تراجم مشاهير الشرق
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
ژانرها
أما الحملة فوصلت جوار الخرطوم في أواسط أكتوبر سنة 1884 فعسكرت على مسافة يوم منها، وهناك بعث المهدي إلى سلاتين وأمره أن يكتب إلى غوردون يدعوه إلى التسليم ويقول له: إن المهدي حق، وإن عبد القادر (يعني سلاتين) نفسه يكون أول المحامين له، فاستأذن سلاتين المهدي، قائلا: «أخاف إذا كتبت إليه ذلك أن يستغشني، فأرى أن أنصح له بالتسليم للإمام المهدي؛ لأن جنوده مظفرة لا تقوى جنود الخرطوم عليها، وأن أتوسط في أمر تسليمه إليكم.» فاستحسن المهدي الرأي، فذهب سلاتين إلى خيمته وهو لا يصدق أنه سيكتب إلى غوردون، فكتب إليه كتابا طويلا عريضا بالنمساوية؛ (لأنه لا يعرف الإنكليزية جيدا)، شرح فيه حكاية تسليمه دارفور والأحوال التي قضت عليه بذلك، وقال: إن الأسرى المقيمين مع المهدي هم على ولاء الحكومة يسلمون لها ويضربون بسيفها حالما يتاح لهم ذلك، وأوعز إليه أن يخبره عن حاله بالخرطوم ، وأن يكتب إليه كتابا في العربية يطلب فيه مقابلته في أم درمان للنظر في شروط التسليم، وكتب كتابا آخر إلى هنزل قنصل النمسا بمثل هذا المعنى، وجاء بالكتابين إلى المهدي فأمره أن يرسلهما مع أحد خدمه إلى أم درمان، ولم يكد يسير الرسول حتى جاء خيالة من بربر ينبئون المهدي بمصاب ستيوارت ومن كان معه، وجاءوا بالأسلاب وفيها كثير من الأوراق، فبعث المهدي إلى سلاتين ليخبره بما في تلك الكتب، فقلب فيها وقال: إنها كتب خصوصية أرسلها بعض أهل الخرطوم إلى أهلهم في مصر وغيرها. ورأى تقارير غوردون نفسها وعرف خطه فتأسف أسفا لا مزيد عليه، ولكنه أظهر الجلد، فقال له المهدي: «اكتب الآن إلى عمك (يريد غوردون) أن مركبه قد كسر ورجاله قتلوا، وأرسل إليه هذا التقرير تأييدا لذلك؛ فأظنه إذا تحقق الأمر أسرع إلى التسليم.» فكتب سلاتين إليه وإلى القنصل كتابين آخرين وأرسلهما مع خادمه إلى أم درمان، وكان في مكان أم درمان إذ ذاك طابية من طوابي الخرطوم اسمها «طابية أم درمان» أو «طابية رجب بك»، فعاد الخادم من عند القنصل هنزل بجواب مقتضب لم يشف غليلا، فارتاب المهدي بنية سلاتين فأمر بتقييده فأثقلوه بالحديد وحجزوا عليه في خيمة منفردة.
وبعد قليل زحف المهدي برجاله وأحمالهم وأثقالهم ودوابهم فضربوا نقارتهم وساروا حتى أشرفوا على الخرطوم وسلاتين معهم ، فعسكروا هناك تحت راية التعايشي، وسار الأمراء الآخرون يبحثون عن مكان آخر يعسكرون فيه، ثم أمر المهدى أن يحدق جنده بالخرطوم ويشددوا الحصار عليها، فأمر أبا جرجا وولد النجومي أن يحاصراها برجالهما من البر الشرقي للنيل الأبيض عند مكان اسمه كلاكلا وأمر أبا عنقر (أو أبو عنقة) وفضل المولى أن يحاصرا طابية أم درمان على البر الغربي، وما زالوا محاصرين تلك الطابية حتى فتحوها في 15 يناير سنة 1885، وهي أول طابية فتحوها من حصون الخرطوم، ويؤخذ من تقرير كتبه الشيخ المضوي أحد قواد المهدي في ذلك الحصار أن المهدي كان عازما أن يشدد الحصار على الخرطوم حتى تسلم من الجوع كما فعل بالأبيض، وأن رجال ولد النجومي وحدهم بلغوا عشرين ألفا، فربما كانت قوة الدراويش كلها هناك ستين ألفا أو سبعين وأكثر.
فلنعد إلى الخرطوم ولنشرح حالها أثناء الحصار. قلنا: إن غوردون وصل الخرطوم في 18 فبراير سنة 84، ولكنه لم يقض فيها شهرين حتى نفدت النقود من خزينتها فاصطنع نقودا من الورق بفئات متفاوتة يتعامل بها الناس إلى أجل مسمى، وقد شاهدنا كثيرا منها عند وصولنا المتمة سنة 1885، وفي الشكل
10-7
صورة أجداها برسمها الأصلي تماما.
شكل 10-7: نقود غوردون.
على أن ذلك قلما خفف من ضيق أهل الخرطوم ونزلائها؛ فإنهم ما انفكوا يشعرون بالضغط يوما بعد يوم، والحصار يزيدهم تضييقا حتى أصبحوا محاطين بالعدو من كل جهة، وقل زادهم أو نفد وجاعوا، وغوردون يصبرهم ويعدهم بقرب وصول الحملة الإنكليزية لإنقاذهم، ولكنها تأخرت كثيرا فمل الناس الانتظار، واشتد الجوع حتى أكلوا لحوم القطط والكلاب، ومضغوا سعف النخل وجذور الذرة، كل ذلك وهم واثقون بوعد غوردون ولكنهم كادوا يسيئون الظن به أخيرا.
أما الحملة الإنكليزية التي أقروا على إرسالها لإنقاذ غوردون فبرحت مصر في أوائل الخريف وعدد رجالها ستة آلاف من نخبة الجند الإنكليزي وأكثر قوادها من الأشراف، فقد تسابق الإنكليز إلى الانتظام في سلك هذه الحملة؛ لزعمهم أنها عبارة عن «فسحة» على النيل، فلم يصل من رجالها إلى كورتي إلا بعضهم وتفرق الباقون في نقط خط الاتصال، ومن كورتي سارت حملة في عطمور صحراء بيوضة إلى المتمة بقيادة الجنرال ستيوارت، والقصد بها سرعة الوصول إلى الخرطوم، وسارت حملة أخرى على النيل إلى بربر بقيادة الجنرال. وكنا ممن سار برفقة حملة العطمور فشهدنا وقائعها وسمعنا إطلاق مدافعها ورنات قنابلها ورصاصها، وترى تفصيل ذلك في كتابينا «تاريخ مصر الحديث» و«رواية أسير المتمهدي»، فقطعت الحملة جدكول إلى أبي طليح فلاقاها العرب على تلك الآبار فحصلت بين الفريقين واقعة شفت عن انهزام العرب فتعقبهم الإنكليز إلى المتمة، وهناك حصلت واقعة أخرى انهزم بها الدراويش أيضا وعادوا على أعقابهم، وقبيل هذه الواقعة أصيب الجنرال ستيوارت برصاصة في أحشائه ، وأحيلت القيادة إلى السير شارلس ولسن فنزلت الجنود الإنكليزية على ضفاف النيل في مساء 18 يناير سنة 1885 بعد أن قضت 13 يوما في الصحراء، واسم مكان الواقعة أبو كرو، ونزل الجند بعد الواقعة في مكان اسمه القبة والإفرنج حرفوه فجعلوه (جوبات).
وكان غوردون قد أنفذ إليهم أربع بواخر كانت في مياه الخرطوم ليستعينوا بها في الوصول إليه وبعث يقول لهم: إنكم إذا لم تصلوا إلينا في بضعة أيام ذهبنا هباء منثورا، وقد علم السير شارلس بذلك في 21 يناير وكان يحب أن يبادر حالا إلى الخرطوم بدلا من أن يقضي أربعة أيام بجوار المتمة بلا داع، فغادرها في 24 يناير سنة 1885 على باخرتين لم تصلا الخرطوم إلا في 28 منه وكانت قد سقطت وقتل غوردون في 26 منه فعاد السير شارلس كاسف البال ولم يصل المتمة إلا بعد شق الأنفس؛ لأن باخرتيه انكسرتا وأصابه من الخطر ما لا محل لتفصيله هنا.
شكل 10-8: دلالات الأرقام في خريطة الخرطوم: (1) الحكمدارية. (2) السراي. (3) حواصل الحنطة. (4) الترسخانة. (5) القشلاق. (6) طابية بوري. (7) مخازن البارود. (8) قرية توتي. (9) الطابية البحرية. (10) السراي الشرقية.
صفحه نامشخص