعض حتى يقووا على مقاومة العدو الأجنبي وإخراجه من بلادهم، وحارب بهم عدة مواقع فاز في بعضها ولا سيما في موقعة وهران، فإنه انتصر فيها انتصارا مبينا، وكانت الجنود الفرنساوية تحت قيادة الجنرال ميشيل، فصار يهابه الفرنساويون ويخشون بطشه.
وكانت فرنسا على رغبتها في التفرد بسلطتها في الجزائر لا تحب المخاطرة بحملة كبيرة من جندها تقهر عبد القادر، فأوعزت إلى الجنرال ميشيل أن يعقد معه معاهدة صلح فخابره بذلك وتمت المعاهدة سنة 1834.
ولما هدأت الأحوال تفرغ عبد القادر لإصلاح شئون داخلية بلاده، وإعداد المعدات الحربية لاعتقاده أن الحرب لا بد من العود إليها، فأنشأ معامل لعمل الأسلحة وصب المدافع واصطناع البارود، ونظم الجند، فاضطر من أجل كل ذلك للنفقات الطائلة، فطالب القبائل بالزكاة عن المواشي فانتقض عليه بعضهم، ولكنه تمكن بحسن درايته من إخضاعهم ولم شعثهم، فاتسعت سلطته وامتد نفوذه، فشق ذلك على الجنرال دي أورلين القائد الفرنساوي إذ ذاك، فبعث إليه أن يلازم حدوده ولا يمد يده إلى خارج وهران، فأجابه أن دائرة سلطانه غير محدودة بمقتضى المعاهدة المار ذكرها، فدارت المداولة بين الفريقين بالمسالمة، ولكن مطالب عبد القادر لم تحز قبولا لدى الفرنساويين، فأضمر لهم الشر وأمر بعض القبائل المقيمة بجوار وهران أن تنزح إلى داخل البلاد، فخاف هؤلاء بطش الفرنساوية وطلبوا حمايتهم، فطلب الأمير إلى الفرنساويين أن لا يحموهم فاستاءوا وأشهروا عليه القتال، وساروا في خمسة آلاف ماش وعدة من الفرسان وبعض المدافع، ولكنهم رأوا من رجاله ما اضطرهم إلى الانسحاب حالا، فعلم الأمير بجهة انسحابهم فسار لملاقاتهم في مضيق وهم لا يعلمون، فلما بلغوا المضيق هجم عليهم برجاله فأبلوا فيهم، ولم يبقوا إلا على نفر منهم.
صفحه نامشخص