فعله دون أفعالهم، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه، فليس للمخالف أن يضمر في الكلام أن كوني في السجن وجلوسي فيه أحب إلي، بأولى ممن أضمر ما ذكرنا، لأن كلا الأمرين يعود إلى السجن ويتعلق به.
فإن قيل: كيف يقول السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وهو لا يحب ما دعوه إليه على وجه من الوجوه، ومن شأن هذه اللفظة أن تستعمل بين شيئين مشتركين في معناها.
قلنا: قد تستعمل هذه اللفظة فيما لا اشتراك فيه، ألا ترى أن من خير بين ما يكرهه وما يحبه ساغ له أن يقول: هذا أحب إلي من هذا، وإن يخير هذا أحب إلي من هذا، إذا كان في محبته، وإنما سوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر، لأن المخير بين الشيئين في الأصل لا يخير بينهما إلا وهما مرادان له أو مما يصح أن يريدهما. فموضوع التخيير يقتضي ذلك، وإن حصل فيما يخالف أصل موضوعه. ومن قال وقد خير بين شيئين لا يحب أحدهما: هذا أحب إلي، إنما يكون مجيبا بما يقتضيه أصل الموضوع في التخيير، ويقارب ذلك قوله تعالى (قل أذلك خير أم جنة الخلد) (1) ونحن نعلم أنه لا خير في العقاب، وإنما حسن القول لوقوعه التقريع والتوبيخ على اختيار المعاصي على الطاعات. وأنهم ما أثروها إلا لاعتقادهم أن فيها خيرا ونفعا. فقيل أذلك خير على ما تظنوه وتعتقدونه أم كذا وكذا، وقد قال قوم في قوله تعالى: (أذلك خير): أنه إنما حسن لاشتراك الحالتين في باب المنزلة، وإن لم يشتركا في الخير والنفع كما قال تعالى: (خير مستقرا وأحسن مقيلا) (2) ومثل هذا المعنى يتأتى في قوله:
رب السجن أحب إلي، لأن الأمرين يعني: المعصية ودخول السجن،
صفحه ۸۳