تراجم مشاهير الشرق
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
ژانرها
إذا كان زيد الذي هو أمير المؤمنين مختل الشعور، وليس له إلمام في الأمور السياسية، وما برح ينفق الأموال الميرية في مصارفه النفسانية، في درجة لا طاقة للملك والملة على تحملها، وقد أخل بالأمور الدينية والدنيوية وشوشها وخرب الملك والملة، وكان بقاؤه مضرا بها، فهل يصح خلعه؟ الجواب: يصح.
كاتبه الفقير حسن خير الله
فلما حصل الوزراء على هذه الفتوى أسرعوا في تنفيذ قرارهم، وقام بتدبير ذلك عوني ورشدي ومدحت، واختلف مدحت وعوني في أسلوب الخلع، فكان مدحت يرى أن تصادق الأمة على الخلع أولا، وأما عوني فكان يرى أن الخلع يجب أن يكون حالا على عادة العسكرية في سائر أحكامها، فأشار مدحت أن يجتمع العلماء وأعيان إسطانبول في مسجد نور عثمانية يبدون أسف الأمة، ويطلبون إبدال النظام الحالي، فوافقه على هذا الرأي أكثر الوزراء وعينوا لتنفيذ القرار يوم 31 مايو، وكادوا يعملون به، لكن طرأ أمر أوجب الرجوع إلى رأي عوني، وذلك أن امرأة من نساء يلدز أتت مدحت في 30 من الشهر المذكور، وأخبرته أن مؤامرتهم كادت تنكشف للسلطان، فخاف مدحت العاقبة إذا لم يبادر إلى العمل وتحقق قول المرأة؛ لأن السلطان دعا عوني باشا إليه مرتين في ذلك النهار مع أنه ادعى المرض فلم يقبل السلطان عذره، فأقر الوزراء على المبادرة في تلك الليلة إلى خلعه، ففي منتصف ليل ذلك اليوم خرج رشدي ومدحت وبين يدي كل منهما خادم يحمل فانوسا، والليلة ممطرة حتى أتيا سركجي فركبا قاربا إلى باشا ليماني حيث يقيم عوني باشا على البوسفور، وكان عوني في انتظارهما على أحر من الجمر، فتفاوضوا وافترقوا وذهب عوني نحو سراي طولما بغجه وسار رشدي ومدحت إلى السرعسكرية، وكانوا قد قرروا أن يجتمع كبار الموظفين الملكيين والعسكريين في ساحة السرعسكرية ينتظرون مجيء السلطان مراد. وكان عوني مكلفا باستقدامه، وأنهم عند وصوله يبايعونه وينادون باسمه سلطانا، وأن يشعلوا نارا على برج السرعسكرية يعلم منها أهل الأسطول في البحر بتنصيب السلطان الجديد فتطلق الدارعة (أحمد باشا) المدافع إيذانا بذلك.
فمشى عوني إلى السراي حيث التقى بسليمان باشا أحد مشيري الجند، وكانا قد تواعدا ليعاونا على تدبير أمر الخلع، وكان سليمان من أقرب أعوان عوني وأنجد أنصار مدحت، وكانت الجنود المقيمة في طاش قشلة وغيرها قد تلقت الأوامر من رديف باشا قومندان فيلق الآستانة أن تكون على الأهبة لمنع أي اقتراب من جهة البر، وكان الأسطول بقيادة ناظر البحرية نفسه قيصرلي أحمد باشا، وقد أعطى الأوامر بقطع الطريق عن القصر من جهة البحر، واصطحب سليمان نخبة من رجاله الذين يثق بأمانتهم وبسالتهم تحت قيادة الضباط أحمد بك وبدري بك ورفعت بك، وبعد أن رتب هذا الترتيب توجه إلى قصر البرنس مراد، وكان مراد عالما بما أعدوه وعزموا عليه، لكنه لم يعلم بتقديم الميعاد المضروب، فلما جاء سليمان في تلك الليلة وطلب إليه أن يخرج معه إلى عوني وأنه ينتظره بباب القصر ليرافقه إلى السرعسكرية حسب الموعد ظن في الأمر دسيسة، على أنه ما لبث أن تحقق الواقع فأطاعهما وسار معهما في طريق السرعسكرية.
أما سليمان فتقدمهما لإتمام المهمة الكبرى التي لا بد منها قبل كل شيء، وهي تبليغ السلطان عبد العزيز الخلع، فلما أتى القصر السلطاني (طولما بغجه) اعترضه الخدم فأجابهم أنه يطلب مقابلة السلطان لأمر هام، فأخذوه إليه، فبلغه سليمان ما جاء من أجله، وقرأ عليه الفتوى بخلعه فغضب السلطان وانتهر سليمان، ولكنه ما عتم أن سمع المدافع تطلق من الدارعة (أحمد باشا) فتحقق وقوع القضاء وأدرك حقيقة مركزه، وسلم نفسه لسليمان فأبلغه أنه مكلف بنقله من سراي طولما بغجه إلى سراي طوب قبو ليقيم فيها.
وعند ذلك نودي بالسلطان مراد سلطانا، فأقر الوزارة كما هي، وأضاف إلى حاشيته الخصوصية كمال بك وأبا الضيا بك، وكلاهما من كبار أنصار الحرية والدستور، وبوجودهما في الحاشية يأمن الوزراء من الدسائس التي تعود المفسدون نقلها إلى السلطان.
وطبيعي أن الأحرار لم يدبروا هذا التدبير إلا وقد أخذوا على السلطان مراد المواثيق أن يعلن الدستور الذي أعده مدحت ورفاقه، فكادت تتحقق آمال الأحرار، ولكن حال دون تلك الأمنية عارض أوقفها دهرا طويلا، وذلك أن عوني باشا لحظ في السلطان مراد في الليلة نفسها التي رافقه فيها من قصره أنه مضطرب وأصابته نوبة عصبية، وبعد الاحتفال بمبايعته في أثناء رجوعه إلى سراي طولما بغجه زادت فيه الأعراض العصبية، وكان معه مدحت باشا، فرأى من الحكمة أن لا يفارقه، فمكث معه ثلاثة أيام، واستشار الأطباء فأشاروا بعلاج وحمية، ولم يكبروا العلة، فاتفق في أثناء ذلك حادثتان أزعجتا السلطان وزادتا علته، وهما: (6) موت عبد العزيز
الأولى موت عبد العزيز: وذلك أن هذا السلطان أقام بعد خلعه خمسة أيام، وفي صباح 5 يونيو طلب من خادمه الخصوصي فخري بك مقراضا ليقلم أظافره ويصلح لحيته، فتردد حينا في إجابة طلبه ثم عرض الأمر على والدة سلطانة فأمرت أن يعطى المقراض الذي يطلبه. واتفق بعد حين أن بعض الحاشية أشرفن من إحدى النوافذ على المكان الذي كان عبد العزيز فيه فرأينه جالسا على كرسي وظهره محول ورأسه مدلى إلى الأمام فأسرعن إلى الباب فلم يستطعن فتحه وظنن سوءا، فأنبأن والدته فأمرت بخلع الباب، فدخلوا فرأوا عبد العزيز ميتا وقد نزف دمه من جرحين في ذراعيه، ورأوا المقراض بجانبه الأيسر كأنه استخدمه بيمناه لقطع أوعية اليد اليسرى، ثم أراد استخدامه باليسرى لقطع أوعية اليد اليمني فلم تسعفه قواه أن يتم العمل جيدا.
فاستقدموا الأطباء حالا فأثبتوا أنه ميت، وخاف الوزراء العاقبة فأمروا بلجنة من الأطباء تتولى فحص الجثة، فاجتمع 17 من أمهر أطباء الآستانة فأقروا بالإجماع أن الموت إنما كان بالانتحار ولا يمكن أن يكون بسواه، وكتبوا بذلك شهادة مؤرخة في 4 يونيو سنة 1876، ثم دفنت الجثة في مقام السلطان محمود بعد غسلها، فلما بلغ السلطان مراد خبر هذه الفاجعة أثرت على أعصابه تأثيرا كبيرا. (7) واقعة حسن الشركسي
ثم وقعت حادثة حسن الشركسي فأتمت عليه، وكان حسن هذا من ياوران عبد العزيز، وأراد عوني إبعاده فأمره بالسفر إلى بغداد ليلحق بجندها فأبى، وأخذ يشيع اتهام عوني بقتل السلطان كما اتهم بخلعه ، فأمر عوني بالقبض عليه وسجنه، فأرسل حسن بعد يومين يقول إنه مستعد لإطاعة أوامره بالسفر إلى بغداد، لكنه يستأذنه في البقاء بضعة أيام في الآستانة ليتأهب للرحيل، فأذن له، ففي يوم 15 يونيو وهو اليوم المعين لسفره ذهب إلى بيت عوني وطلب مقابلته بإلحاح، فقالوا: إنه سار إلى منزل مدحت باشا للاجتماع بسائر الوزراء، فذهب إلى إسطانبول فنزل في مطعم تناول فيه بعض الخمر، ثم تحول إلى منزل مدحت في طوخان طاش فوصله نحو الساعة العاشرة، وقد اجتمع الوزراء وهم عشرة ومعهم شريف مكة وقد هموا بافتتاح الجلسة.
صفحه نامشخص