تراجم مشاهير الشرق
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
ژانرها
شكل 18-1: سليمان باشا الفرنساوي مؤسس الجند النظامي المصري (ولد سنة 1787م وتوفي سنة 1860م).
ولكن العناية سخرت له رجلا من الأشراف اسمه الكونت بول دي سيفور، يقال إن سيف كان قد أنقذه من الموت مرة فذكر له هذا الجميل، فلما حكم عليه توسط في أمره فأنقذه وأرسله إلى الجيش الفرنساوي الذي كان إذ ذاك في إيطاليا.
ولما شبت الحرب بين فرنسا والنمسا كان سيف في جملة الأسرى عند النمساويين، وبقي مغتربا عامين حتى إذا كانت حملة نابليون الشهيرة على روسيا سنة 1802 فكان سيف في جملة جندها، وأظهر في أثناء وقائعها الهائلة بسالة أوجبت التفات نابليون الخصوصي حتى أراد أن يقلده نيشان اللجيون دونور، فدعاه إليه بهذا الشأن فآنس منه استخفافا فحنق عليه وحرمه من ذلك الشرف، على أنه ما لبث أن رقي في الرتب العسكرية حتى بلغ رتبة كولونيل (أميرالاي) بعد رجوع تلك الحملة السيئة الحظ.
ثم كانت الوقائع المشهورة التي قضت على رجل فرنسا (نابليون) بالأسر والنفي، فقضي على الكولونيل سيف بالخروج من الجندية والانقطاع إلى التجارة التماسا للتعيش، ولكن أنى للجندي المحارب أن يساوم امرأة أو غلاما على مبيع سلعة فيبح قبل إتمام المبايعة! وخصوصا صاحب الترجمة؛ فقد كان قليل الصبر على مثل ذلك، فأنفت نفسه التجارة ولم يفلح فيها، وسمع في أثناء ذلك أن شاه العجم في حاجة إلى ضباط حاذقين في تدريب الجند فكتب إلى صديقه الكونت دي سيفور المتقدم ذكره يلتمس كتاب توصية منه إلى الشاه، فنصح له الكونت أن يتوجه إلى محمد علي باشا بمصر. (2) تاريخه وأعماله في القطر المصري
فجاء مصر سنة 1819 ومعه كتاب توصية، فأحسن محمد علي باشا مقابلته وكلفه بالبحث في جهات السودان عن معادن فحم الحجر، ولكنه لم يعثر على شيء منه فعاد إلى القاهرة، واتفق وصوله إليها يوم الاحتفال بغلبة الجنود المصرية على الوهابية.
وكان محمد علي باشا لحسن نظره واهتمامه في تأييد دولته ما زال يفكر في سبيل يوسع به ملكه، وتوسيع الملك لا يكون إلا بتعزيز الجند، والجند لا يقوم إلا بالنظام، وكان قد شاهد الجنود الفرنساوية بمصر وأعجبه نظامها، وهو النظام الذي وضعه بونابرت وتمكن به من التغلب على معظم دول الأرض، وكانت الجنود المصرية إلى ذلك العهد لا تزال على النمط القديم لا يعرفون الخطوط ولا المربعات ولا ما شاكل ذلك من النظامات العسكرية، بل كانوا عبارة عن فرق أو وجاقات وفيهم الأرناءوط والإنكشارية والمغاربة ونحوهم، ولكل من هذه الفرق قائد، فإذا نزلوا ساحة الوغى ركب كل جواده واستل حسامه أو بندقيته أو رمحه وهجم على ما يتراءى له.
فرأى محمد علي باشا رحمه الله أن يجعل جنده نظاميا، ففاوض الكولونيل سيف بالأمر فرغبه فيه، فعهد إليه تأليف الجند على هذه الصورة وتدريبه على الحركات العسكرية، فشق ذلك على جماعة الأرناءوط وغيرهم؛ لأن ذلك النظام في اعتبارهم بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فلم يقبلوا الإذعان ونفروا وتمردوا وتجمهروا حول القلعة يطلبون الرفق بهم، فرأى محمد علي أن يعاملهم بالحسنى، فأجاب ملتمسهم وأغضى عن تعليمهم، ولكنه رأى أن يدخل ذلك النظام بين جماعة الوطنيين لقربهم من الإذعان، فأنشأ مدرسة حربية في الخانكاه قرب المطرية تعلم فيها اللغات والحركات العسكرية، وجعل سراي مراد بك بالجيزة مدرسة للفرسان، وأنشأ مدرسة للطوبجية، ثم أنشأ في القاهرة معامل لسكب المدافع واصطناع سائر حاجيات الجند، وعهد بذلك كله إلى الكولونيل سيف وكان قد أسلم وسمى نفسه سليمان، فصار يعرف باسم سليمان بك الفرنساوي، وأحبه المصريون وأذعنوا له، فنظم جندا نظاميا بلغ عدده 25000 جندي كانوا له عونا في حروبه بالمورة والشام وغيرهما.
ولما كانت حروب المورة المشهورة منذ سنة 1821 أنفذ الباب العالي إلى محمد علي باشا أن يجند جيشا لمحاربة المورة، فأرسل عمارة بقيادة ابنه إبراهيم باشا سنة 1821 وكان سليمان بك من جملة أبطالها، وتمكن ببسالته من الاستيلاء على جزيرة ميسولونغي سنة 1826 ثم عين حاكما لبريوبتزا فساس أمورها، ثم انقضت مشكلة المورة بمداخلة الدول الأوربية، فعادت الجنود المصرية، وعاد سليمان بك ومعه فتاة يونانية على مثل ما كان يفعل أبطال اليونان القدماء.
ولكن هذه الحرب أثقلت كاهل الجندية المصرية، فأعاد محمد علي اهتمامه في إصلاحها ثم كانت الحوادث التي قضت بتجريد الجنود المصرية على عبد الله باشا والي عكا سنة 1731 بقيادة المرحوم إبراهيم باشا، وفوض قيادة الطوبجية إلى سليمان بك، فسارت الحملة إلى الشام في حرب عكا ثم فتحها عنوق فقبض إبراهيم باشا على واليها عبد الله باشا وأرسله إلى الإسكندرية، وأوغل في الشام وسليمان بك ساعده الأيمن في كل المواقع الكبيرة، وكان قائدا لستة آلاف جندي فأنفذ الباب العالي جندا كبيرا لقهر الجند المصري فوكل إبراهيم باشا مقابلة جانب من هذا الجند إلى سليمان بك، وسار هو لمقابلة الباقين فحارب سليمان فرقة كبيرة قرب حمص فتغلب عليها في بيلان ثم في الإسكندرونة ثم في قونية، وكانت قد تعززت بنجدات قوية، فأعجب إبراهيم باشا بشجاعة هذا الرجل ومهارته في الحركات العسكرية، ورقاه إلى رتبة باشا، وكان في عزم المصريين البقاء على الزحف لو لم تتداخل الدول وتقرر الصلح، فعادت الجنود المصرية إلى السكينة، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى الحرب لهياج حدث في بيت المقدس، فساروا ومعهم سليمان باشا فأخمدوا الفتنة.
وبعد قليل أصدر محمد علي باشا أمره برجوع سليمان باشا إلى مصر، ثم عادت الحرب في سوريا فعاد إليها إبراهيم باشا، وما زال يحارب بسيف المصريين حتى اقتضت السياسة الأوربية انسحاب الجنود المصرية من سوريا، فرجع سليمان باشا معها إلى مصر وتعين رئيسا عاما للجيش المصري، وما زال فيها عالي الكلمة، مرعي الجانب حتى أراد إبراهيم باشا السفر إلى جبال البيروني للاستجمام فانتدب سليمان باشا لمرافقته فرافقه، وساعده الحظ أن يرى وطنه رأي العين بعد أن غاب عنه أعواما طوالا، ولما شفي إبراهيم باشا من مرضه زار فرنسا ثم لندرة وصاحب الترجمة معه، فسرته تلك الرحلة لأنه تمكن من تفقد الثكنات العسكرية في أكبر عواصم أوروبا، وملاحظة الحركات الحربية، ثم عاد إلى باريس وإبراهيم باشا لا يزال في لندرة، وبرح باريس إلى البلجيك وهولندا، ثم عاد إلى ليون مسقط رأسه فأقام فيها مدة بين أهله وذويه، ثم رجع إلى الإسكندرية فمصر ورفع إلى محمد علي باشا تقريرا بما رآه ولاحظه في أثناء سفره، وعاد إلى الاهتمام في تدريب الجند، وما زال عاملا مجتهدا حتى توفي إبراهيم باشا، فصار الأمر إلى عباس باشا الأول، ثم إلى سعيد باشا، فتوفي صاحب الترجمة على عهده في 11 مارس سنة 1860. (3) صفاته وأخلاقه
صفحه نامشخص