تراجم مشاهير الشرق
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
ژانرها
فلما فتحت دارفور واستقر الأمن فيها نزح التقي وعائلته من وطنهم إلى شكا أقاموا فيها سنتين ثم ساروا منها إلى دار الحمر فالأبيض فدار القمر، ونزلوا أضيافا على شيخ ذلك المكان عساكر أبي كلام بضعة أشهر، وهناك توفي السيد محمد التقي ودفن في شركلة، وقبل مماته أوصى عبد الله ابنه الأكبر أن يلازم بعض مشائخ الدين في وادي النيل مدة ثم يهاجر إلى مكة فيقيم فيها ولا يعود إلى السودان.
فترك عبد الله إخوته عند الشيخ عساكر، وسار قاصدا وادي النيل، فسمع في أثناء الطريق بمحمد أحمد المهدي وما يتحدث به الناس من كرامته مع شهرته في طريقه، فقصده وطلب الانضمام إليه، واتفق أن محمد أحمد كان إذ ذاك في خصام مع أستاذ طريقته أفضى إلى الشحناء، فاغتنم عبد الله تلك الفرصة وخدم محمد أحمد خدما حببته إليه، فأسس محمد أحمد طريقة كان عبد الله من أقدم المشتركين فيها، ورأى تجمع الأحزاب حول محمد أحمد، فقال في نفسه: لعل هذا هو المهدي المنتظر، وكان أهل السودان ينتظرون ظهور المهدي قريبا، وكلما رأوا رجلا يفضلهم عقلا ودراية ظنوه المهدي، فقال عبد الله لمحمد أحمد: «إن كنت المهدي المنتظر قل!» فقال، وجعل عبد الله خليفة له؛ فهو أقدم خلفائه وأول القائمين بنصرته ويده اليمنى في كل أعماله كما قد رأيت في سياق تاريخ المهدي مما لا فائدة من إعادته. (1) صفاته وأخلاقه وأعماله (1-1) وجهه
بلغ التعايشي السنة الخمسين من عمره وهو ربع القامة، أسمر اللون قليلا، على وجهه آثار الجدري، أقنى الأنف، حسن شكل الفم، خفيف الشاربين والعارضين، كثيف العثنون (شعر الذقن)، أشيب الشعر، عربي الملامح، وكانت ملامحه في أوائل أيامه تتخللها طلاقة وبهجة، فأمست في أواخرها وقد غشاها انقباض تنقبض منه النفس ويدل على ما انطوى عليه الرجل من الاستبداد والمكر والدهاء، وهو قصير الشفتين تظهر أسنانه من خلالهما، وخصوصا إذا تكلم فإنها تبرز لامعة بيضاء كأنه يبتسم. (1-2) لباسه
وكان قبل وفاة المهدي يلبس الجبة المرقعة الخاصة بالدراويش، فلما تولى الخلافة جعل جبته من القطن الأبيض الرفيع بلا رقع ، ولكنه خاط بحوافيها شرائط ملونة، وكان يلبس السراويل من القطن أيضا، ويلف عمامة بيضاء حول طاقية من الحرير صنع مكة، ويلقي على كتفيه أحيانا شالا من القطن، وترى في صورته (ش
11-1 ) رسمناها بناء على ما وصفه به سلاتين باشا وغيره ممن شاهدوه؛ لأن الرجل لم يتصور صورة منقولة عنه رأسا.
وكان في بادئ الأمر يحتذي نعالا كنعال سائر الدراويش، ثم أبدلها بالخف والبابوج من جلد ضارب إلى السمرة، فإذا مشى حمل بيساره سيفا جميلا، وبيمينه رمحا صغيرا جميل الشكل من صنع قبيلة الهدندوة يتوكأ عليه كالعصا، وهو لا يمشي إلا محاطا بحلقة من صغار العبيد وأكثرهم من أبناء الأحباش الذين أسروا في المواقع الأخيرة المتقدم ذكرها، وواجباتهم إيصال أوامره إلى من أراد في أم درمان، فإذا بلغ أحدهم أشده انتظم في سلك الملازمين. (1-3) أخلاقه
كان حاد الطبع، مقحام، غضوب، إذا غضب سارع في حكمه وأصر على عناده، لا يسمع نصحا ولا يصغي إلى مشورة، كثير الشكوك، سيء الظن، لا يثق بأحد ولو كان من أقرب أقربائه أو من أهل منزله؛ لاعتقاده أن الإخلاص والأمانة يندر وجودهما. يرتاح إلى الإطراء والتملق، فإذا خاطبه أحد صدر خطابه بذكر محامده، ونسب كل ما حدث من الحسنات إلى حكمته ودرايته وعدله وبسالته وكرمه، فيسمع كل ذلك مصغيا ويزداد عجبا وافتخارا، وهو يثق بمقدرته وثوقا تاما، ويظن نفسه قادرا على كل شيء، فما كان من ذلك فوق استطاعة البشر نسبه إلى قوة إلهية حلت فيه.
ومن أخلاقه الحقد والصرامة، والعنف والانتقام، فيفرح بتكدير الآخرين وخذلانهم. وأسعد يوم عنده يوم يضبط فيه الأموال ويلقي الناس في الأغلال والقيود أو يسوقهم إلى القتل والذبح، فيبعد الولد عن والديه والامرأة عن زوجها ظلما وعدوانا، فكثيرا ما أمر بقتل الألوف من النساء والأولاد الأبرياء. (1-4) مجلسه
ويكلف التعايشي القائمين بخدمته والجالسين في مجلسه تذللا لا تستطيعه نفس الحر، فالداخل عليه يقف أمامه مطرقا ويداه متقاطعتان على صدره ينتظر أمره بالجلوس، والتعايشي جالس في صدر القاعة على عنقريب عليه حصير مصنوع من سعف النخل فوقه فرو من جلد الضأن يرف عن حوافي العنقريب، وقد يتكئ إلى وسادة من القطن، فإذا كان الداخلون عليه أهلا للجلوس في حضرته أشار إليهم فيجلسون على الأرض جلوسهم للصلاة مطرقين ينتظرون ما يلقيه عليهم من الأسئلة، فيجيبون وهم ينظرون إلى الأرض لا يبدون حراكا إلا إذا أمرهم بالانصراف فينصرفون. (1-5) داخليته
ومن الغريب أنه مع استبداده في حكومته وعنفه في تنفيذ أوامره فهو على الضد من ذلك مع أهل منزله، فقد كان يحب ابنه عثمان أكبر أولاده حبا شديدا وينعطف نحوه انعطافا غريبا، وقد بذل كل مرتخص وغال في سبيل تعليمه القرآن والتفسير والحديث وسائر العلوم الإسلامية، فلما بلغ السابعة عشرة أزوجه ابنة عمه يعقوب، وأغضى عن وصية المهدي بإبطال ولائم الأفراح، فنصب الموائد ومد الأبسطة ثمانية أيام حتى لم يبق أحد من أهل أم درمان إلا أم ذلك الاحتفال، ثم أزوجه فتاتين أخريين من أقاربه، وأهداه قطيعا من السراري والجواري، وأوعز إليه صريحا أن لا يقرب امرأة من نساء وادي النيل (الدناقلة)، وزوج ابنته بمحمد بن المهدي، وكان محمد هذا ينوي الاقتران ببعض ذوات قرابته لأنه لا يحب ابنة التعايشي، ولكنه لم يتجرأ على التصريح بذلك؛ لعلمه أن التعايشي يسيء الظن به ويتعرض في أموره تعرض الوصي ويراقبه مراقبة الحرس، فكظم غيظه وصبر على بلواه. (1-6) نساؤه
صفحه نامشخص