Tanzih al-Ashab ‘an Tanaqqus Abi Turab
تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب
ناشر
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ژانرها
تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب
تأليف الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري غفر الله له ولوالديه
الحمد لله نحمده ونستعينه. ونستغفره ونتوب إليه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير الأمة وأتقاها. وأعلمها وأهداها. وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم وساروا على نهجهم القويم. وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فقد رأيت مقالا لأبي تراب الظاهري تعرض فيه للغض من الصحابة عامة ومن أبي بكر وعمر ﵄ خاصة. وهذا المقال السيئ منشور في جريدة عكاظ في عدد (٣١٦٣) - السبت - ١٣محرم سنة ١٣٩٥هـ. والتعرض للصحابة ﵃ بالكلام الذي يقتضي التنقص لهم والغض منهم لا يصدر إلا من جاهل أو مبغض للصحابة.
وقد ورد الوعيد على ذلك. فروى الترمذي في جامعه عن عبد الله بن المغفل ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه". وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة ﵂ قالت: قال رسول الله ﷺ: "شرار أمتي أجرؤهم على صحابتي". وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا". وقال محمد ابن سيرين: "ما أظن رجلا ينتقص أبا بكر وعمر يحب النبي ﷺ
30 / 68
رواه الترمذي وقال هذا الحديث غريب حسن. وروى أبو نعيم في الحلية من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء أو عن زيد بن وهب أن سويد بن غفلة دخل على علي بن أبي طالب ﵁ في إمارته فقال: "يا أمير المؤمنين إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر ﵄ بغير الذي هما أهل له من الإسلام" فنهض إلى المنبر وهو قابض على يدي فقال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقي مارق فحبهما قربة وبغضهما مروق. ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله ﷺ ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين فأنا بريء ممن يذكرهما وله معاقب".
وإذا علم ما في هذه الأحاديث تحريم عيب الصحابة عامة وأبي بكر وعمر ﵄ خاصة وتحريم أذيتهم والتعرض لما فيه تنقص لهم وغض من قدراتهم وعلم أيضًا أنه لا يتجرأ على الكلام في الصحابة إلا شرار هذه الأمة فليعلم أيضا أن الصحابة ﵃ أجل قدرا وأكثر علما وأقوى إيمانا ممن بعدهم إلى آخر الدهر فينبغي إجلالهم وتوقيرهم واحترامهم وتفضيلهم على من سواهم من سائر هذه الأمة. قال عبد الله بن عمر ﵄: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب النبي ﷺ كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد ﷺ كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة" رواه أبو نعيم في الحلية.
وروى رزين عن عبد الله بن مسعود ﵁ نحوه وإذا علم هذا ففي كلام أبي تراب خمسة مواضع زل فيها عن الحق والصواب وقد رأيت أن أنبه على زلاته لئلا يغتر بها من لم يعرف قدر الصحابة وفضلهم على سائر الصحابة وفضلهم على سائر الأمة.
الموضع الأول: زعم أبو تراب أن أمهات المؤمنين أفضل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁.
والجواب أن يقال: هذا خطأ مخالف للأحاديث الكثيرة عن النبي صلى اله عليه وسلم ومخالف لإجماع الصحابة ﵃ على تفضيل أبي بكر ثم عمر على سائر الأمة.
فأما الأحاديث فالأول منها ما رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن عمر ﵄ قال: خرج علينا رسول
30 / 69
الله ﷺ ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: "رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين فأما المقاليد فهذه المفاتيح وأما الموازين فهذه التي يوزن بها فوضعت في كفة ووضعت أمتي فوزنت بهم فرجحت ثم جيء بأبي بكر فوزن بهم فرجح بهم ثم جيء بعمر فوزن بهم فرجح بهم ثم جيء بعثمان فوضع في كفة ووضعت أمتي في كفة فرجح بهم ثم رفعت" هذا لفظ الطبراني قال الهيثمي ورجاله ثقات.
وروى الإمام أحمد والطبراني أيضًا عن أبي إمامة ﵁ عن النبي ﷺ نحوه. وروى الطبراني أيضًا عن معاذ بن جبل وعرفجة وأسامة بن شريك ﵃ عن النبي ﷺ نحو ذلك أيضًا وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أن عمر ﵁ أفضل من أمهات المؤمنين ومن سائر هذه الأمة سوى أبي بكر ﵁ فإنه أفضل من عمر ﵁. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث فضل أمهات المؤمنين على عمر ﵁ بغير دليل بل بمجرد الظن المخالف للأدلة الصحيحة.
وعن علي بن أبي طالب ﵁ قال: كنت مع رسول الله ﷺ إذ طلع أبو بكر وعمر فقال رسول الله ﷺ: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين يا علي لا تخبرهما" رواه الترمذي وابن ماجة وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند وإسناده حسن وهذا لفظ الترمذي. ولفظ عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه سلم فأقبل أبو بكر وعمر ﵄ فقال: "يا علي هؤلاء سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين" قال الترمذي: وفي الباب عن أنس وابن عباس ﵃.
وعن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ لأبي بكر وعمر: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين لا تخبرهما يا علي" رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وعن أببي جحيفة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين" رواه ابن ماجة بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه.
وروى البزار والطبراني عن أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي ﷺ نحوه. وروى الطبراني أيضا عن ابن عمر وجابر بن
30 / 70
عبد الله ﵃ عن النبي ﷺ نحو ذلك أيضًا.
وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أن أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر ﵄. وفيها أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل أمهات المؤمنين على عمر ﵁.
وعن عبد الله بن حنطب ﵁ قال: كنت مع رسول الله ﷺ فنظر إلى أبي بكر وعمر ﵄ فقال: "هذان السمع والبصر" رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد.
وعن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل ومكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر" رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب.
وعن ابن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: "أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين" رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه مختصرا وقال الترمذي هذا الحديث حسن غريب وقال الحاكم صحيح الإسناد. وفي هذا الحديث والحديثين قبله أوضح دليل على أن أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر ﵄. وفيها أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل أمهات المؤمنين على عمر ﵁.
وعن عقبة بن عامر ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم في مستدركه وقال الترمذي حديث حسن غريب وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لعمر ﵁، والأحاديث في فضل عمر ﵁ كثيرة جدا وفيما ذكرته ههنا كفاية في الرد على أبي تراب وبيان خطئه وشذوذه حيث فضل أمهات المؤمنين على عمر ﵁.
وأما إجماع الصحابة ﵃ على تفضيل أبي بكر ثم عمر ﵄ على سائر الأمة فرواه البخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي وعبد الله
30 / 71
ابن الإمام أحمد في كتاب السنة عن نافع عن ابن عمر ﵄ قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي ﷺ فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ﵃". هذا لفظ البخاري في إحدى الروايتين وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. وفي الرواية الأخرى عند البخاري قال: "كنا في زمن النبي ﷺ لا نعدل بأبي بكر أحدًا ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي ﷺ لا نفاضل بينهم". ورواه أبو داود بهذه الزيادة. وعند عبد الله بن الإمام أحمد: "ثم لا نفاضل أحدا على أحد". وفي رواية له: "يبلغ ذلك النبي ﷺ فلا ينكره علينا". وفي رواية له ولأبي داود عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: "كنا نقول - ورسول الله ﷺ حي - أفضل أمة النبي ﷺ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان". وروى الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر ﵄ قال: "كنا نعد -ورسول الله ﷺ حي وأصحابه متوافرون - أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت". وروى عبد الله أيضًا في كتاب السنة من حديث عمر بن أسيد عن ابن عمر ﵄ قال: "كنا نقول في زمن النبي ﷺ: رسول الله خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر". وروى عبد الله أيضا في كتاب السنة عن أبي هريرة قال: "كنا نعد - وأصحاب رسول الله ﷺ متوافرون - خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر". ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده ولفظه قال: "كنا معشر أصحاب رسول الله ﷺ ونحن متوافرون نقول أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت". وروى البخاري في صحيحه وأبو داود في سننه وعبد الله الإمام أحمد في كتاب السنة عن محمد بن الحنفية قال: "قلت لأبي أيُّ الناس خير بعد رسول الله ﷺ قال: أبو بكر..قلت ثم من؟ قال: ثم عمر..وخشيت أن يقول عثمان قلت ثم أنت قال ما أنا إلا رجل من المسلمين". وروى الإمام أحمد وابنه عبد الله في زوائد المسند وفي كتاب السنة من طرق الكثير وابن ماجة عن علي ﵁ أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" وفي بعض الروايات عند الإمام أحمد وابنه عبد الله عن أبي جحيفة وعبد خير عن علي ﵁ أنه قال: "خير
30 / 72
هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وخيرها بعد أبي بكر عمر ولو شئت سميت الثالث". وروى أبو نعيم في الحلية من حديث أبي جحيفة ﵁ قال: "خطبنا علي بن أبي طالب ﵁ على منبر الكوفة فقال: ألا إن خير الناس بعد رسول الله ﷺ أبو بكر ثم عمر ولو شئت أن أخبركم بالثالث لأخبرتكم ثم نزل من المنبر وهو يقول عثمان عثمان".
وروى أبو نعيم أيضًا من حديث سويد مولى آل عمر وابن حريث قال: سمعت علي بن أبي طالب ﵁ يقول على المنبر: "إن أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر وعثمان". وروى الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة والحاكم في مستدركه عن علي ﵁ قال: "سبق رسول الله ﷺ وصلى أبو بكر وثلث عمر ثم خبطتنا فتنة ويعفو الله عمن يشاء". قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
قال الجوهري: "المصلي تالي السابق". قال أبو عبيد: "وأصل هذا في الخيل فالسابق الأول والمصلي الثاني قيل له مصل لأنه يكون عند صلا الأول وصلاه جانبا ذنبه عن يمينه وشماله ثم يتلو الثالث". انتهى.
وعن عمار بن ياسر ﵄ أنه قال: "من فضل على أبي بكر وعمر أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ فقد أزرى على المهاجرين والأنصار واثني عشر ألفا من أصحاب محمد ﷺ" ورواه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه حازم بن جبلة ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد حدثني أبو معمر حدثنا ابن أبي حازم قال: "جاء رجل إلى علي بن الحسين فقال: "ما كان منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله ﷺ؟ قال: "كمنزلتهما منه الساعة". وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه عبد الله وابن أبي حازم لم أعرفه وشيخ عبد الله ثقة. وقال مسروق: "حب أبي بكر وعمر ﵄ ومعرفة فضلهما من السنة". ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب. وقال القرطبي في المفهم: "المقطوع به بين أهل السنة أفضلية أبي بكر ثم عمر".
وإذا علم ما ذكرنا من إجماع الصحابة ﵃ على تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ﵃ على
30 / 73
سائر الأمة وأنهم لم يستثنوا في إجماعهم خصلة من خصال الفضل لا العلم ولا غيره. وعلم أيضًا أن النبي ﷺ كان يبلغه قول أصحابه في تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فلا ينكره. وعلم أيضًا ما حكاه القرطبي عن أهل السنة من تفضيل أبي بكر ثم عمر. فليعلم أيضًا أنه لم يخالف إجماع الصحابة وأهل السنة من بعدهم سوى الروافض الذين يفضلون عليا وأهل بيته على أبي بكر وعمر ﵄ وقد سلك أبو تراب طريقة تشبه طريقة الروافض في تفضيله أمهات المؤمنين على عمر ﵁ فخالف السنة والإجماع وشذ عن طريق أهل السنة والجماعة وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ الآية.
وممن خرق الإجماع أيضًا أبو محمد ابن حزم، قال الحافظ الذهبي في ترجمة أم المؤمنين عائشة ﵂ في كتاب تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام: "ومن عجيب ما ورد أن أبا محمد ابن حزم مع كونه أعلم أهل زمانه ذهب إلى أن عائشة أفضل من أبيها. وهذا مما خرق به الإجماع" انتهى.
الموضع الثاني: زعم أبو تراب أن أبا هريرة ﵁ غلب الصحابة كلهم بعلمه وغزارة حفظه لحديث المصطفى. قال: "وهذا معاذ بن جبل وابن مسعود وعلى بن أبى طالب كانوا أفقه من عمر وهو يشهد بذلك ولكنهم لم يكونوا أفضل منه".
والجواب أن يقال لاشك أن أبا هريرة رضى الله عنه كان من علماء الصحابة وحفاظهم وقد حفظ عن النبي ﵊ علما كثيرا. وكذلك على بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن مسعود ﵃ ولكنهم مع ذلك لم يكونوا مثل أبي بكر وعمر ﵄ في العلم فقد كانا يفوقان غيرهما من الصحابة في العلم وفي جميع الفضائل. وسيأتي ذكر ما لهما من المزايا في كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية إن شاء الله تعالى.
وقد شهد حبر الأمة عبد الله بن مسعود ﵁ لعمر ﵁ بغزارة العلم وشهد له بذلك أيضا حذيفة بن اليمان ﵁ وسعيد ابن المسيب وعمر وبن ميمون وإبراهيم النخعي. وسيأتي ذكر أقوالهم إن شاء الله تعالى.
وقد امتاز عمر ﵁ بخصال لم تكن لمن بعده من الصحابة فضلا عن غيرهم. وهي من أوضح
30 / 74
الأدلة على غزارة علمه وأن عليا ومعاذ وابن مسعود وابن عمر وأبا هريرة ﵃ لا يقاسون به في العلم فضلا عن أن يكونوا أعلم منه ... منها أنه وافق ربه أو وافقه ربه في عدة مواضع مذكورة في الصحاح وغيرها وسيأتي حديث ابن عمر ﵄ وفيه قال ابن عمر ﵄: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر".
ومنها أنه استنبط الأمر الذي أشكل على أصحاب النبي صلى الله وسلم وخفي عليهم وذلك حين حلف رسول الله عليه وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا فقال الناس طلق رسول الله ﷺ نساءه، فاستأذن عمر ﵁ على رسول الله ﷺ وقال له أطلقت نساءك؟ فقال: "لا" فقام عمر ﵁ على باب المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله ﷺ نساءه ونزلت الآية: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ قال عمر ﵁: "فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر". والحديث بذالك في صحيح مسلم.
وفي هذه القصة فضيلة ظاهرة لعمر ﵁ ودليل على أنه من أكبر أولي الأمر الذين نوَّه الله بهم في هذه الآية الكريمة.
ومنها أن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه وقد جاء في ذلك عدة أحاديث. الأول منها عن نافع عن ابن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله ﷿ جعل الحق على لسان عمر وقلبه" قال وقال ابن عمر ﵄: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. قال وفي الباب عن الفضل بن عباس وأبي ذر وأبي هريرة ﵃. وفي رواية لابن حبان: "إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به".
الحديث الثاني عن أبي ذر ﵁ قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به" رواه ابن ماجة.
وقد رواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله جعل الحق
30 / 75
على لسان عمر وقلبه" قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم.
الحديث الثالث عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله جعل الحق على لسان عمرو قلبه" رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني في الأوسط قال الهيثمي ورجال البزار رجال الصحيح غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة.
الحديث الرابع عن عمر بن الخطاب ﵁ قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله وضع الحق على لسان عمر وقلبه يقول به" رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي وفيه علي بن سعيد العكامري ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.
الحديث الخامس عن بلال ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الطبراني.
الحديث السادس عن معاوية بن أبي سفيان ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الطبراني. وهذا الحديث والذي قبله ضعيفان وما قبلهما من الأحاديث يشهد لهما ويقويهما. وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أنه لم يكن في الصحابة بعد أبي بكر أعلم من عمر لأن الله تعالى جعل الحق على لسانه وقلبه يقول به ومن كان كذلك فلا بد أن يكون أعلم ممن لم يجعل الله الحق على لسانه وقلبه. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث زعم أن أبا هريرة ﵁ قد غلب الصحابة كلهم بعلمه ومنهم عمر ﵁ وأن عليا ومعاذ وابن مسعود ﵃ كانوا أفقه من عمر ﵁. ومنها ما في صحيح البخاري عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر" وفي رواية: "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر". وفي صحيح مسلم وجامع الترمذي عن عائشة ﵂ عن النبي ﷺ أنه كان يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" قال
30 / 76
الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال مسلم قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون. وقال الترمذي أخبرني بعض أصحاب بن عيينة عن سفيان عن ابن عيينة قال محدثون يعني مفهمون. وقد رواه الطبراني في الأوسط ولفظه قال: "ما كان من نبي إلا في أمته معلم أو معلمان وإن يكن في أمتي منهم أحد فهو عمر بن الخطاب إن الحق على لسان عمر وقلبه". وعن علي ﵁ قال: "إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر ما كنا نبعد أصحاب محمد ﷺ إن السكينة تنطق على لسان عمر". رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي وإسناده حسن. وقد رواه مسدد وأحمد بن منيع عن الشعبي أن عليا ﵁ قال: "كنا أصحاب محمد ﷺ لا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر". وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة من طريق الشعبي عن وهب السوائي ﵁ قال: خطبنا علي ﵁ فقال: "من خير هذه الأمة بعد نبيها فقلت أنت يا أمير المؤمنين قال: لا. خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر". وعن ابن مسعود ﵁ قال: "ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر" رواه الطبراني قال الهيثمي وإسناده حسن. وعن طارق بن شهاب ﵁ قال: "كنا نتحدث أن السكينة تنزل على لسان عمر" رواه الطبراني وقال الهيثمي ورجاله ثقات.
وفي هذه الأحاديث دليل على أنه لم يكن في الصحابة بعد الصديق ﵁ أعلم من عمر ﵁. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث فضل عليا وأبا هريرة ومعاذا وابن مسعود ﵃ على عمر ﵁ بالعلم والفقه ... ومنها أن النبي ﷺ أمر بالإقتداء بأبي بكر وعمر خاصة كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن حذيفة ﵁ قال: كنا عند رسول الله ﷺ فقال: "إني لا أرى مقامي فيكم إلا قليلا فاقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه". هذا لفظ ابن حبان ورواية الترمذي وابن ماجة مختصرة وقال الترمذي هذا حديث حسن. قال وفي الباب عن ابن مسعود. وفي رواية الإمام أحمد: "وما
30 / 77
حدثكم ابن مسعود فصدقوه" ورواه الحاكم بنحوه. وقال هذا حديث من أجل ما روي في فضائل الشيخين وصحح هذا الحديث ووافقه الذهبي على تصحيحه ثم روى الحاكم حديث ابن مسعود ﵁ الذي أشار إليه الترمذي وصححه وإسناده ضعيف.
وحديث حذيفة ﵁ من أوضح الأدلة على أنه لم يكن في الصحابة ﵃ أعلم من أبي بكر وعمر ﵄ لأن النبي ﷺ لم يكن ليأمر علماء الصحابة بالإقتداء بمن هو دونهم في العلم وإنما يأمرهم بالاقتداء بمن هو أعلم منهم. وفيه أبلغ رد على أبي تراب حيث فضَّل أبي هريرة على أبي بكر وعمر ﵄ في العلم وفضَّل عليا ومعاذا وابن مسعود وابن عمر ﵃ على عمر ﵁ في العلم والفقه.
ومنها أن النبي ﷺ أعطى عمر ﵁ فضل اللبن الذي شرب منه في منامه وأوَّل ذلك بالعلم كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن عبد الله ابن عمر ﵄ قال: كان رسول ﷺ يحدث قال: "بينا أنا نائم رأيتني أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى أني أرى الري يخرج في أطرافي - وفي رواية: من أظفاري - ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب". فقالوا: فما أوَّلت ذلك يا رسول الله. قال: "العلم" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. وقد رواه الطبراني ولفظه أن رسول الله ﷺ قال: "رأيت في النوم أني أعطيت عسا مملوءا لبنا فشربت منه حتى تملأت حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت فضلة فأعطيتها عمر بن الخطاب". فأولوها قالوا: يا نبي الله هذا علم أعطاكه الله فملأك منه ففضلت فضلة فأعطيتها عمر بن الخطاب. فقال: "أصبتم" قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وهذا الحديث من أوضح الأدلة على غزارة علم عمر ﵁ وأنه لم يكن في الصحابة بعد أبي بكر ﵁ أحد يماثل عمر ﵁ في العلم أو يقاربه. وفيه أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به على تفضيل علي وأبي هريرة ومعاذ وابن مسعود وابن عمر ﵃ على عمر ﵁ بالعلم والفقه. وقد شهد حبر الأمة عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان ﵃ لعمر
30 / 78
﵁ بغزارة العلم وهما أعلم الصحابة بمراتب الصحابة في العلم. وشهد له بذلك أيضًا سعيد بن المسيب وهو من أعلم التابعين بمراتب الصحابة في العلم. وشهد له بذلك أيضا عمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي وكل منهما عالم بمراتب الصحابة في العلم. قال أبو وائل قال عبد الله - يعني ابن مسعود ﵁: "لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان وعلم أهل الأرض في كفة لرجح علمه بعلمهم".
قال وكيع قال الأعمش: "فأنكرت ذلك فأتيت إبراهيم فذكرته له فقال: وما أنكرت من ذلك فوالله لقد قال عبد الله أفضل من ذلك قال: إني لأحسب تسع أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر" رواه الطبراني بأسانيد قال الهيثمي ورجال هذا رجال الصحيح غير أسد بن موسى وهو ثقة. وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله ﵁ قال: "لو وضع علم عمر في كفة ميزان ووضع علم الناس في كفة لرجح علم عمر" قال الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب قال ابن مسعود ﵁: "لو وضع علم أحياء العرب في كفة ميزان ووضع علم عمر في كفة لرجح علم عمر ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم، ولمجلس كنت أجلسه مع عمر أوثق من علم سنة". وقال محمد بن سعد في الطبقات أخبرنا معاوية الضرير أخبرنا الأعمش عن شقيق قال: قال عبد الله - يعني بن مسعود ﵁: "لو وضع علم أحياء العرب في كفة وعلم عمر في كفة لرجح بهم علم عمر" قال أبو معاوية فقال الأعمش: "فحدثت بهذا الحديث إبراهيم فقال: قال عبد الله: إن كنا لنحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم" إسناده صحيح على شرط الشيخين. وعن زيد بن وهب قال: قال عبد الله: - يعني بن مسعود ﵁: "إن عمر كان أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله وكان إذا سلك طريقا وجدناه سهلا فإذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر" رواه الطبراني بأسانيد قال الهيثمي ورجال أحدها رجال الصحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه مختصرا ولفظه عن زيد بن وهب عن ابن مسعود ﵁: "كان عمر أتقانا للرب وأقرأنا لكتاب الله" وفي رواية عن عبد الله ابن مسعود ﵁ أنه قال: "إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر إن
30 / 79
إسلام عمر كان نصرا وإن إماراته كانت فتحا وأيم الله إني لأحسب بين عينيه ملكا يسدده" رواه الطبراني.
وقال حذيفة ﵁: "كأن علم الناس كلهم قد دس في جحر مع علم عمر" ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب وقد رواه بن سعد في الطبقات فقال أخبرنا معاوية الضرير عن الأعمش عن شمر قال: قال حذيفة ﵁: "لكأن علم الناس كان مدسوسا في جحر مع عمر" رجاله كلهم ثقات. وعن حذيفة أيضًا أنه قال: "إنما يفتي الناس ثلاثة رجل إمام أو وال ورجل يعلم ناسخ القرآن من المنسوخ. قالوا: يا حذيفة ومن ذاك؟ قال: عمر بن الخطاب أو أحمق متكلف" رواه الدارمي في سننه وعن سعيد بن المسيب أنه قال: "ما أعلم أحدا من الناس كان أعلم بعد رسول الله ﷺ من عمر بن الخطاب" رواه إسحاق بن راهويه وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية. وعن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: "ذهب عمر بثلثي العلم". فذكر لإبراهيم فقال: "ذهب عمر بتسعة أعشار العلم" رواه الدارمي في سننه..
وقال محمد بن سعد في الطبقات أخبرنا محمد بن عبيد الطنافسي حدثني هارون البربري عن رجل من أهل المدينة قال: "دفعت إلى عمر بن الخطاب فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه". وروى ابن سعد أيضًا في الطبقات عن ابن عمر ﵄ أنه سئل من كان يفتي الناس في زمن رسول الله ﷺ فقال: "أبو بكر وعمر ما أعلم غيرهما".
وقد تقدم قريبًا حديث حذيفة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: "وما حدثكم بن مسعود فقبلوه" وفي رواية: "فصدقوه.." وروى الترمذي عن حذيفة ﵁ أن النبي ﷺ قال: "وما حدثكم حذيفة فصدقوه" قال الترمذي هذا حديث حسن. فنحن نصدق بن مسعود وحذيفة ﵄ فيما حدثا به عن عمر بن الخطاب ﵁ من غزارة العلم ورجحانه على علم غيره من الناس ونكذب أبا تراب ومن سلك مسلكه الفاسد وقال بقوله الباطل في الغض من قدر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ وتفضيل بعض الصحابة عليه في العلم.
وأما قول أبي تراب: "إن معاذ بن جبل وابن مسعود وعلي بن أبي طالب كانوا أفقه من عمر وهو نفسه يشهد بذلك". فجوابه أن يقال: هذه دعوى مجردة لا دليل عليها. وقد ذكرت من الأدلة
30 / 80
الكثيرة ما يشهد بكذب هذه الدعوى ويشهد برجحان علم عمر ﵁ على علم غيره من الصحابة ﵃ سوى أبي بكر ﵁. ويكفي في ردها ما تقدم عن ابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي أنهم شهدوا لعمر ﵁ بغزارة العلم ورجحانه على سائر الناس سوى الصديق ﵁.
قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في منهاج السنة: "قد أخبر عنه النبي ﷺ أي عن عمر ﵁ من العلم والدين والإلهام بما لم يخبر بمثله لا في حق عثمان ولا علي ولا طلحة ولا الزبير".
وسئل شيخ الإسلام أبو العباس أيضا عن: رجلين اختلفا فقال: أحدهما أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب ﵄ أعلم وأفقه من علي بن أبي طالب ﵁. وقال الآخر: بل علي بن أبي طالب أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر. فأي القولين أصوب؟. وإذا ادعى مدع أن إجماع المسلمين على أن عليا ﵁ أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر ﵄ يكون محقًا أو مخطئا؟.
فأجاب رحمه الله تعالى: "لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين أن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر بل ولا من أبي بكر وحده. ومدعي الإجماع على ذلك من أجهل الناس وأكذبهم. بل ذكر غير واحد من العلماء إجماع العلماء على أن أبا بكر الصديق أعلم من علي منهم الإمام المنصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد الأئمة الستة من أصحاب الشافعي ما ذكر في كتابه تقويم الأدلة إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي. وما علمت أحدا من الأئمة المشهورين ينازع في ذلك وكيف وأبو بكر الصديق كان بحضرة النبي ﷺ يفتي ويأمر وينهى ويقضي ويخطب كما كان يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ولما هاجرا جميعا ويوم حنين وغير ذلك من المشاهد. والنبي ﷺ ساكت يقره على ذلك ويرضي بما يقول ولم تكن هذه المرتبة لغيره.
وكان النبي ﷺ في مشاورته لأهل العلم والفقه والرأي من أصحابه يقدم في الشورى أبا بكر وعمر فهما اللذان يتقدمان في الكلام والعلم بحضرة الرسول ﷺ على سائر أصحابه. وقد روي في الحديث أنه قال لهما: "إذا اتفقتما على أمر لم
30 / 81
أخالفكما". وفي السنن عنه أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" ولم يجل هذا لغيرهما. بل ثبت عنه أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة". فأمر باتباع سنة الخلفاء وهذا يتناول الأئمة الأربعة وخص أبا بكر وعمر بالاقتداء بهما ومرتبة المقتدى به في أفعاله وفيما سنه للمسلمين فوق مرتبة المتبع فيما سنه فقط. وفي صحيح مسلم أن أصحاب النبي ﷺ كانوا معه في سفر فقال: "إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا". وقد ثبت عن ابن عباس ﵄ أنه كان يفتي عن كتاب الله فإن لم يجد فبما سنه رسول الله ﷺ فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر. ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي. وابن عباس حبر الأمة وأعلم الصحابة وأفقههم في زمانه وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر مقدما لقولهما على قول غيرهما من الصحابة. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". وأيضا فأبو بكر وعمر ﵄ كان اختصاصهما بالنبي ﷺ فوق اختصاص غيرهما. وأبو بكر ﵁ كان أكثر اختصاصا فإنه كان يسمر عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين ومصالح المسلمين - إلى أن قال - وفي الصحيحين عن ابن عباس ﵄ قال: "وضع عمر ﵁ على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت فإذا هو علي ﵁ فترحم على عمر ﵁ وقال: ما خلفت أحد أحب إلي أن ألقى الله ﷿ بعلمه منك وأيم الله إن كنت لا أظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كنت كثيرا ما أسمع النبي ﷺ يقول: " جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجوا أو أظن أن يجعلك الله معهما". وفي الصحيحين وغيرهما أنه لما كان يوم أحد قال أبو سفيان لما أصيب المسلمون: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟؟ فقال النبي ﷺ: "لا تجيبوه" فقال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي ﷺ: "لا تجيبوه" فقال أفي القوم
30 / 82
ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي ﷺ: "لا تجيبوه" فقال لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله إن الذين أعددت أحياء وقد بقي لك ما يسوءك" وذكر الحديث. فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي ﷺ وأبي بكر وعمر ﵄ دون غيرهم لعلمه بأنهم رؤوس المسلمين. النبي ووزيراه. ولهذا سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي ﷺ في حياته فقال: "منزلتهما في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته". قلت: وقد تقدم عن علي بن الحسين أنه أجاب بنحو هذا الجواب". وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى في جواب آخر أن الرشيد قال لمالك لما أجابه بهذا الجواب: "شفيتني يا مالك". قال شيخ الإسلام ﵀ تعال: ى" وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم والدين تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما وهذا ظاهر بيِّن لمن له خبرة بأحوال القوم. أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بيَّنها لهم لم يحفظ له قول يخالف نصا وهذا يدل على غاية البراعة.
وأيضا فالصحابة في زمن أبي بكر ﵁ لم يكونوا يتنازعون في مسألة إلا فصلها بينهم أبو بكر وارتفع النزاع بينهم فلا يعرف بينهم في زمانه مسألة واحدة تنازعوا فيها إلا ارتفاع النزاع بينهم بسببه كتنازعهم في وفاته ﷺ ومدفنه وفي ميراثه وفي تجهيز جيش أسامة وقتال مانعي الزكاة وغير ذلك من المسائل الكبار. بل كان خليفة رسول الله ﷺ فيهم يعلمهم ويقوِّمهم ويبيِّن لهم ما تزول معه الشبهة فلم يكونوا معه يختلفون. وهذا يدل على غاية العلم. وقام مقام رسول الله ﷺ وأقام الإسلام فلم يُخِل بشيء منه بل دخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم وكثرة الخاذلين فكمل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه أحد حتى قام الدين كما كان - إلى أن قال - وأيضا فعلي بن أبي طالب تعلم من أبي بكر بعض المسائل بخلاف أبي بكر فإنه لم يتعلم من علي بن أبي طالب كما في الحديث المشهور الذي في السنن حديث صلاة التوبة عن علي ﵁
30 / 83
قال: "كنت إذا سمعت من النبي ﷺ حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني فإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبي بكر وصدق أبو بكر عن النبي ﷺ أنه قال: "ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له".
ومما يبين هذا أن أئمة علماء الكوفة الذين صحبوا عمر وعليا ﵄ كعلقمة والأسود وشريح القاضي وغيرهم كانوا يرجحون قول عمر على قول علي. وأما تابعوا أهل المدينة ومكة والبصرة فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يذكر وإنما الكوفة ظهر فيها فقه علي وعلمه بحسب مقامه فيها مدة خلافته، وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر ﵄ لا في فقه ولا علم ولا غيرهما بل كل شيعته الذين قاتلوا معه عدوه كانوا مع سائر المسلمين يقدمون أبا بكر وعمر ﵄ إلا من كان علي ﵁ ينكر عليه ويذمه مع قتلهم في عهد علي وخمولهم وكانوا ثلاث طوائف طائفة غلت فيه كالتي ادعت فيه الإلهية وهؤلاء حرقهم علي ﵁ بالنار. وطائفة كانت تسب أبا بكر وكان رأسهم عبد الله بن سبأ فلما بلغ عليا ذلك طلب قتله فهرب. وطائفة كانت تفضله على أبي بكر وعمر قال: "لا يبلغني عن أحد منكم أنه فضلني على أبا بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري". وقد روي عن علي ﵁ من نحو ثمانين وجها وأكثر أنه قال على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر" - إلى أن قال - ورأس الفضائل العلم وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم منه قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ .
والدلائل على ذلك كثيرة وكلام العلماء في ذلك كثير".
ثم قرر الشيخ رحمه الله تعالى أن أبا بكر وعمر ﵄ أعلم من علي ومعاذ بن جبل ﵄ إلى أن قال: "ولم يختص علي ﵁ بتبليغ شيء من العلم إلا وقد اختص غيره بما هو أكثر منه فالتبليغ العام الحاصل بالولاية حصل لأبي بكر وعمر وعثمان منه أكثر مما حصل لعلي. وأما الخاص فابن عباس ﵄ كان أكثر فتيا منه وأبو هريرة ﵁ أكثر رواية منه وعلي ﵁
30 / 84
أعلم منهما كما أن أبا بكر وعمر وعثمان ﵃ أعلم منهما أيضًا فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان الناس أحوج إليه مما بلغه من بلغ بعض العلم الخاص - إلى أن قال - وما يذكر أنه كان عنده - أي عند علي ﵁ علم باطن امتاز به عن أبي بكر وعمر وغيرهما فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية ونحوهم الذين فيهم من الكفر ما ليس في اليهود والنصارى" انتهى المقصود من كلامه ملخصا. وفيه أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل بعض الصحابة في العلم والفقه على أبي بكر وعمر ﵄ وهذه جراءة سيئة من أبي تراب حاصلها الغض من أبي بكر وعمر ﵄.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضًا في منهاج السنة: "أهل السنة يقولون ما اتفق عليه علماؤهم إن أعلم الناس بعد رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر وقد ذكر غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم الصحابة كلهم" انتهى.
وقد خرق أبو تراب الإجماع وخالف أهل السنة حيث فضَّل أبا هريرة والبخاري على أبي بكر وعمر ﵄ بالعلم. وفضَّل عليا ومعاذا وابن مسعود وابن عمر ﵃ على عمر ﵁ بالعلم والفقه. وأما قوله: "وهو نفسه يشهد بذلك".
فجوابه أن يقال لم يثبت ذلك عن عمر ﵁ وعلى تقدير ثبوته فإنما ذلك من باب التواضع..ومن هذا الباب قصته مع المرأة حين قال وهو على المنبر: يا أيها الناس لا تغلوا في صداق النساء. ونهاهم أن يزيدوا على أربعمائة درهم. فقامت امرأة فقالت: إن الله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا من ذهب﴾ - وهي هكذا في قراءة بن مسعود ﵁ فرجع عمر ﵁ عن قوله وقال: "كل الناس أفقه من عمر". فهذا من باب التواضع وليس معناه أن تلك المرأة أو غيرها أفقه من عمر ﵁ على الإطلاق كما قد يفهمه بعض الجهلة الأغبياء. وتواضع عمر ﵁ مع المرأة وغيرها يعد من المناقب لا من المعايب.
أما قوله: "ولكنهم لم يكونوا أفضل منه". فجوابه أن يقال: لو كان علي ومعاذ وابن مسعود ﵃ أفقه من عمر ﵁ لكانوا أفضل منه لأن العلم رأس الفضائل وأكملها وأشرفها ولكنه ﵁ قد فاقهم كلهم في العلم والفقه وفي غير ذلك من الخصال الحميدة فلذلك كان أفضل منهم.
30 / 85
وأما قوله: "وليس لإنسان أن يقرن الفضل بالعلم". فالجواب أن يقال: بل ليس لإنسان أن يفرق بين الفضل وبين العلم لأن العلم خصلة من خصال الفضائل وهو رأسها وأكملها وأشرفها ولا يكون الإنسان فاضلا إلا بالعلم وإذا لم يتصف بالعلم فإنه لا يكون فاضلا وإنما يكون ناقصا وكفى بالعلم شرفا وفضيلة وكفى بالجهل نقصا ووضيعة..
وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو أن العلم لا يكون فضيلة في حق كل أحد وإنما يكون فضيلة في حق من يعمل بعلمه فيخشى ربه ويسارع إلى ما يرضيه من الأقوال والأعمال ويجتنب ما يسخطه منها. وأما الذي يكون معه علم وهو لا يخشى ربه ولا يلتمس رضاه ولا يجتنب نهيه فهذا جاهل في الحقيقة وعلمه لا يكون فضيلة في حقه وإنما يكون حجة عليه ووبالا يوم القيامة.
وقد قال عبد الله بن مسعود ﵁: "كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا" رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد. وروى عبد الله أيضًا في كتاب الزهد عن ابن مسعود ﵁ أنه قال: "ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية". وروى الطبراني عن أبي هريرة ﵁ يرفعه: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه علمه". وما أكثر هذا الضرب الرديء في زماننا لا أكثرهم الله.
يتبع
30 / 86
تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب
لفضيلة الشيخ حمود عبد الله التويجري
- ٢-
الموضع الثالث: زعم أبو تراب أن أبا بكر وعمر ﵄ ماتا ولم يحفظا القرآن كله وقد حفظ أبو بكر من الأحاديث مائة واثنين وأربعين.. وعمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثين.. ولكن ابنه كان أعلم منه فقد حفظ ألفي حديث وستمائة وثلاثين. وغلب الجميع أبو هريرة فله خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة أحاديث فهل نقول أن أبا هريرة كان أفضل من أبي بكر. كلا.. فالفضل غير العلم والفقه والاجتهاد والحفظ.
والجواب أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام من الجرأة والتهجم على أبي بكر وعمر ﵄. وما يدري أبا تراب أن أبا بكر وعمر ﵄ ماتا ولم يحفظا القرآن كله. إنا نطالبه بإقامة الدليل على ذلك.
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" رواه مسلم وغيره من حديث أبي مسعود الأنصاري ﵁..
وثبت عنه ﷺ من عدة أوجه في الصحيحين وغيرهما أنه أمر أبا بكر ﵁ أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه. وقد ترجم البخاري على ذلك بقوله: «باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة» . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي ﵁ أن رسول الله ﷺ ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فتقدم أبو بكر ﵁ يصلي بالناس. الحديث. وقد أقر النبي ﷺ أبا بكر على
31 / 61