تراجم مشاهير الشرق

جرجی زیدان d. 1331 AH
146

تراجم مشاهير الشرق

تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)

ژانرها

وكانت الدول في أثناء ذلك تنظر في رفض الدولة العثمانية لقرارات المؤتمر - المتقدم ذكره - وكن يتوقعن إصلاح الأحوال بإعلان الدستور، فلما نفي مدحت سبق إلى أذهانهن سوء الظن، ولا سيما روسيا فإنها عادت إلى العدوان، وأعلنت الدولة العثمانية بذلك في 24 أفريل سنة 1877، فساعد الإعلان على تغلب حزب المابين، فلم يتقرب منه غير الذين يوافقون على سياسته، وضعف حزب الدستور بعد نفي صاحبه.

انتشبت الحرب بين روسيا والدولة ومدحت منفي في أوروبا، فلم يذخر وسعا في مصلحة دولته ولا سيما في لندن، وكتب إلى الباب العالي أنه سعى في عقد صلح يحجب الدماء وطلب مصادقته فلم يجبه على ذلك؛ لأن كفة الحرب كانت لا تزال راجحة في جانب الدولة. ثم ما لبث الروس أن اخترقوا البلقان وأقبلوا على الآستانة، فجدد مدحت الهمة في الدفاع عن حقوق بلاده لدى الدول والباب العالي بالمكاتبات، فوسوس بعضهم لجلالة السلطان أن تصدر مدحت باسم الدولة لدى دول أوروبا يخشى منه فعمل على استقدامه إلى الآستانة، فكتب إليه رئيس التشريفات الشاهانية كتابا سريا يبثه فيه شعور السلطان معه بما يقاسيه في غربته، وأن جلالته بكى لما بلغه خبر عذابه، وأنه أمر له بألف جنيه ينفقها في مرافقه المستعجلة، ولا يعلم أحد بها، وطلب إليه أن يعلمه كيف ينبغي أن يرسل هذا المبلغ إليه، فأجابه مدحت بالرفض، وأظهر تفانيه في خدمة دولته ووطنه، فدعاه للقدوم إلى الآستانة لأن بعده عنها يوجب الهواجس وسوء الظن، وما زال به حتى أقنعه بالمجيء رغم نصيحة أصدقائه أن لا يفعل.

فسافر، ولكنه فضل النزول في كريد ليمكث فيها بعيدا عن الدسائس، وأدرك من مجاري الأحوال أن سياسة المابين تقضي بإبعاد رجال الأعمال عن الآستانة واستخدام الضعفاء، فقبل السلطان اقتراحه وبعث إليه عائلته إلى كنديا في سبتمبر سنة 1878، فاحتفل الكريديون بمدحت وعرفوا قدره على اختلاف طوائفهم، وأطلقت الدوارع الراسية في مياهها المدافع لأجله، فنقل ذلك إلى السلطان فأوجس خيفة، وكان في عزمه أن يعقد له على كريد فعقد له عليها، وبعد شهرين جاءه تلغراف من الباب العالي بتعيينه واليا على سوريا، فأطاع وركب إليها مع أهله على الباخرة «فوائد»، حتى أتى بيروت وسافر منها إلى دمشق مركز الولاية يومئذ. (15) ولايته على سوريا

ولم ينس السوريون أعمال مدحت في أثناء تلك الولاية، وكانت شهرته في مساعيه الحرة قد بلغت إلى مسامعهم، فلما وصل إليهم احتفلوا به احتفالا عظيما، وقد حقق أمانيهم بما أدخله من الإصلاح فيها نحو ما فعل في العراق من قبل، فأنشأ مدرسة للصنائع والفنون، وأخرى للأيتام، وأيد الأمن فبات الناس في راحة وعدل، وفتح الشوارع في المدن ومهد الطرق بين القرى والبلاد لتسهيل الانتقال، وأنشأ خطا للترامواي بين مدينة طرابلس الشام والمينا، وقد نجحت نجاحا باهرا، ولا ينسى أهل دمشق كيف أنشأ لهم الشارع الأعظم. وأهم ما كان من تأثير ولايته أنه جمع العناصر المختلفة، وألف بين قلوبهم على اختلاف المذاهب والأجناس على شكل لم يسبق له مثيل في تلك البلاد. وأطلق حرية المطبوعات ونشط الكتاب والأدباء والشعراء فتألفت الجمعيات السياسية والعلمية.

وفي أيامه ظهرت القصيدة السينية المشهورة التي مطلعها «دع مجلس الغيد الأوانس»، وفيها تحريض للعرب أن يطلبوا الاستقلال كما فعل أهل الجبل الأسود، وكان السوريون إذا لقوا مدحت في محفل صاحوا ليحيا مدحت باشا، وهو لا يحاذر المجاهرة بانتقاد المابين، وربما تغنى بما تم على يده من الخلع والتنصيب، فساء السلطان الظن بمقاصده، وزاد حذره من أغراضه، وأصبح يخاف أن تنتظم أحوال سوريا وتجتمع كلمة أهلها فتخرج من يده ، فأصبح إذا عرضت عليه مشروعات مدحت أجل المصادقة عليها أو رفضها، وأوحى إلى مشير الفيلق الخامس في الشام أن يكون على حذر منه، فأصبح المشير ينظر إليه نظر الرقيب، وتباعدت القلوب بينهما، وتضايق مدحت من ذلك فعزم على الاستقالة، وبعد مخابرات طويلة خير الباب العالي فيها بين قبول استعفائه أو المصادقة على مشروعاته فكانوا يماطلونه ويدافعونه مع حاجتهم إلى آرائه يومئذ في أثناء تمرد الدروز في حوران، وقد خدم الدولة في إخماد ذلك العصيان خدمة حسنة بإعادة الأمن إلى تلك البلاد مع المحافظة على شرف الدولة ونفوذها، ولما فرغ من هذا الواجب لم يعد يصبر على مضايقة الباب العالي ومعارضته بما يعمله، فاستقال بحجة شيخوخته وضعفه فأبت الحكومة إعفاءه، ولكنها نقلته من ولاية سوريا إلى ولاية أزمير سنة 1880. (16) ولايته على أزمير

إن ولاية أزمير هي ولاية آيدين وعاصمتها مدينة أزمير، وكانت في خلل واضطراب مثل سائر الولايات في ذلك العهد، بل هي من أكثرها اضطرابا بالنظر إلى تكاثر أهل الدعارة واللصوص وقطاع الطرق فيها، ولم يجهل مدحت أن مشروعاته في إصلاح هذه الولاية ستصادف ما كانت تصادفه مشروعاته لإصلاح سوريا، لكنه أطاع الأمر وقبل المنصب وانتقل إلى أزمير، وفكر في تسكين الخواطر وإعادة الأمن، وكان فيها فرقة من الجاندرمة فوجدها غير كافية لحفظ النظام، فأنشأ الضابطة على النسق الأوربي ولم يكن لها وجود في تركيا من قبل، وأخذ في العمل جهد طاقته والسلطان يزداد فيه سوء ظن ويخافه، فزين له مشيروه ورجال خاصته أن يتخلص منه ويريح فكره من أخطاره، ولم يجدوا شراكا يأخذونه بها إلا مسألة السلطان عبد العزيز فأحيوها، ورغم ما أثبته الأطباء في تقاريرهم عن موت ذلك السلطان بالانتحار ادعى رجال المابين أنه مات مقتولا، وأن قتلته هم حسين عوني باشا الذي قتله حسن الشركسي في بيت مدحت سنة 1876 والد أمادان محمود باشا ونوري باشا وأنه اشترك معهم أيضا مدحت باشا ورشدي باشا وخير الله أفندي شيخ الإسلام.

فلما اعتقد السلطان هذا القول أمر بالقبض على الدامادين محمود ونوري، ونشرت الصحف عود قضية عبد العزيز إلى التحقيق، وتزلف بعض كتابها إلى المابين فألح بالقبض على كل من اشترك في مسألة عبد العزيز أو شهدها، فقبض علي رشدي باشا زميل مدحت وحكم عليه بالنفي ليقضي شيخوخته في منغيسيا من ولاية آيدين، وحكم على خير الله بالنفي إلى مكة، وأبعد سائر من بقي من الأحرار في الآستانة، ولم يبق حول السلطان إلا المتملقون الذين أخذوا بناصره أو حرضوه على إفساد أمر الأحرار والتضييق عليهم، وفيهم جماعة كانوا يتظاهرون بالحرية ثم انقلبوا طمعا في الدنيا. (17) القبض على مدحت

وكان مدحت باشا يومئذ في أزمير وجاءه النبأ أنه متهم وأن حياته في خطر، فأجاب أصدقاءه الذين أنبئوه أنه لا يجد في ضميره ما يوجب القلق؛ لاعتقاده براءته لدى القضاء. أما السلطان فعمد إلى المبادرة بالقبض على مدحت فجأة، فأنفذ اللواء حلمي باشا والأميرالاي رضا بك (ثم صار رضا باشا سرعسكر) مع جماعة من الضباط والضابطان للقيام بهذه المهمة، فوصلوا أزمير على غرة والناس لا يفهمون سبب مجيئهم. أما مدحت فجاءه النذير بأمرهم فبث عليهم العيون يراقبون حركاتهم فتحقق أنهم جاءوا بأوامر من يلدز للقبض عليه. عرف ذلك من أحد رجال الضابطة التي أنشأها في أزمير كان قد تنكر بلباس تاجر ونزل في الفندق الذي نزل فيه حلمي باشا، وعاشره وتقرب إليه حتى وثق به، واعترف له أنه جاء للقبض على مدحت وأنه ينتظر أوامر أخرى، فبادر مدحت إلى الاحتياط، ففتح في قصره بابا سريا يؤدي إلى الشاطئ، وأعد هناك سفينة لشركة إنكليزية تنقله إلى حيث يشاء.

ففي مساء أحد الأيام جاء جاسوس مدحت المشار إليه، وأخبره أن حلمي باشا دعي إلى مكتب التلغراف على عجل، ولما عاد تسلح وذهب إلى القشلاق، وكان سبب ذلك أن حلمي باشا تلقى الأوامر بقتل مدحت وذبح عائلته، ولم يكن يستطيع ذلك إلا إذا كان له من يواطئه عليه من أهل بيت مدحت، وكان قد عرف خادما من أهل ذلك البيت اسمه نذير، فاتفق معه أنه حالما يرى الجند قادمين إلى القصر يطلق عليهم طلقا ناريا من مسدس فيكون ذلك حجة لهم في الهجوم والقتل، ويؤكدون وقوع هذه المواطأة بما ناله نذير هذا من الحظوى في المابين بعد نفي مدحت.

فلما علم مدحت بدنو الخطر أعمل فكرته بترو وأطلع أهل بيته على الأمر، وأوصاهم ألا يبدوا حراكا، وأخبرهم عزمه على الخروج من تركيا بحرا من ذلك الباب السري والالتجاء إلى أوروبا، ففي نصف الليل أطلقت الثكنة العسكرية ثلاثة مدافع هي علامة الحريق عندهم، فأدرك مدحت أنهم فعلوا ذلك ليصرفوا أذهان الناس عن أغراضهم الحقيقية، فعمد إلى الخطة التي كان رسمها للفرار، فخرج مع سكرتيره من ذلك الباب السري يطلب الشاطئ، ولم يبعد بضع خطوات حتى رأى الجنود قائمة على المرفأ تحرسه، فركب مركبة وسار إلى قنصلاتو إنكلترا فوجد قنصلها غائبا فتحول إلى قنصلاتو فرنسا وطلب حمايتها فآوته.

صفحه نامشخص