تمهید تاريخ فلسفه اسلامی
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
ژانرها
ويقول الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» في معنى قول ابن سينا ما يأتي: «الأنبياء أيدوا بأمداد روحانية لتقرير القسم العملي، وبطرف ما من القسم العلمي، والحكماء تعرضوا لأمداد عقلية تقريرا للقسم العلمي، وبطرف ما من القسم العملي، فغاية الحكيم هو أن يتجلى لعقله كل الكون، ويتشبه بالإله الحق - تعالى - بغاية الإمكان، وغاية الدين أن يتجلى له نظام الكون فيقدر على ذلك مصالح العامة حتى يبقى نظام العالم، وينتظم مصالح العباد، وذلك لا يتأتى إلا بترغيب وترهيب وتشكيل وتخييل؛ فكل ما وردت به أصحاب الشرائع والملل مقدر على ما ذكرناه عند الفلاسفة، إلا من أخذ علمه من مشكاة النبوة فإنه ربما بلغ إلى حد التعظيم لهم، وحسن الاعتقاد في كمال درجتهم.»
7
والتشكيل والتخييل في كلام الشهرستاني خاص بالأمور العلمية؛ فالفلاسفة يقولون، كما يذكره ابن تيمية المتوفى سنة 728ه/1327م في كتابه «موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول»: «إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر، وعن الجنة والنار، بل وعن الملائكة بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله - تعالى - جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيما محسوسا، وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر؛ لأن مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الأمر هكذا ، وإن كان هذا كذبا فهو كذب لمصلحة الجمهور؛ إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذا الطريق، وهؤلاء يقولون: الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها، وقصدوا أن يفهم الجمهور منهم هذه الظواهر، وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذبا وباطلا ومخالفة للحق، فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب وبالباطل للمصلحة.
ثم إن من هؤلاء من يقول: «النبي كان يعلم الحق، ولكن أظهر خلافه للمصلحة.»، ومنهم من يقول: «ما كان يعلم الحق كما يعلمه نظار الفلاسفة وأمثالهم.» وهؤلاء يفضلون الفيلسوف الكامل على النبي، وأما الذين يقولون: إن النبي كان يعلم ذلك، فقد يقولون إن النبي أفضل من الفيلسوف؛ لأنه علم ما علمه الفيلسوف وزيادة، وأمكنه أن يخاطب الجمهور بطريقة يعجز عن مثلها الفيلسوف.»
8
وقول ابن تيمية تقرير واضح لآراء الفلاسفة، وإن كان في أسلوبه وألفاظه مما لم تجر به عادة الحكماء.
هذه خلاصة رأي الفلاسفة الإسلاميين في العلاقة بين الدين والفلسفة، وإذا كان الفلاسفة يحاولون غالبا التوفيق بين الشريعة والحكمة في أسلوب ليس فيه عنف، ولا نزوع إلى كبرياء، فإن لبعضهم أساليب تكاد تكون مهاجمة للدينيين أو دفاعا بعنف.
نقل أبو حيان التوحيدي، المتوفى سنة 403ه/1012-1013م على ما استظهره السندوبي طابع كتاب «المقابسات». وفي «معجم المطبوعات العربية» لسركيس أنه توفي سنة 400ه/1009-1010م، عن المقدسي الفيلسوف أنه قال: «الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم وحتى يزول المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلا، وبين مدبر المريض وبين مدبر الصحيح فرق ظاهر وأمر مكشوف؛ لأن غاية تدبير المريض أن ينتقل به إلى الصحة، هذا إذا كان الدواء ناجعا، والطبع قابلا ، والطبيب ناصحا، وغاية تدبير الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة فقد أفاده كسب الفضائل، وفرغه لها، وعرضه لاقتنائها، وصاحب هذه الحال فائز بالسعادة العظمى، وقد صار مستحقا للحياة الإلهية، والحياة الإلهية هي الخلود والديمومة (والسرمدية)،
9
وإن كسب من يبرأ من المرض بطب صاحبه الفضائل أيضا، فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل ؛ لأن إحداهما تقليدية والأخرى برهانية، وهذه مظنونة وهذه مستيقنة، وهذه روحانية وهذه جسمية، وهذه دهرية وهذه زمانية.»
صفحه نامشخص