تمهید تاريخ فلسفه اسلامی
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
ژانرها
قال: ثم إن مالكا عزم على تصنيف «الموطأ»، فصنفه فعمل من كان يومئذ بالمدينة من العلماء الموطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله، فقال: ائتوني بما فعلوا، فأتي بذلك فنظر فيه، وقال: لتعلمن أنه لا يرتفع إلا ما أريد به وجه الله، قال: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وما سمعت لشيء منها بعد ذلك بذكر، وروى أبو مصعب أن أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضع للناس كتابا أحملهم عليه، فكلمه مالك في ذلك فقال: ضعه؛ فما أحد اليوم أعلم منك، فوضع «الموطأ»، فما فرغ منه حتى مات أبو جعفر. وفي رواية أن المنصور قال: ضع هذا العلم ودون كتابا وجنب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، واقصد أوسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمة. وفي رواية قال له: اجعل هذا العلم علما واحدا فقال له: إن أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم - تفرقوا في البلاد، فأفتى كل في مصره بما رأى، فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول تعدوا فيه طورهم، فقال: أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفا ولا عدلا، وإنما العلم علم أهل المدينة، فضع للناس العلم. وفي رواية عن مالك: فقلت له: إن أهل العراق لا يرضون علمنا، فقال أبو جعفر: يضرب عليه عامتهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط.
وإذا لم يكن مالك قد وضع «موطأه» تلبية لدعوة المنصور ليجعل هذا العلم علما واحدا، وليحمل الناس عليه، فإن مالكا قد وضع «موطأه» تلبية لحاجة المسلمين الذين اشتدت حاجتهم يومئذ لجمع الأحكام وترتيبها وتنقيحها وتمهيدها، وشعر بهذه الحاجة المنصور، يدل على ذلك ما جاء في «رسالة الصحابة» لابن المقفع. وفي كتاب «ضحى الإسلام»: «ولابن المقفع رسالة سميت بالصحابة - وليس يعني صحابة رسول الله - كما هو المشهور في استعمال الكلمة، وإنما عنى صحابة الولاة والخلفاء ... وللرسالة قيمة كبرى؛ فإنها تقرير في نقد نظام الحكم إذ ذاك، ووجوه إصلاحه، رفعه إلى أمير المؤمنين ولم يسمه، والظاهر أنه أبو جعفر المنصور.»
163
وبعد أن لخص المؤلف الرسالة قال: «فمجمل رأي ابن المقفع في إصلاح القضاء وضع قانون رسمي تجري عليه المملكة الإسلامية في جميع أنحائها.»
164
وقد يكون المنصور أراد أن يحقق مشورة ابن المقفع بما كان يحاول أن يحمل الناس على «الموطأ» لولا أن أدركه الأجل.
وفي كتاب «تبييض الصحيفة» أن مالكا في ترتيبه «للموطأ» متابع لأبي حنيفة، ومن العسير إثبات ذلك، فإن أبا حنيفة ومالكا كانا متعاصرين، وإن تأخر الأجل بمالك، وأقدم ما حفظ من المجاميع الفقهية المؤلفة في عصور الفقه الأولى بين السنيين هو «موطأ» مالك.
في حاشية محمد الزرقاني على «موطأ» مالك: «و«الموطأ» من أوائل ما صنف، قال في مقدمة فتح الباري: اعلم أن آثار النبي
صلى الله عليه وسلم ، لم تكن في عصر أصحابه، وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين؛ حدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك كما في «مسلم»، خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن. والثاني: سعة حفظهم وسيلان أذهانهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار.
فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهما، فصنفوا كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة في منتصف القرن الثاني فدونوا الأحكام ؛ فصنف الإمام مالك «الموطأ» وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وصنف ابن جريج بمكة، والأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وابن المبارك بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالري، وكان هؤلاء في عصر واحد؛ فلا يدرى أيهم أسبق.
صفحه نامشخص