تملک فرانسویها اقطار مصری
ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية
ژانرها
فاتحة الكتاب
ذكر الثورة الفرنسية
ذكر ما صنعه أمير الجيوش في جريان النيل
ذكر ما صنعه أمير الجيوش في مولد النبي الواقع في 12 ربيع أول سنة 1213
ذكر العيد الذي صنعه أمير الجيوش للمشيخة في ربيع ثاني سنة 1213
ذكر أمير الحج لما خرج في الحج قبل دخول الفرنساوية
ذكر ما تم في ممالك الدولة العثمانية
ذكر ما حدث بمصر
فاتحة الكتاب
ذكر الثورة الفرنسية
صفحه نامشخص
ذكر ما صنعه أمير الجيوش في جريان النيل
ذكر ما صنعه أمير الجيوش في مولد النبي الواقع في 12 ربيع أول سنة 1213
ذكر العيد الذي صنعه أمير الجيوش للمشيخة في ربيع ثاني سنة 1213
ذكر أمير الحج لما خرج في الحج قبل دخول الفرنساوية
ذكر ما تم في ممالك الدولة العثمانية
ذكر ما حدث بمصر
ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية
ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية
تأليف
نقولا التركي
صفحه نامشخص
فاتحة الكتاب
بسم الله الحي، القيوم الأبدي، الأزلي الدايم السرمدي، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا رب غيره وسواه لا يعبد، من خلق السموات وزينها بالكواكب السايرة، والنجوم الساهرة، وبسط الأرض وأتقنها بحكمته الباهرة، وقدرته القادرة، وصنع الإنسان وولاه على ساير ما أبدع في دنياه، وجمله في العقل الفايق والذهن الرايق، وأمره بالسير على الحق وحفظ السنن، وخلوص الود للخلق وترك الفتن. نحمده - سبحانه وجل شانه - حمدا يليق بعزته ذات الجلالة، ما بزغ بدر وأشرقت غزالة.
أما بعد؛ فيقول العبد الضعيف صاحب هذا التأليف: إنه إذ قد جرت عادة الأوايل بتأليف الكتب والرسايل، وذكر ما يمر عليهم من الحادثات الكونية والحركات الكلية، كقيام دولة على دولة وانتشار الحروب المهولة، وما يتعلق بها من المواقع المريعة والأمور الفظيعة.
فحق لنا أن نؤرخ في هذا الكتاب لانتفاع الطلاب ما حدث من التغيير والانقلاب، مما أجرته يد الأقدار في هذه الأمصار، ومما أذنت به العزة الإلهية بظهور المشيخة الفرنساوية، وما تكون بسببها من الفتن في البلاد الإفرنجية وديار الرومية، وقتل سلطانهم وخراب بلدانهم، وانتشار شانهم وربحهم من بعد خسرانهم، وذلك بظهور فرد أفرادهم وقايد أجنادهم، الليث الشديد والبطل الصنديد، أمير الجيوش الأمير بونابرته، وذكر الحروب التي ثارت بتلك الممالك وحدوث الشرور والمهالك، وقهر البلاد التي اتصلوا إليها والانتصارات العظيمة التي حصلوا عليها، بانتقالهم الغريب من الغرب إلى الشرق، ومرورهم العجيب أسرع من البرق، ونزولهم على جزيرة مالطة كالصواعق الهابطة، وفتوحهم ثغر الإسكندرية واستيلائهم على الأقطار المصرية، وذكر ما تم لهم من التمليك في حروبهم مع جملة الغز والمماليك، ومسيرهم على الأقطار الشامية، ومحاصرتهم لمدينة عكا القوية مسكن ذاك الوزير الجبار المعروف بأحمد باشا الجزار، ورجوعهم إلى أرض مصر، وما تم لهم في ذلك العصر، وكفاحهم مع الدولتين العظيمتين؛ الدولة العثمانية والدولة الإنكليزية، ومصادماتهم للعساكر البرية والبحرية، وخروجهم من مصر القاهرة بالتسليم من بعد حروب وافرة وهول عظيم، وذلك في مدة ثلاثة أعوام في التمام، ابتداؤها شهر محرم الحرام افتتاح عام ألف ومايتين وثلاثة عشر هجرية، وآخرها شهر ربيع الثاني عام ألف ومايتين وستة عشر بالهجرة الإسلامية، ثم يتلوه ذكر تملك الدولة العثمانية والدولة الإنكليزية من بعد خروج الدولة الفرنساوية، وذكر ما تم لهم مع زمرة الغز والمماليك المحمدية من بعد فتوحهم مصر الكنانة، وبالله القوة والإعانة.
ذكر الثورة الفرنسية
إنه في سنة 1792 مسيحية الموافقة لسنة 1207 هجرية، حدث في مدينة باريز بلبلة عظيمة؛ إذ هاج شعب هذه المملكة هياجا عظيما، وتظاهر ظهورا جسيما ضد السلطان والأمراء والأشراف، في يوم كان شديد الارتجاف، وأبرزوا الكمين منذ أعوام وسنين، وطلبوا نظامات جديدة وترتيبات حديثة، وادعوا أن وجود السلطان بصوت منفرد أحدث خرابا عظيما في المملكة، وأن أشرافها يتنعمون في خيراتها وباقي شعوبها يكابدون أتعابها ومشقاتها؛ فلأجل ذلك نهضوا جميعهم سوية؛ تلك الشعوب الفرنساوية، ودخلوا إلى سراية الملك، فخاف منهم خوفا عظيما مع أرباب دولته، وسألهم عن مرامهم والسبب الداعي إلى قيامهم، فأعلموه أنه من الآن وصاعدا لا يبرز الملك أمرا أو يبث رأيا من تلقا ذاته، بل يكون بث الأحكام والترتيب والنظام بموجب ديوان عظيم ومحفل جسيم، ويكون الملك له الصوت الأول، ثم من بعده مشايخ الشعب الذين عليهم المعول؛ فبذلك يهون الصعب ويرتفع الظلم عن الشعب، فلما فهم الملك لويس قيام هذا الشعب المذكور وما أبدوه من تلك الأمور أجابهم: وأيضا أنا أود عمار هذه المملكة وخيرها، وأطيع لما تروه مناسبا لرفع ضرها وضيرها، فقالوا له: إن كنت كما زعمت اختم لنا الشروط التي تلائم إصلاح هذه المملكة وقيام المشيخة، فقبل ذلك خوفا من الشعب وختم لهم الشروط التي قدموها له.
ثم بعد أيام جهز الملك نفسه للهرب، وخرج ليلا من مدينة باريز، وصحبته أخوه وبعض أصحابه قاصدا الإنبراطور ملك النمسا؛ لأنه كان نسيبه شقيق زوجته، وعندما بلغ مشايخ الشعب خروج هذا الملك جدوا في طلبه، فوجدوه في إحدى اللوسطاريات التي في الطريق، فقبضوا عليه ورجعوا به إلى المدينة ووضعوه في السجن مع امرأته وولده، وأما أخوه فإنه نجا منهم وسار إلى بلاد النمسا.
وبدأ جميع الشعب يصيح صارخا: فليقتل الملك بموجب الشريعة؛ لأنه نكث في عهده مع شعبه، وقد هرب لكي يلتجئ إلى ملك النمسا الذي هو أخو زوجته التي قد تسبب لنا هذا الخراب بسببها، ثم إن بعدما سجنوا الملك أربعة أشهر، أحضروه أمام الشعب في يوم الإثنين في الحادي والعشرين من كانون الثاني، وقد أبرزوا عليه الحكم بالموت، فطلب الملك لويس أن يخاطب عيلته، والمتوكلون عليه أحضروا له امرأته وبنته وشقيقته، واستمروا معه في المكان الذي كان يأكل فيه نحو ساعتين ونصف، وخاطب ابنته مريم أنطونينا قائلا لها: تعلمي من مصايب والدك ولا تجزعي من موتي، وطلبت عيلته منه أن ينظروه عند الصباح فلم يجبهم إلى ذلك.
وفي الصباح أعلموا المتوكلون عليه أن الجمهور قد حكم عليه بالموت، فطلب الملك لويس دقيقة لكي يتكلم مع معلم اعترافه فأذنوا له بذلك، ثم أعرض مغلفا على أحد المتوكلين وتوسل إليه أن يرسله إلى مجمع الجمهور فأجابه: إنني لا أستطيع هذا الأمر؛ لكوني متفوض أن أرافقك إلى منقع الدم، ثم أعطى ذاك المغلف إلى شخص آخر وأوعده أنه يوصله إلى الجميعة، وكان بذلك المغلف وصيته:
وهذه هي وصيته:
صفحه نامشخص
باسم الثالوث الأقدس الأب والابن والروح القدس أنا لويس السادس عشر، باسم ملك فرنسا، في اليوم الذي هو الخامس والعشرون من كانون الأول في سنة 1792؛ إذ كان لي أربعة أشهر مسجونا في الحصن المسمى طمبل في باريز، ففعل هؤلاء الذي كانوا خاضعين لي، وممنوعا عن كل اشتراك حتى مع عيلتي نفسها منذ أحد عشر من هذا الشهر، ومشتغلا في فحص لا يمكن يعرف نهايته بسبب الآلام البشرية التي لا يوجد لها اعتذار ولا مثال في شريعة من الشرايع، وإذ لم يكن شاهد آخر لأفكاري ولا من ألتجئ إليه سوى الله - تعالى - وحده فأوضح لدى حضرته الإلهية إرادتي الأخيرة، وأني تارك نفسي لله سيدي وخالقي، وأتوسل إليه بأن يقبلها برحمته، ولا يحاسبها حسب استحقاقها بل حسب استحقاق سيدي يسوع المسيح؛ الذي قدم ذاته لأبيه السماوي لأجل خلاص كل البشر الذي أنا أولهم، ولو كنت غير مستحق لذلك، بل إنني أموت بالاتحاد مع الكنيسة الكاتوليكية الرسولية الرومانية التي اقتبلت سلطانتها بتسلسل متصل من القدس بطرس الرسول، مستودعة له من السيد المسيح نفسه، وإنني أؤمن إيمانا ثابتا وأعترف بكل ما هو متضمن في قانون الإيمان وفي وصايا الله وكنيسته وفي الأسرار كما تعلمه الكنيسة الجامعة.
وإنني قد علمت دايما بأني لم أدع قد أصلا في أنني أقيم ذاتي قاضيا في أنواع تفسير الاعتقادات المختلفة التي تمزق كنيسة السيد المسيح، بل إنني قد تصرفت وسأتصرف دايما إن منحني الله الحياة مسلما للتحذيرات التي تعطى لي من رؤساء الكنايس المتحدين مع الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية، والمتفقين معها من إتيان سيدنا يسوع المسيح، وإني أندب من كل قلبي أوليك الذين يوجدون في الضلال، إنما لا أدينهم بل أحبهم سوية بسيدي يسوع المسيح، كما ترشدني المحبة المسيحية، وأتوسل لله - تعالى - أن يغفر لي كل خطاياي؛ لأنني قد اجتهدت بالفحص المدقق عنها لكي أعرفها وأمقتها، وأتضرع أمام عزته - تعالى - بأن إذ لم يمكني أحصل على كاهن كاتوليكي فأسأل الله أن يقبل اعترافي وندامتي الخالصة؛ لكوني وضعت اسمي وكان ضد إرادتي في بعض قضايا مضادا الاعتقاد بالكنيسة الكاتوليكية وتهذيبها، وإنما قد استمريت دايما متحدا معها بخلاصة قلبي، وأتوسل لله - تعالى - أن يقبل قصدي الثابت أن أستخدم كاهنا كاتوليكيا حال ما يمكني إن منحني الحياة؛ لكي أعترف بكل خطاياي، وأقبل من يده سر التوبة.
وإنني أتضرع لكل أوليك الذين قد أمكن أن أكون أغضبتهم بعدم الانتباه؛ إذ لم يبكتني ضميري أنني سببت لأحد أدنى إهانة، والذين قد أمكن أن أكون قد أعطيتهم مثلا رديا أو شكوكا فأتوسل إليهم أن يسامحوني بالشر الذي يظنون أنني سببته لهم، وإنني أيضا أتوسل لكل أوليك المحبين أن يصنعوا تضرعاتهم مع تضرعاتي؛ لكي أنال من الله مغفرة آثامي.
وإنني أغفر من كل قلبي لأوليك الذين قد أعلنوا ذواتهم أعداء لي من دون أن يسبق لهم مني أدنى سبب يوجب ذلك، وأسأل الله أن يسامحهم ويغفر لهم، ولأوليك الذين قد صنعوا معي شرا عظيما؛ إما من قبل غيرة كاذبة أم من قبل جهل.
وإنني أستودع لله امرأتي وبني وشقيقتي وإخوتي وعماتي وكل أوليك المرتبطين معي بارتباط الدم أو بنوع آخر، وأتوسل لله أن ينعطف برحمته نحوهم وأن يقويهم بنعمته على افتراض فقدهم إياي كل الزمان الذي يستمرونه في هذا وادي الدموع، وإنني أستودع بني لامرأتي، ولا أرتاب أصلا بحنوها الشفوق نحوهم، وأوصيها بالخصوص أن تهذبهم تهذيب المسيحيين الكاملين، وأن تصيرهم بأن يعتبروا عظمة هذا العالم كخيرات خطرة قابلة الفقد والانقلاب، وأن يرفعوا ألحاظهم نحو المجد الثابت الحقيقي، وإنني أتضرع إلى شقيقتي أن تستمر ملاحظة بني بحنوها المعتاد، وأن تقوم مقام والدتهم إن حصلوا على فقدها من قبل التعس، وإنني أسأل امرأتي بأن تسامحني بكل الشرور التي احتملتها بسببي، وبكل غيظ قد يمكن أن أكون سببته لها في مدة اقتراننا، وليكن محققا عندها أنني لست بواجد عليها شيئا من الأشياء، وإنني أوصي بني بكل حرارة أنهم من بعد أن يتقوا الله؛ إذ كان - تعالى - واجب أن يتقدم إكرامه على كل شيء، ويكونوا متفقين دايما مع بعضهما بعض، وخاضعين لوالدتهما وحافظين نحوها كل معروف، وأن يعتبروا شقيقتي كوالدة ثانية.
وإنني أوصي ابني على افتراض أنه إذا ما حصل على التعس أي أضحى سلطانا أن يفتكر بأنه يلتزم أن يوجه كل اهتمامه نحو سعادة أهل بلاده، وأنه يلتزم أن ينسى كل بغض وضرر خاصة لأوليك الذين سببوا إلي ما أنا محتمله الآن، وأنه لا يستطيع أن يصير الشعوب سعداء إن لم يحكم حسب الشرايع، وإنني أوصي ولدي أن يهتم بكل أوليك الأشخاص الذين كانوا متعلقين بي، وأن يفتكر بأني قد حصلت على التزام مقدس نحو أولاد وأقرباء أوليك الذين ماتوا لأجلي، والذين قد حصلوا على التاعسة بسببي، وإني عالم أنه كان يوجد أشخاص كثيرون من الذين كانوا متعلقين بي ولم يسلكوا معي بحسب التزامهم بل أظهروا عدم المعروف معي، فأنا أسامحهم من كل قلبي، وأسأل ولدي أنه إذا تقدمت له الفرصة لا يفتكر سوى بسعادتهم والخير لهم.
وإنني أود أن أظهر معروفي نحو أوليك الذين قد حفظوا تعلقا حقيقا نحوي من دون نفعهم الخاص، كما أنني قد شعرت بألم من قلبي رداوة بعض أشخاص لم يظهر مني نحوهم ونحو أولادهم وأصدقائهم إلا كل جودة وخير، وهكذا قد شعرت بتعزية بنظري ما قد ظهر من تعلق حقيقي من كثيرين نحوي، ثم أسألهم أن يقبلوا شكري لأفضالهم؛ إذ كنت في هذه الحال لا أستطيع أن أبدو في المعروف نحوهم، إنما أوصي ولدي أن يستقصي إلى الفرصة الملائمة إلى مكافأتهم، وإنني أظن أني قللت اعتباري للطايفة الفرنساوية، إن كنت لا أوصي صريحا ولدي بأوليك الذين انعطافهم الخاص نحوي قد جذبهم لينحبسوا معي، ويطوحوا ذواتهم بخطر الموت لأجلي.
وأوصي ولدي بكلري الذي ليس لي سبيل عادل أن لا أمدح اهتمامه وخدمته نحوي منذ وجد معي ولم يزل مستمرا الآن وإلى النهاية، وأسأل أسياد الجمهور أن يسلموه كتبي وساعتي وكيس خرجيتي والأشياء المختصة بي، التي هي مودوعة عند مجمع الجمهور، وإنني أسامح أوليك الذين كانوا يحرسوني ، وأصفح عن مقتلاتهم الردية والمضايقات التي ضايقوني بها، وقد وجد بعض أنفس شفوقة فليتمتع هؤلاء بالراحة التي تحصل لهم، وأن يقبلوا شكري لأفضالهم ورغبتي بالمعروف نحو كل سعيهم ومهماتهم التي فعلوها لأجلي، وإنني أنهي وصيتي موضحا أمام الله؛ إذ كنت قريبا أمتثل بإزاء حضرته الإلهية أن ضميري لا يبكتني على ذنب من الذنوب المنسوبة لي، وقد حررت هذه الوصية نسختين في حصن الطمبل في خامس عشر كانون الأول سنة 1792.
المحرر اسمه لويس السادس عشر
من ملوك فرنسا
صفحه نامشخص
الشاهد به بياد
أحد أصحاب الوظايف
وفي الساعتين ونصف بعد نصف الليل صعد القايد العام نحو الملك لويس، وعرفه أنه يزمع أن يذهب إلى الموت، فأجابه الملك: إنني مستعد لذلك، وإذ خرج من مكانه وصعد إلى الكروسي حيث كان معلم اعترافه، وقد اصطفت العساكر في التبيعة حيث كان مكان الموت، وقد كان صمت كلي، وأما الملك لويس بعدما قرأ صلاة المنازعين تعرى من ثيابه بشجاعة فريدة وقلب غير مرتجف، وصرخ بصوت عال: أيها الفرنساويون إنني أموت بريا، وأغفر لكل أعدائي، وأرغب أن موتي يكون مفيدا للشعب، ثم أمر القايد العام إلى الجلاد أن يتمم وظيفته، وفي الحال قطع رأسه، وكان حزنا عظيما عند الذين كانوا من حزب الملك.
وأما الشعب فكان عنده سرور عظيم وصنعوا في مثل ذلك اليوم عيدا في كل سنة؛ تذكارا لقتل الملك وانتصار الشعب، وكان ذلك في مبادي شهر أيلول في سنة 1793، وجعلوه بدو سنتهم ولقبوه تاريخا للمشيخة، وغيروا الأشهر النصرانية ورتبوها أشهر جديدة، وسموها أسامي مختلفة، وأبقوها ثلثين يوما على خلاف عدتها الأولى، وفي ذلك الوقت رفضوا الديانة، وأقفلوا الكنايس والأديرة الرهبانية، وقتلوا الرهبان والراهبات وعدة من الأساقفة، وأرموا الأيقونات، وكسروا الصلبان، وكان خراب عظيم في تلك المملكة وأهوال متلفة مهلكة، وحدث عدة مواقع بينهم وبين حزب السلطان، ولا زالت تزداد وتنمو الأحقاد وتتجند الأجناد وتهلك العباد حتى ضعف حزب السلطان وقويت شوكة المشيخة قوة عظيمة.
وبعد أن اعتدل ميزانها ووطدت أركانها، وأهلكوا أخصامها، فأنفذوا كتابات لساير الملوك يعرفونهم عن تأييد مشيختهم، وهذا ما تضمنته كتاباتهم:
إن كل من يقر بمشيختنا فهو حبيب لنا، ومن لم يقر بمشيختنا فهو عدو لنا ويستعد إلى محاربتنا؛ لأننا قد استعدينا أن نحارب المسكونة بأسرها.
ثم كتبوا مثل ذلك إلى الدولة العثمانية، وقد كانت هذه الدولة المذكورة من قيامها متحدة مع الدولة الفرنساوية دايما، فقبلت كتابتهم وقرت بمشيختهم، وأما الملوك الإفرنجية حين وصلتهم كتابة الفرنساوية نهضوا جميعا باتفاق على قدم وساق، وعزموا على حرب ذلك الشعب الخارج عن الأسلوب ليلا تتشبه به بقية الشعوب، فأول من أشهر عليهم بالحروب ملك النمسا الإنبراطور؛ لأنهم قد قتلوا شقيقته وزوجها ملكهم، ثم نهضت ضدهم دولة الإنكليز، ثم سلطان إسبانيا، ثم سلطان إيطاليا، ثم البابا سلطان مدينة رومية العظيمة، وباقي سلاطين بلاد أوروبا، ولكون أن شعب هذه المملكة هو أوفر عددا من ساير الشعوب، فاعتصبوا جميعهم عصبة واحدة، واستعدوا لحرب جميع مضاديهم، وخرجوا من مدينة باريز إلى قتال أعدائهم الواردين عليهم من كل ناحية، وابتدوا يحاصرون مدينة بعد مدينة ومملكة بعد مملكة، وهم في عساكر كالبحار الزاخرة، بآلات الحرب الوافرة، والقوات القادرة، إلى أن اشتهر بأسهم واقتدارهم، وانتشر تملكهم وانتصارهم، وتملكوا حصونا وقلعا وبلدانا وضيعا، واستولوا على ممالك بلاد إيطاليا، وكانت حكم أحد عشر سلطانا، وامتلكوا عدة قلع من بلاد النمسا.
وكان ذلك الانتصار والتملك عن يد ذلك الليث الظاهر والأسد الكاسر، الفرد الفريد والبطل الصنديد؛ أمير الجيوش بونابرته، وكان هذا من بعض كبار المشيخة الفرنساوية، وكان قصير القامة رقيق الجسم أصفر اللون، باعه اليمين أطول من اليسار، مملوا من الحكمة مشمولا بالسعد والنعمة، يبلغ من العمر ثمانية وعشرين سنة، وهو أطلياني الأصل من جزيرة كورسيكا، وتربيته في مدينة باريز كرسي دولة الفرنساوية، وعندما اقتربت تلك الجيوش الفرنساوية إلى كرسي مملكة الإنبراطور؛ أي ملك النمسا عقد أمير الجيوش بونابارته صلحا مع الملك الإنبراطور على شروط مكتومة غير ظاهرة، ونهض من هناك سايرا إلى مملكة البندقية ودخل دخولا عجيبا؛ لأن مدينة البندقية هي بكر الأبكار؛ لكون أنها من حين ما بنيت وقامت مشيختها قط ما دخلها داخل ولا سطا عليها عدو، واستولى على جميع مدنها وجزايرها وتملك على كنوزها وذخايرها، ثم إنه سلم مدينة البندقية إلى ملك النمسا، وأبقى جزيرة كورفو له، ووضع بها ستة آلاف صلدات، ومن هناك سار بالجيوش إلى مدينة رومية العظمى.
وبعد حروب شديدة وأيام عديدة مع عساكر البابا تملك رومية، وهزم البابا واستولى على كنوزه وذخايره، وسلب أموال أهل الجزيرة، وخرب نظام تلك المدينة الجليلة، وأهان طغمة الأكلريكين والرهبان، وازدرى بالذخاير والصلبان، وكان اضطهاد عظيم على المسيحيين، وكثير من أهل رومية تبعوا رأي الفرنساوية، ومكث مدة في رومية وأتى إلى مدينة باريز.
وكان مدة حروبهم في البلاد الإفرنجية ستة سنوات، وطاعتهم غالب البلاد المذكورة، وقد كانت الفرنساوية جهزت عمارة عظيمة في طولون، وكان عدتها أربعماية وخمسين مركبا، وعدة عساكرها ستين ألفا، ورؤساء العساكر ستة وعشرون رجلا معروفين بالشجاعة والقوة والبراعة، وعدة الصلدات الحربية ستة وثلاثون ألفا، وباقي العساكر فيسالية وأصحاب صنايع ونوتية، وحين تمت العمارة ركب بها وصار طالبا جزيرة مالطة، وعندما وصل إليها حاصرها مدة قليلة، وافتتحها في شهر أيار المطابق إلى شهر ذي القعدة سنة 1212 هجرية بعد قيام تلك المشيخة بخمسة سنين، وقيل إن ذلك كان بولس الكوليرية الفرنساويين الذين كانوا موجودين بها، وبعد توليهم على مدينة مالطة رفعوا منها الحكام الكوليرية الذين كانوا من قبل ساير الملوك الإفرنجية، وأطلقوا المأسورين بها من الإسلام وأرسلوهم إلى بلدانهم بالسلام، وأوعدوهم بأن ما عاد يسير استئسار على الإسلام من المالطية على الدوام، ثم أمرهم أن يبشروا بذلك في جميع بلدان المسلمين، ويشكروا بذلك فضل الفرنساوية، وبعد ذلك وضع في مدينة مالطة ستة آلاف مقاتل من الفرنساويين، وأخذ عوضها من المالطيين، وصار في تلك النية قاصدا مدينة الإسكندرية، هذا ما كان من أمير الجيوش بونابارته.
صفحه نامشخص
وأما الإنكليز لما بلغهم خروج هذه العمارة العظيمة، وظنوا أنهم قاصدون بلدانهم فحصنوا ثغورهم ومكاناتهم، ولما حققوا أنهم قصدوا الديار المصرية جهزوا أربعة عشر مركبا بكلك كبار، وصاروا إلى محاربتهم؛ لأنه كان بين الإنكليز والفرنساوية عداوة عظيمة وحقود قديمة، وقد تسلموا بعض بلدان في الهند كانت للفرنساويين، وبهذا السبب كان مسير الفرنساويين إلى الديار المصرية مؤملين أنه بعد تملكهم الأمصار المصرية يستسيرون في بحر السويس إلى بلاد الهند؛ لأن المسافة قريبة، وحين دخلت مراكب الإنكليز ثغر الإسكندرية أرسلوا قاربا يطلبون حاكم المدينة، فتوجه إلى مقابلتهم كمركجي الإسكندرية السيد محمد كريم الذي كان متروسا من قبل الأمير مراد بيك، وبعد وصوله للمراكب سألهم عن سبب قدومهم، فأخبروه أنهم طالبون عمارة الفرنساوية؛ لكي يصدوها عن الدخول إلى ثغر الإسكندرية، فارتاب السيد محمد كريم، وقال في نفسه: ما هذا إلا خداع عظيم، وأجابهم أن الفرنساوية غير ممكن أنهم يحضروا لبلادنا، ولا لهم في أرضنا شغل، ولا بيننا وبينهم عداوة، ولا جلبنا عليهم رداوة، وهذا كلام غير ممكن أن نصدقه، وإن حضروا - كما تزعمون - فنصدهم عن الدخول وليس لهم إلينا وصول، وأما أنتم فليس لكم الإقامة بهذه الديار، وإنما إذا جئتم تأخذون شيئا من الماء والمأكل فلكم الاختيار، فأجابوه الإنكليز: أنتم لستم في هذا الحين كفوا لصد الفرنساويين، ولكن سوف تندمون على عدم قبولكم إيانا، وعلى ما يحل بكم تتحسرون، وفي الحال أقلعوا من مقابل الإسكندرية، وكان ذلك في ثلاثة عشر من شهر محرم افتتاح سنة 1213.
فرجع السيد محمد كريم وهو حاير من ذلك البلاء العظيم، وفي الحال أعرض ذلك الأمر إلى مراد بيك إلى مصر، وفي ثالث الأيام من بعد قيام مراكب الإنكليز من ثغر الإسكندرية عند العصر نفد مركب عظيم في البحر، ولما قرب إلى البوغاظ أرسل قاربا إلى أسكلة الإسكندرية يطلب قنصل الفرنساوية، ولما بلغ أهل المدينة خافوا خوفا عظيما، وعقدوا ديوانا واتفق رأيهم على عدم توجه القنصل، وكان يوميذ مركب الريالة في البوغاظ وقبطانه في المدينة، فأمرهم أن يطلقوا القنصل وقال لهم: وإن حصل سؤال عن ذلك فعلي الجواب، وسار في القارب إلى المركب، ثم ما أغربت الشمس إلا وأقبلت العمارة العظيمة التي ليس لها عدد، فسقط على أهل الإسكندرية خوف عظيم وهم جسيم حين نظروا وجه البحر تغطى من المراكب، وحرر السيد محمد كريم يعلم مراد بيك عن قدوم تلك العمارة في هذه الألفاظ: سيدي إن العمارة التي حضرت مراكب عديدة ما لها أول يعرف ولا آخر يوصف، لله ورسوله داركونا بالرجال. وفي تلك الليلة أرسل ثلاثة عشر ساعيا بلا خلاف، وقد أيقنوا بالموت والتلاف.
وأما الفرنساوية بقوا تلك الليلة ينقلون العساكر من المراكب إلى البر بالقوارب إلى مكان يقال له العجمي بعيدا من مدينة الإسكندرية مسافة ساعتين، وعند الصبح نظرت أهالي البلد إلى العساكر في البر، ليس لهم عدد ولا لهم على حربهم جلد، فتأهبت الإسلام إلى الحصار، ومحاربة تلك الكفار، وأطلقوا المناداة: اليوم يوم المغازاة، ولكن إذ كانت المدينة مؤامنة من تلك الحوادث، وغير مستعدة لمثل هذه النواكس، فما وجد في قلع هذه المدينة إلا قليل من البارود، وأكثره كالتراب من طولة الأيام، وعند طلوع الشمس هجمت عليهم تلك العساكر كالبحار الزواخر والأسود الكواسر، فما مضى نحو ساعتين من النهار حتى تملكت الإفرنج الأسوار، ودخلت المدينة قوة واقتدارا، وكان ذلك في 15 محرم سنة 1213، الموافق لشهر حزيران سنة 1798، وطلبت الأمان الرعية من العساكر الفرنساوية، فأعطاهم أمير الجيوش الأمان وعدم المعارضة والعدوان.
وكان قد قتل في ذلك النهار من المسلمين ماية قتيل، ومن الفرنساوية شيء قليل، وانجرح جرحا كبيرا الجنرال كليبر، ثم حضرت قدام أمير الجيوش أعيان البلد فتوسلوا إليه، فترحب بهم وأمنهم، واختار منهم سبعة أنفار من الأعيان الكبار، وهم الأستاذ الفاضل والحاذق العاقل الشيخ محمد المسيري العالم العلامة والمشهور بالفضل والمكرمة، ثم السيد محمد كريم عين الأعيان ورئيس الديوان، ومعهم خمسة أنفار من أهالي الإسكندرية الأخيار، وقلدهم زمام الأحكام وما يحتاج إليه البلد من النظام، وأن كل يوم يعملوا ديوان مشهور، ويحكموا بما بينهم من الأمور، وقال لهم: إنه على مقتضى الحرية يجب أن تتقلد الأحكام عقلاء الرعية؛ لأن الخلق عند الله كل بالسوية، وليس يتفضل أحد على الآخر إلا بالعقل والنية، وبعد ذلك أمر بإحضار المطابع التي أحضرها معه من مدينة رومية، وكانت تطبع في اللغة الفرنساوية ولغة اللاتينية واليونانية والسريانية والعربية، وكتب فرمانات وطبعها في العربية ووزعها على الديار المصرية، وهذه صورتها حرفا فحرفا:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له ولا شريك بملكه
من طرف الجمهور الفرنساوي المبني على أساس الحرية، والسر عسكر الكبير بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية، نعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد السناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية، يعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع البلص والتعدي، فحضرت الآن ساعة عقوبتهم، وحسرت من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من جبال الأباذا والكرجستان يفسدوا في الأقاليم الإحسان ما يوجد في كرة الأرض كلها، فأما رب العالمين القادر على كل شيء قد حتم في انقضاء دولتهم.
يا أيها المصريون قد يقولوا لكم: إنني ما نزلت في هذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، وذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إنني ما قدمت إليكم؛ إلا لكيما أخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله - سبحانه وتعالى - وأحترم نبيه محمد والقرآن العظيم، وقولوا لهم أيضا: إن جميع الناس متساوين عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم بعض فهو العقل والفضايل والعلوم فقط، وبين المماليك ما العقل والفضل والمعرفة التي تميزهم عن الآخرين وتستوجب أن يتملكوا وحدهم كل ما تحلو به حياة الدنيا، حيثما يوجد أرض مخصبة فهي للمماليك، والجوار الجمال والحلل الحسان والمساكن الأشهى فهذه كلها لهم خاصة، فإن كانت الأرض المصرية التزام للمماليك فليوردوا الحجة التي كتبها لهم الله رب العالمين، هو رءوف وعادل على البشر، بعونه - تعالى - من اليوم وصاعدا لا يستثنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعقلاء والفضلاء والعلماء بينهم سيدبروا الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها، سابقا في الديار المصرية كانت المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما زال ذلك إلا لطمع وظلم المماليك.
أيها القضاة والمشايخ والأيمة ويا أيها الشورباجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية أيضا مسلمين خالصين، وإثباتا لذلك قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا بها كرسي البابا الذي كان دايما يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكوليرية الذين كانوا يزعمون أن الله يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت كانوا محبين الخاص لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه أدام الله ملكه، وفي الخلاف المماليك امتنعوا من طاعة السلطان، غير ممتثلين إلى أمره، فما طاعوا أصلا إلا لطمع نفوسهم، طوبى ثم الطوبى إلى أهل مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، وينصلح حالهم وتعلا مراتبهم، طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم، غير مبالين لأحد من الفريقين المحاربين إن يعرفونا بالأكثر يسرعون إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يتحدوا مع أوليك المماليك، ويساعدوهم في الحرب علينا، فما يجدوا طريق الخلاص، ولا يبقى لهم آثار.
المادة الأولى:
جميع القرى القريبة ثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها العسكر الفرنساوي ترسل للساري عسكر بعض وكلاء؛ لكيما يعرفوا المشار إليه أنهم أطاعوا ونصبوا السنجق الفرنساوي، الذي هو أبيض وكحلي وأحمر.
صفحه نامشخص
المادة الثانية:
كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار.
المادة الثالثة:
كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي الواجب عليهم نصب السنجق الفرنساوي، وأيضا نصب سنجق السلطان العثماني محبنا، أدام الله بقاه.
المادة الرابعة:
المشايخ في كل بلد يختموا حالا جميع الأرزاق والبيوت والأملاك؛ متاع المماليك، وعليهم الاجتهاد الزايد؛ لكي لا يضيع أدنى شيء منها.
المادة الخامسة:
والأيمة أن يلازموا وظايفهم، وعلى كل من أهل البلد أن يبقى في مسكنه مطمئنا، وكذلك تكون الصلاة قائمة في الجامع على العادة، والمصريون بأجمعهم يشكروا فضل الله - سبحانه وتعالى - لانقراض دولة المماليك قائلين بصوت عال: أدام الله - تعالى - إجلال السلطان العثماني، أدام الله - تعالى - إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح الله حال الأمة المصرية.
الواجب على المشايخ والقضاة تحريرا في عسكر إسكندرية، في ثلاثة عشر من شهر مسيدور سنة ست من إقامة الجمهور الفرنساوي؛ أعني أواخر شهر محرم سنة 1213 هجرية.
ثم إنه توجهت تلك الفرمانات إلى الديار المصرية، وفي ثاني الأيام أرسل أمير الجيوش بونابارته العساكر من الإسكندرية إلى دمنهور وبندر رشيد، وعندما بلغ أهالي رشيد قدوم الفرنساوية خرج إلى لقاهم علماء وأعيان البلد فسلموهم البندر خوفا من الضرر، وتسلم بندر رشيد الجنرال منو حاكما به، وهذا الجنرال كان بطلا من الأبطال الكبار.
صفحه نامشخص
وكنا ذكرنا أن السيد محمد كريم قد أخبر مراد بيك بذلك البلاء العظيم والخطب الجسيم، ولما وصلت النجابة إلى مصر، وأخبروا مراد بيك بقدوم الفرنساوية إلى مدينة الإسكندرية؛ طرح الكتاب من يده، وصاح على عساكره وجنده، واحمرت عيناه واضطرمت النار في أحشائه، وأمر بإحضار الخيل للركوب، وسار إلى منزل إبراهيم بيك على ذلك الأسلوب، وشاع الخبر واضطربت البشر، وهاجت تلك الأمم على ساق وقدم، وحل في القوم الأسف والندم، واجتمعت الكشاف والأمراء والأشراف لقصر إبراهيم بيك بلا خلاف، وحضر باكير باشا من القلعة السلطانية إلى المعنية، وحضروا جميع السناجق والأعيان؛ مثل إبراهيم بيك الكبير، ومراد بيك الكبير، ومصطفى بيك الكبير، وأيوب بيك الكبير، وإبراهيم بيك الصغير، ومراد بيك الصغير، وسليمان أبو دياب، وعثمان بيك الشرقاي، ومحمد بيك الألفي، ومحمد بيك المنوفي، وعثمان بيك البرديسي، وعثمان بيك الطبجي، وقاسم بيك المسكوبي، وقاسم بيك أبو سيف، وقاسم بيك أمين البحر، والأمير مرزوق بن إبراهيم بيك الكبير، وعثمان بيك الطويل، وشروان بيك، وحضر من العلماء الشيخ محمد الساده، والشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ خليل البكري، والسيد عمر نقيب الأشراف، والشيخ العربي، والشيخ محمد الجوهري، وأما العلماء الصغار فلا نقدر نعدهم لكثرتهم.
فهؤلاء السناجق المذكورين مع العلماء المشهورين والوزير السلطاني باكير باشا العثماني عقدوا الديوان، وحضرت السبع أوجاقات وعدة من الأغاوات، وجملة من العوام أرباب الصوت والكلام، وبدوا يتداولون بأمر الفرنساوية ودخولهم إلى الإسكندرية، ويستغربون من هذا الخطب المهول والأمر المجهول، فأمير اللواء مراد بيك بما أنه عارف أن خاطر الدولة العلية متغير عليه؛ فالتفت إلى الوزير وقال له: إن هؤلاء الفرنساوية ما دخلوا على هذه الديار إلا بإذن الدولة العثمانية؛ ولا بد الوزير عنده علم بتلك النية، ولكن القدرة تساعدنا عليكم وعليهم، فأجابه الوزير: لا يجب عليك أيها الأمير أن تتكلم بهذا الكلام العظيم، ولا يمكن أن دولة بني عثمان تسمح بدخول الفرنساوية على بلاد الإسلامية، فدعوا عنكم ذلك المقال وانهضوا نهوض الأبطال، واستعدوا للحرب والقتال، ثم اتفق رأيهم أن يسجنوا القنصل والتجار الموجودين من الفرنساوية في مصر القاهرة؛ خوفا من الخون والمخامرة، وسجنوهم جميعا في قلعة الجليلة، وبعد ذلك اتفق الجميع الكبير منهم والوضيع على القتال والصدام، وأن مراد بيك يسير في العساكر المصرية لملاقاة الفرنساوية عند دمنهور، وإبراهيم بيك الكبير وباكير باشا الوزير مع بقية العساكر والقواد والدساكر يقيمون في المدينة، وكان قد هاج أكثر العلماء والأعيان وقالوا: لا بد نقتل بالسيف جميع النصارى قبل أن نخرج لا حرب الكفار، وقال الوزير وشيخ البلد إبراهيم بيك: غير ممكن أن نسلم إلى هذا الغرم والرأي؛ لأن هؤلاء رعية مولانا السلطان صاحب النصر والشان، وأما النصارى فوقع عليهم وهم عظيم وخوف جسيم، وبدوا الإسلام يتهددوهم بالقتل والسلب، ويقولوا لهم: اليوم يومكم قد حل قتلكم ونهبكم وسلبكم، وكانت مدة مهولة مرعبة ونار ثايرة ملهبة، ولكن بالمراحم المولى - عز شانه - إذ إنه قد عطف وحنن عليهم قلب الوزير وشيخ البلد، وكانوا في كل يوم يرسلوا إليهم سليم أغا أغة الإنكشارية حالا؛ يطمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ويطلق المناداة في كل البلد على حفظ الرعايا وعدم المعارضة لهم.
فلنرجع إلى ما كنا في صدده؛ وهو أن مراد بيك جمع الفرسان والغز والعربان وأهل تلك الأطراف، ما ينوف عن عشرين ألف مقاتل من كل فارس وراجل، وسار في العساكر كالبحور الزواخر نهار الجمعة إلى أرض الرحمانية، وهي بلاد بالقرب من رشيد، وكان قد أرسل الجبخانات والذخاير مع عسكر كريد في بحر النيل، وكان صحبتهم علي باشا الجزام، الذي كان مطرودا من جزاير الغرب ومقيما في مدينة مصر، وناصيف باشا بن سعد الدين باشا العظم مطرودا من الدولة، فهؤلاء كانوا ملتجيين إلى مراد بيك في ذلك الوقت، فأرسلهم مع الذخاير والجبخانات، وسار مراد بيك مع العساكر على شاطئ النيل أمامهم، وعندما وصلوا إلى أراضي الرحمانية فقابلوا الجيوش الفرنساوية قادمين كالسيل القاطر، وكانت غلايطهم سايرة تجاههم بحرا، وعندما نظروا الغلايط إلى تلك المراكب التي بها الذخيرة، فتجاروا إليهم ووقع الكون بينهم، وأرموا بعضهم بالمدافع والقنابر، فسقطت إحدى القنابر على المركب الذي كانت به الجبخانة فطار البارود، واحترق المركب والذي بقربه من المراكب، وكانت الناس تتطاير بالجو كالطيور، ووصلت إلى الجبخانة التي على البر فشعلت فيها، وانوعرت العساكر لما شاهدت تلك النار، واستفئلوا من الانكسار، وأيقنوا بالعدم والدمار، وفي ذلك الوقت دهمتهم العساكر الفرنساوية، وأنزلت بهم البلية، فولت العساكر المصرية مدبرين، وإلى النجاة طالبين، ولا زالوا راجعين وفي مسيرهم مجدين إلى أن وصلوا إلى محل يقال له الجسر الأسود، وأقاموا هناك في غاية الذل والنكد، فهذا ما كان من مراد بيك وذلك التدبير، وما أصابه عسكره من الذل والتدمير.
وأما ما كان من باكير باشا وإبراهيم بيك الكبير؛ فإنهم بعد مسير مراد بيك نزلوا إلى بولاق ونصبوا الخيام والوطاق، وابتدوا يبنوا المتاريس على شاطئ النيل، وعندما أتتهم الأخبار بما قد حصل بعساكر مراد بيك من الدمار والانكسار من الأعداء الكفار الفرنساوية الأشرار، فتقطعت ظهورهم وحاروا في أمورهم، ووصلت الأخبار إلى مصر، فكان يوما مهولا، وقامت أهالي البلد بالسلاح والعدد وتهددوا النصارى وصاحوا: اليوم قد حل قتلكم يا ملاعين، وصرتم غنيمة للمسلمين، ثم أرسل إبراهيم بيك إلى مراد بيك أن يحضر إلى إمبابة تجاه بولاق، ويبنوا المتاريس على شاطئ البحر، ويضعوا المدافع، ويبقى إبراهيم بيك وعسكره في بولاق، ومراد بيك وعسكره في إمبابة تجاه بعضهما والبحر بين الجهتين؛ احتسابا بأن الفرنساوية إذا أتوا بحرا يتلقاهم إبراهيم بيك، وإذا أتوا برا يتلقاهم مراد بيك.
وفي نهار الجمعة سادس عشر يوم من شهر صفر صعدت علماء مصر وعامة الناس إلى القلعة السلطانية، وأحضروا البيراق النبوي بضجيج عظيم واحتفال جسيم، وأتوا به إلى مدينة بولاق، وهم يموجون كالبحر الدفاق، وجميع تلك الأقاليم في الوجل العظيم، ويضجون بالدعا المستديم إلى الرب الكريم، وقد صعدوا إلى المنابر، وفتحوا المصاحف وهم في غاية المخاوف، ونهار السبت سابع عشر صفر أقبلت الجيوش الفرنساوية برا وبحرا، وتقدمت العساكر المصرية، واستعدوا لحرب الفرنساوية، وقرعوا طبول الحرب ووطدوا نفوسهم على الطعن والضرب، وتقدم إلى المحاربة الجبار العنيد والمعد في الحرب بألف صنديد الجنرال دبوي، فتلاطما العسكران وتصادما الجيشان، وتهاجمت الشجعان وفر الجبان وبان القوي من الجبان، وجادت العربان وتقدموا إلى الضرب والطعان، وتجارت الفرسان إلى حومة الميدان، وعجت بالمناداة: اليوم يوم المغازاة، ثم انقضت السناجق كانقضاض البواشق بالسيوف البوارق والرماح الخوارق والخيول السوابق، وأطلقوا المدافع كالصواعق، وثار العجاج وزاد الهياج.
وقد هجم في ذلك الوقت البطل المغوار والأسد الهدار أيوب بيك الدفتردار، وقحم بحصانه وسط الغبار، وصاح في الأعداء: ويلكم يا لئام! ساقكم الغرور لفتح هذه الثغور، اليوم نملي منكم القبور، ونجعله عليكم يوما مشهور، وفي مثل هذا الأوان تبان الشجعان وتبلغ المنازل العالية الفرسان، وتكسب الحمد والثناء، فمن مات منا احتوى بالجنان، ومن عاش ربح من دون خسران، وكان بدنياه سعيد، ومن مات راح بالله شهيد، ولما طال الحرب واشتد البلاء والكرب، ودام الطعن والضرب، فعند ذلك الوقت قرعت الفرنساوية الطبول النحاسية، وهجم ذلك البطل الذي ذكره تقدم الجنرال دبوي المعظم، ولا زالوا يلتقون الكلل في صدروهم، ويدوسون مجروحهم ومقتولهم، حتى ملكوا المتاريس، وكان ذلك على الغز أنكيس، وبدوا يطلقون المدافع على الإسلام ويورثوهم مواريث الإعدام، وجادت الإفرنج في القتال لما ملك دبوي المتاريس.
وكانت الإفرنج ثلاثين ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، وكان كل من هؤلاء الصلدات في كل دقيقة يطلق الرصاص سبع دفعات، فعند ذلك صاحت الغز: الفرار الفرار من حرب هؤلاء الكفار، وولت العربان وانهزمت الشجعان، وإذ ضاق عليهم ذلك السبيل؛ ألقوا أرواحهم في بحر النيل، فما سلم منهم إلا القليل، وكان قد سقط قتيل وداسته الخيل ذلك الجبار والأسد المغوار أيوب بيك الدفتردار، ولم يبان له علائم ولا آثار، بعد أن قتل جمعا غفير وثبت قدام تلك الجماهير.
وأما مراد بيك فر في رجاله وأبطاله، طالب النجاة لنفسه العزيزة ودخل إلى الجيزة، وقد أحرق مركبه الكبير الذي كان أنشأه؛ خوفا ليلا تكسبه أعداؤه، ثم سار نحو الصعيد.
وكان باكير باشا وإبراهيم بيك حين انهزموا من بولاق، وقلوبهم بنار الاحتراق ودمعهم ينحدر من الآماق، وقلوبهم مغترمات بالحسرات وهم يتأسفون على ما فات، ثم أخذوا أعيالهم ورجالهم وخرجوا من المدينة من باب النصر قاصدين البرية والديار الشامية، وبقت بقية أهل القاهرة تلك الليلة بمخاوف وافرة، وعند الصباح اجتمع القاضي والأعيان وقالوا: إن الحكام ولت وأحوالهم اضمحلت، فالتسليم لنا أصلح، وحقن دماء الإسلام أوفق وأربح.
وقد كنا ذكرنا أن القنصل والتجار الفرنساوية تحت اليسق في قلعة الجبل، فأحضروهم وطلبوا منهم أن يسيروا معهم إلى بولاق ويأخذوا لهم الأمان، فأشار عليهم القنصل أن يتوجه اثنان من التجار ومحمد كتخدا إبراهيم بيك، وساروا إلى بر إمبابة، وفي وصولهم تقدموا إلى مقابلة الجنرال دبوي، وترحب بهم، وسألهم عن أحوال مدينة، وما هو مراد أهلها، فقالوا له: إن الحكام ولت والرعية ذلت، وقد أتينا من قبل علماء البلد والأعيان نطلب لهم الأمان، فأجابهم الجنرال دبوي: من ألقى سلاحه حرم قتاله، فلهم مني الأمان ومن أمير الجيوش ومن كل من في هذا المكان، وإنما يلزمكم في هذه الليلة ترسلوا المعادي والقوارب؛ لننقل بهم العساكر؛ لأن مرادي في هذه الليلة أدخل البلد، ثم رجعوا محمد كتخدا والتجار وأعلموا العلماء بتلك الأخبار، فأمرت العلماء والحكام البلد حالا بمسير القوارب والمعادي إلى بر إمبابة، ونزل الجنرال دبوي بماية وخمسين صلدات إلى بولاق حيث كانت العلماء بذلك الاتفاق، وحين تقابلوا أعطاهم الأمان، وساروا قدامه بالمشاعيل إلى أن دخلوا المدينة، والمنادية تنادي أمامه بالأمان على الرعية والأعيان، وجلس الجنرال دبوي في منزل إبراهيم بيك الصغير، وأرسل بعض الصلدات تسلمت قلعة السلطان، واتقدت تلك الليلة النار بمنزل مراد بيك، وكان ذلك من الذين ينهبون وهم من أولاد البلد، فنهض الجنرال دبوي وأطفأ تلك النار.
صفحه نامشخص
وعند الصباح في تاسع صفر نهار الإثنين ابتدأت تنتقل العساكر من بر الجيزة وإمبابة إلى مصر، فعندما قدم أمير الجيوش بونابارته فخرجت العلماء والأعيان والنصارى والإسلام لملتقاه، وكان يترحب بهم ويلتقيهم بالبشاشة والإكرام، ويوعدهم بالخير والنظام، ثم أمر أن يفرشوا له منزل بقرب النيل، ففرشوا له منزل محمد بيك الألفي الكاين على شاطئ بركة اليزبكية، ونزل كبير الأقباط المتسلمين الأقاليم المصرية؛ وهو جرجس الجوهري، وباشر بفرش المنزل، وفي يوم الثلاثة دخل أمير الجيوش ونزل بذلك المنزل، ودخلت جميع تلك العساكر التي ليس لها أول من آخر.
وأمر أمير الجيوش أن جميع أهالي مصر يضعوا على رءوسهم أم صدورهم علامة المشيخة وهذا النشان، هو من الحرير الأبيض والكحلي والأحمر قدر زهرة الورد، وقد وضعتها جميع الناس من الرجال والنساء وأطلق المناداة: أن كل من دخل من دون علامة يجب له القصاص، وحين دخلت العساكر الفرنساوية كانوا ينهبون من بيوت الغز والمماليك، فأمر أمير الجيوش برفع النهب، وكانت الغز قد دفنت أموالها تحت الأرض ولم يبق سوى الفرش والأمتعة، وقد نهبت أهالي المدينة منهم شيء كثير، وفي 12 ارتفع النهب واطمأنت الناس في أماكنها، فهذا ما كان من دخول الفرنساوية.
وأما إبراهيم بيك وباكير باشا؛ فإنهم بعد خروجهم من مصر ساروا إلى مدينة بلبيس وهم في الذل والتعكيس، وأما مراد بيك فسار إلى أراضي الصعيد، وفارقت الغز الكنانة وبليوا بالذل والإهانة، وقد وقعوا بالشتات والخبال، وانتهب أموالهم وسبيت أعيالهم، وناحوا على فراق مصر وتفرقهم في كل قطر، وأرموا من رءوسهم القواوين الصفراء، ولم يبق القووق الأصفر في مملكة مصر آثار، وذاقوا من الغربة أمر كاس وبقوا كعامة الناس.
وكان أمير الجيوش بونابارته بعد دخوله إلى أرض مصر أحضر تجار ديوان البهار المعروف بديوان البن الوارد من الأقطار، وطلب منهم ألف وستماية كيس، وطلب من الأقباط المباشرين الدواوين ألف وستماية كيس، ومن تجار النصارى ثمانماية كيس، وتسلم تلك الأربعة آلاف كيس في ستة أيام، وأوعدهم بوفائها عندما يروق الحال ويتسع المجال.
وبعد ذلك ابتدأ في النظامات في مدينة مصر كما يأتي ذكره، فأحضر أولا خمسة أنفار من العلماء الكبار؛ وهم الشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري، والشيخ مصطفى الضاوي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ سليمان الفيومي، وأحضر معهم اثنين من الأوجاقات وواحد من التجار؛ وهم علي كتخدا باشي، ويوسف شاوش باشي، والسيد أحمد المحروقي، وأفرز إلى هؤلاء محلا معينا، وعين لهم علايف شهرية، وأقامهم رؤساء في ديوان خصوصي، وكانوا في كل يوم يجتمعون، وأقام معهم رجلا فرنساويا مترجما من اللغة الفرنساوية إلى اللغة العربية.
ثم إن أمير الجيوش بونابارته رتب ديوانا ثانيا سبعة أنفار من التجار، ومعهم رجلا فرنساويا مترجما؛ وذلك ليكون ديوان البحر، وأفرز لهم محلات معلومة لاستماع دعاوى التجار والمتسببين، وأحضر أمير الجيوش محمد كتخدا المسلماني، فهذا كان أصله أرمنيا وأسلم وترقى في زمان المماليك إلى أن صار كتخدا إبراهيم بيك الصغير الذي غرق في النيل يوم الحرب، فجعل هذا الرجل أغة الإنكشارية، وأحضر أيضا رجلا من الأوجاقات وجعله على الاحتساب، وأحضر أيضا رجلا يسمى علي أغا وجعله واليا على البلد، ثم أمر أمير الجيوش بأن تفرز محلات معينة لأجل المطابع التي أحضرها معه من رومية، وهي تطبع بجميع اللغات كما قدمنا ذكره، وجعل لذلك محلات على شاطئ اليزبكية.
ثم إن أمير الجيوش قسم البلد خطوطا، وجعل لكل خط حاكما فرنساويا، وكانت الولاة من الفرنساوية واقفين على باب المدينة ليلا ونهارا، وخارجا إلى حدود بولاق وإلى حدود الجيزة، وانقطعت جنس اللصوص والخطافين والعربان والسراقين، وكانت حكام الخطوط في كل سبة يطلقون المنادات على الرعايا بكناسة الطرقات والشوارع ورش الماء لأجل النضافة ونظام الطرقات، ورسموا أن على كل باب بيت أو باب وكالة يكون قنديلا شاعلا كل الليل، وكانت حكام الخطوط تدور في الليل فكل باب لم يجدوا عليه قنديلا فكانوا يضربون عليه مسمارا، وفي الغد يقع على صاحبه القصاص وكانت المدينة تضيء في الليل كالنهار.
ثم إن أمير الجيوش أحضر مصطفى أغا كتخدا باكير باشا وآمنه وألبسه فروا، وجعله أمير الحاج، وأمره أن يباشر لوازم الحاج وما يحتاج إليه، وقال: لماذا الوزير فر هاربا مع المماليك؟ ألم يعلم أننا متحدين مع الدولة العثماينة؟ ونحن ما حضرنا إلى هذه الأمصار إلا بالإذن من السلطان سليم والاختيار، ثم أمر إلى مصطفى أغا أن يحرر إلى باكير باشا بأن يرجع إلى القلعة، كما كان وله الكرامة والأمان، ورجع مصطفى آغا من أمامه وهو منشرح الصدر مستغربا هذا الأمر.
ثم إن أمير الجيوش شغل الضربخانة في القلعة، كما كانت، وأمر أن يضع اسم السلطان سليم حسب العادة، وأمر أيضا أمير الجيوش أن يفرزوا محلات للمرضى والمجروحين المعروف بالاسبستار، وأفرزوا لذلك قصر المعنى الذي على شاطئ النيل بين القاهرة ومصر القديمة، فجعلوا أماكن لأجل صنع الأدوية، وأقام هناك رئيسا للأطباء ورئيسا للجرايحية.
وبعد ذلك أمر أمير الجيوش بونابارته بتفريق الجنراليات على الأقاليم المصرية، فأقام الجنرال ديزه على إقليم بلاد الصعيد، وكان هذا الجنرال برج مشيد وبطل عنيد، ثم أقام الجنرال مورا وكان من الأبطال الشداد، وقلده أحكام إقليم القلوبية، وكان شابا بالسن بديعا بالحسن، ثم أقام الجنرال لانوس الرجل الوديع المانوس، وكان خبيرا بالحروب ومقداما على الشدايد والخطوب، وقلده إقليم المنوفية من الجهة الغربية، ثم أحضر الجنرال دكا الحسن السورة صاحب الوقايع المشهورة، وقلده أحكام المنصورة، وهي بلد مشهورة، وإقليمها واسع وبرها شاسع.
صفحه نامشخص
ثم أحضر الجنرال ويال وكان حميد الخصال وبطلا من الأبطال، وأرسله إلى مدينة دمياط، وصحبته ثلاثماية نفر صلدات، وسار بسرعة ونشاط إلى أن دخل البلد، فالتقوه العلماء والأعيان وأعطاهم الأمان، ثم نظم إقليم دمياط أحسن مما كان، أما ذاك البطل العنيد والليث الصنديد صاحب العز والنصر المشيد، الذي كان بين تلك الجيوش فريد الجنرال دبوي؛ فإن أمير الجيوش أقامه شيخ البلد مكانا إبراهيم بيك؛ لأن ذاك الانتصار وفتح تلك الأمصار كان عن يد هذا الجبار، ثم إن أمير الجيوش أحضر أحد الكوميسارية الكبار المسمى بوسلنج، وقلده معاطاة الأقلام الميرية وضبط مداخيل الأقاليم المصرية، وأقامه في بيت الشيخ البكري الكاين في بركة اليزبكية، وكان المصريون يدعونه الوزير أي وزير المشيخة الفرنساوية، وارتقى هذا إلى رتبة علية، وكان عالما بعلم الحسابات كاملا بجميع الصفات، ولفظة كوميسارية هم الذين لا يتعلقون بأمور الحرب، بل في معاطاة الكتابة والحسابات والصنايع وما ماثل ذلك.
ثم إن بونابارته أقام خزندار إلى المشيخة أحد الكوميسارية المدعو استيفو، وهو كان عالما بعلم الحسابات وجميع الأمور تصل إليه، ثم أمر أمير الجيوش أن العلماء الفرنساويين والفلاسفة يسكنون في البيوت التي إلى قاسم بيك وحسن بيك وما حولهم من بيوت الكشاف، التي هي في باب الناصرية النافذة إلى مصر العتيقة، ثم إن أمير الجيوش بونابارته أمر أن يفرزوا محلات معينة خارجا من المدينة بحفظ الكرنتنا، وكذلك في مدينة الإسكندرية، ثم في مدينة رشيد، ثم لمدينة مصر تكون الكرنتينا في بولاق، ثم لمدينة دمياط فتكون الكرتينا في مدينة القربة، وشرعوا في بناية المحلات المعلومة؛ وذلك لمنع رايحة الطاعون المسمومة، كما جرت العادة في بلادهم.
ثم إن أمير الجيوش من بعد ما رتب الترتيب المقدم ذكره، أخذ جانب من العساكر وسار بهم قاصد مدينة بلبيس؛ لمحاربة الوزير باكير باشا وإبراهيم بيك، وخرج في شهر سفر، وحين قارب مدينة بلبيس بلغه أن الباشا وإبراهيم بيك هربوا إلى الصالحية، فتبع أثرهم، وهناك التقت بهم خيالة الإفرنج وهجمت عليهم في تلك المرج، وابتدأ الحرب واشتد البلاء والكرب، وإذ كانت الفرنساوية على الخيل لا يستطيعون مقاومة الغز المصريين، فرجعوا عنهم مكسورين، فمات منهم جملة مقتولين، ولما وصل الخبر إلى أمير الجيوش فسار في الحال، وحين بلغ الغز قدومه فولوا منهزمين، ولم يزالوا سايرين إلى أن وصلوا لمدينة غزة، ورجعت العساكر الفرنساوية إلى مصر وهم مايدين بالسعد والنصر.
وبعد ذلك ابتدأ إبراهيم بيك يحرر إلى الأقاليم المصرية، ويحثهم على القيام على الفرنساوية، ويستخرج لهم البيورلديات من الجزار وباكير باشا، وكان جميع الغز يهيجون العربان والفلاحين على العصاوة والقيام ضد الفرنساوية، فأحضر أمير الجيوش بونابارته أمراء الديوان، وهم المقدم ذكرهم ، وشرح لهم السبب الداعي إلى حضورهم لتلك الديار، وأن ذلك باتفاق مع الدولة العثمانية، وأن الدولة الفرنساوية مساعدة إلى الدولة العثمانية على قهر الدولة المسكوبية وصدها عن مطلوبها المبين، واسترجاع ما تولوا عليه بالتغلب من بلاد المسلمين، وكتب لهم صورة كتابات أن يطبعوها بالعربية، ويرسلوها إلى الأقاليم المصرية، ففعلوا ما أمرهم به من المامورية، وهذه صورة كتابات من العلماء مصر والأعيان إلى الأقاليم وإلى البلدان:
نخبركم يا أهل المداين والأمصار، وسكان الرياف والعربان، كبارا وصغارا أن إبراهيم بيك ومراد بيك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات إلى ساير الأقاليم المصرية؛ لأجل تحريك الفتن بين المخلوقات، ويدعوا أنها من حضرة مولانا السلطان ومن بعض وزرائه، وذلك كله كذب وبهتان؛ وسبب ذلك أنه حصل لهم شدة الغم والكرب والهم، واغتاظوا غيظا شديدا من علماء مصر ورعاياهم؛ حيث ما وافقوهم على الخروج معهم وترك أعيالهم وأوطانهم، وأرادوا أن يوقعوا الفتن والشر بين الرعية والفرنساوية لأجل خراب البلاد وهلاك كل الرعية والعباد؛ وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزايد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية، ولو كانوا في هذه الأوراق صادقين وأنها من حضرة سلطان السلاطين لكان أرسلها جهارا مع أغاوات من طرفه معينين.
ونخبركم أن الطايفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوايف الإفرنجية دايما يحبون المسلمين وملتهم، ويبغضون المشركين وطبيعتهم، وهم أحباب لمولانا السلطان قايمين بنصرته، وأصدقاء له ملازمين لمودته ومعونته، ويحبون من والاه ويبغضون من عاداه، وكذلك بين الفرنساوية والمسكوب غاية العداوة الشديدة؛ لأجل عداوة المسكوب للإسلام وأهل الموحدين، وأعلمهم أن المسكوب يتمنى الأخذ لإسلامبول المحروسة، ويعمل أنواع الحيل والدسايس المعكوسة في أخذ ساير الممالك العثمانية الإسلامية، لكنه لا يحصل على ذلك بسبب اتحاد الفرنساوية وحبهم وإعانتهم إلى الدولة العلية، ويريدون يستولون على أياصوفية وبقية المساجد الإسلامية ويقلبوها كنايس للعبادة الفاسدة والديانة القبيحة الردية، والطايفة الفرنساوية يعينون حضرة مولانا السلطان على أخذ بلادهم إن شاء الله، ولا يبقون منهم بقية.
وننصحكم يا أيها سكان الأقاليم المصرية أنكم لا تحركوا الفتن ولا الشر بين البرية، وإياكم تعارضوا العساكر الفرنساوية بشيء من أنواع الأذية؛ فيحصل لكم الضرر والبلية، فإذن لا تسمعوا كلام المفسدين، ولا تطيعوا كلام المصرفين بالفساد في الأرض الغير مصلحين؛ فتصبحون على ما فعلتم نادمين، وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكل الملتزمين؛ لتكونوا في أوطانكم سالمين، وعلى أعيالكم وأموالكم آمنين؛ لأن حضرة السرعسكر الكبير أمير الجيوش بونابارته اتفق معنا أنه لا ينازع أحدا على دين الإسلام، ولا يعارضنا فيما شرع من الأحكام، ويرفع عن ساير الرعية الظلم، ويقتصر عن أخذ الخراج، ويزيل ما أبدعته الظلمة من المغارم، ولا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد، وارجعوا إلى مالك الممالك وخالق العباد، فقد قال نبيه ورسوله الأكرم: «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم.» عليه أفضل الصلاة والسلام.
الداعي لكم الفقير
السيد خليل البكري نقيب الأشراف عفي عنه
الداعي لكم الفقير
صفحه نامشخص
عبد الله الشرقاوي عفي عنه
الداعي لكم الفقير
مصطفى الضاوي عفي عنه
الداعي لكم الفقير
محمد المهدي الخفناوي الشافعي عفي عنه
الداعي لكم الفقير
محمد الأمير مفتي المالكي عفي عنه
الداعي لكم الفقير
أحمد العريشي عفي عنه
الداعي لكم الفقير
صفحه نامشخص
سليمان الفيومي المالكي عفي عنه
الداعي لكم الفقير
محمد الدواخلي الشافعي عفي عنه
الداعي لكم الفقير
موسى السرسي الشافعي عفي عنه
الداعي لكم السيد
مصطفى الدمنهوري عفا الله عنه
ثم إن أمير الجيوش بعد ما طرد إبراهيم بيك وباكير باشا في شهر سفر، ورجع إلى مصر، أحضر القنصل كارلو وأمره أن يتوجه إلى مراد بيك في الصعيد، ويتكلم معه أن يقدم الطاعة إلى أمير الجيوش، ويكون عضوا من أعضاء المشيخة، ويتقلد أحكام مدينة جرجة وأعمال الصعيد، ويكتسب راحته وراحة البلاد والعباد، ويكون له الأمان، فسار القنصل إلى مراد بيك بذلك الخطاب، وفي وصوله ترحب به مراد بيك غاية الترحيب، وقابله مقابلة الحبيب؛ لأن كان هذا القنصل له مدة مستطيلة في مصر وكان محبوبا من ساير السناجق ولا سيما من مراد بيك، وكان له عنده مبلغ من المال، ثم إن مراد بيك سأله مستخبرا عن أحوال مصر، فأخبره القنصل بكل ما دبره أمير الجيوش، ثم قال له: إن بونابرته أرسلني إليك لأجل الاعتماد على إجراء الحب والوداد، وأن تحقن دما العباد وتكتسب راحة البلاد، فقال مراد بيك إلى القنصل: ارجع وقل له يجمع عساكره ويرجع إلى الإسكندرية، ويأخذ منها مصروف عسكره عشرة آلاف كيس، ويكسب دما أجناده ويريحنا من كفاحه وجلاده، فرجع القنصل إلى مصر، وأخبر بونابرته بما سمعه من مراد بيك، فغضب أمير الجيوش من ذلك، وفي الحال أمر الجنرال ديزه المعين على إقليم الصعيد بأن يسير بالعساكر إلى حرب مراد بيك، فأخذ الجنرال أربعة آلاف مقاتل وسار بها إلى الصعيد.
فنرجع أن أمير الجيوش بونابرته في ابتداء قدومه أخرج العساكر من المراكب إلى البرية في ثغر الإسكندرية، وأمر إلى سرعسكر البحر أنه يبقى مقيما في البوغاظ لحماية الحصون؛ لأنه قد احتسب إن لم يتوفق له فتوح مصر، فيحتاجوا إلى العمارة، وأوصاه أن لا يلقي مراسيه في المينا، بل دايما يطوف أمام إسكندرية وهو مشرع القلوع، ثم بعد أن أمير الجيوش فتح مصر، أرسل إلى السرعسكر نجابا يأمره بالقيام، وقيل إن ذلك النجاب مات في الطريق، ثم أرسل له نجابا ثانيا فلم يصله من العربان.
وكان السرعسكر أرمى مراسيه في مينة أبوقير واطمأن، وكانت مراكبه الكبار الحربية ثلاثة وعشرين مركبا، ومنهم مركب عظيم وهو المدعو بنصف الدنيا، وكان محموله ماية وثمانون مدفعا، وفيه ألف من العساكر، وكان فيه أموال جزيلة وذخاير ثمينة، أسلبوها من تلك الممالك التي تملكوها كما قدمنا ذكرها، وعندما كانت تلك العمارة رابطة في البوغاظ وغافلة عن الإيقاظ، فدهمتهم مراكب الإنكليز على بغتة، وبدوا يطلقون عليهم القنابر والمدافع، واشتد عليهم الحرب يوما وليلة، فاحترق من تلك العمارة العظيمة أربع مراكب كبار، ومنهم تلك السفينة العظيمة والقلعة الجسيمة المسماة بنصف الدنيا، واستمرت تتقد في البحر أربعة أيام، ومات من فيها من العسكر وسرعسكرها الذي بسوء تدبيره قد هلك وأهلك معه نفوسا كثيرة، واحتوت الإنكليز على أكثر تلك المراكب، واستأسرت من فيها من العساكر، وأكثرهم هلكوا من ضرب المدافع والقنابر، ولما وصل ذلك الخبر المريع والخطب الشنيع إلى أمير الجيوش، فصار كالمدهوش، وصفق بكفه ودب برجليه، واحمرت مقلتاه، وتسخط على ذلك الجنرال لعدم إطاعته والامتثال، وقال: جزاه ما حل به من الوبال، وصاحت الفرنساوية: يا لها من بلية، لقد خابت الآمال وهلكت الرجال، وذهب الحال والمال، لقد امتنع عنا الإمداد وخرمت علينا البلاد، وشمتت بنا الأعداء والحساد، وطمعت بنا الإسلام وزاد علينا الخصام، وكان ذلك بدأ الإنكيس وأول التعكيس، وقد أيقنت الفرنساوية بالتهلكة بعد كسب المملكة؛ لحجز الإمداد عنهم ونفور الإسلام منهم؛ لأن الفرنساوية قد استعملت احتيالات كثيرة، وسلكوا مسالك غزيرة لأجل الضرورة، كاشتهارهم بالإسلامية ونكرانهم النصرانية، وإظهارهم للحرية وإقرارهم بالاتحاد مع الدولة العثمانية، وأنهم بإذنها دخلوا الديار المصرية، وأنهم مع الإسلام على أخلص طوية وأصلح نية، ويرغبون راحتهم ويحبون ديانتهم.
صفحه نامشخص
وكان الفرنساوية مؤانستهم غريبة وطول أناتهم عجيبة، وكانوا أحسن سلوكا من ساير الجنوس، واشهروا بالأمن وطولة البال، وطيبة النفوس، ونشروا العدل وحسن الأحكام، وقد احتووا الشرايع الحقيقية على التمام، ومع كل ذلك قلوب الإسلام غير آمنة، والأحقاد في ضمايرهم كامنة، ويشتهون لهم المهالك والوقوع في أضيق المسالك؛ فهذا ما ألجأ أمير الجيوش إلى المخافة، فبدأ الاحتيال بحسن الرقة واللطافة؛ لجذب القلوب وتحصيل المطلوب، وكان هذا الأمير المشتهر أسد من الأسود ونادرا في الوجود، رهط من الأرهاط العظام حكيما عليما بمكايد الأيام.
ذكر ما صنعه أمير الجيوش في جريان النيل
إنه من بعد دخول الفرنساوية إلى القاهرة بمدة قليلة جبر النيل السعيد، فأحضر أمير الجيوش علماء الديوان وسألهم عن العوايد في جريان النيل والقوانين، وحررها عنده، ثم أمر بإخراج العساكر من المدينة إلى خارج البلد، وأن يصطفوا صفوفا في مراتبها، وأحضر لديه أعيان المدينة وعلماءها والحكام والتجار من النصارى والإسلام، وركب من منزله الكاين على البركة اليزبكية، وركبوا جميعهم معه، وخرجت أهالي مدينة القاهرة من ساير الملل، وكان موكبا عظيما ومحفلا جسيما يذكر جيلا فجيلا، وفرق مالا غزيرا، وضربت في ذلك النهار مدافع كثيرة من ساير الأماكن ومن القلعة الكبيرة، وصنعت الفرنساوية في تلك الليلة حراقات عظيمة، لم تكن صارت في المدن القديمة، وكان أمان شاملا لكل الناس وتخرج النساء والرجال من دون باس، وصنع أمير الجيوش وليمة عظيمة لساير الأعيان والعلماء وأهل الديوان والجنرالية والفيسالية وحكام الخطوط المصرية، وقد أعجبت أهل القاهرة تلك الأحوال الباهرة والأمور الصايرة.
ذكر ما صنعه أمير الجيوش في مولد النبي الواقع في 12 ربيع أول سنة 1213
إن أمير الجيوش بعد تملكه القاهرة في اثني عشر ربيع أول كان مولد النبي محمد، فصنع في ذلك الأوان مولدا عظيما على بركة اليزبكية، كعادة أهل القاهرة، وكانت ليلة عظيمة؛ لأنه صف جميع العساكر الموجودة داخل القاهرة صفوفا بطبولهم والآلات الموسيقية، وأمر بحراقات عظيمة، وضرب مدافع كثيرة، وكان احتفالا عظيما ومولدا فخيما، وحضر في الوليمة بمنزل الشيخ خليل البكري؛ لأن هذا المولد مختص بالسادات البكرية، وذلك مع كامل الجنرالات والفيسالية والعلماء والأعيان وأصحاب الديوان، ثم أولى الشيخ خليل البكري منصب النقابة عوضا عن السيد عمر مكرم نقيب الأشراف؛ لأنه قد كان هرب مع الغز إلى الشام، وقد كان الشيخ خليل البكري محبا لجمهور الفرنساوية؛ فلأجل ذلك بغضته الإسلام المصرية.
ذكر العيد الذي صنعه أمير الجيوش للمشيخة في ربيع ثاني سنة 1213
إنه حين دخل شهر ربيع الثاني صنعت الفرنساوية عيدا عظيما للمشيخة في البركة اليزبكية، وذلك أنهم اصطنعوا عامودا طويلا مرصعا وغرسوه في البركة اليزبكية، وصوروا عليه صورة سلطانهم وصورة زوجته اللذين قتلوهما في مدينة باريز، ثم جعلوا من العامود إلى البر أخشاب مثلثة الألوان، وصوروا عليها صورة الموقعات التي حدثت في بر إمبابة وفتوح القاهرة، وصورة الأشخاص المحاربين من الفريقين، وصورة أيوب بيك المقتول في هذه المعركة، ومن مات من الغز وانهزامهم، وكل ما تم في هذه المعركة، وكانوا يقولون: إن هذه شجرة الحرية، وأما أهالي مصر كانوا يقولون: إن هذه إشارة الخازوق الذي أدخلوه فينا واستيلايهم على مملكتنا، واستمر هذا العامود نحو عشرة أشهر، وحينما رفعوه استبشرت أهل مصر وابتهجت بالفرح، وكانت الفرنساوية تصنع هذا العيد أينما وجدوا بفرح عظيم في كل سنة.
ذكر أمير الحج لما خرج في الحج قبل دخول الفرنساوية
إنه في سنة 1212 خرج الحج الشريف من مدينة مصر وكان صالح بيك أمير الحج، وبعد رجوعه من الزيارة الشريفة في الطريق وصلت له الأخبار عن دخول الفرنساوية إلى الديار المصرية وخروج الغز، فبكى صالح بيك على خراب أوطانه وتفرق خلانه وذهاب ماله وسبي أعياله، وغاص في بحر الأفكار وخاف من رجوعه إلى تلك الديار، وصار حايرا من تلك المصايب وفرقة الحبايب، وقطع رجاه والأمل ولم يعرف كيف العمل؟ وأخذ بالمشورة مع أصحابه وخلانه، فثبت رأيه أن يتوجه إلى القدس الشريف صحبته المحمل المنيف، ولم يزل سايرا بعزم ضعيف إلى أن وصل إلى القدس الشريف، فحينما شاهدوه أهالي المدينة بدوا يشتمون ويقولون: لعنكم الله يا ملاعين ويا أظلم الظالمين، سلمتم مدينة الإسلام إلى الفرنساوية اللئام، وهربتم من وجه الكفار، وابتديتم تخربوا هذه الديار، فلما سمع صالح بك تلك الشتايم المغمة والألفاظ المسمة، فاتقدت بقلبه النيران، وغاص في البحران، ونزل في منزله وهو مثل النشوان، ومرض جملة أيام من قهره ثم توارى في قبره، وهكذا جرى إلى إبراهيم بيك ولمن معه لما حضروا إلى أراضي الشام، فكانوا يسمعون من الناس غليظ الكلام، وقد ذاقوا المشقة والأتعاب وقضوا الإهانة والعذاب في البراري والقفار من الذل والأضرار، وكانوا أهالي الشام يعيرونهم في الكلام، ويلومونهم وهم لا يستحقون الملام، وما كانوا يدرون ما قاست الغز في الحرب والصدام من الكفرة اللئام، وكانوا يظنون أن الغز هربت من تلك البلدان من دون حرب ولا طعان، ولم يدروا ما جرى عليهم من أوليك الشجعان، فهذا ما كان من الغز بأرض الشام.
وأما ما كان من أمير الجيوش؛ فإن بعد قيام الفرنساوية بمدة طويلة في مصر علموا أن عداوتهم في سراير الإسلام مستكنة؛ فلذلك لم تكن قلوبهم مطمئنة، وكانوا يخشون تسليم كتاباتهم للسعاة من أهل تلك البلاد، فأمر أمير الجيوش بإبطال السعاة من مصر إلى البنادر، وكانوا يرسلون المكاتيب في المراكب، وكانوا يضعون فيها عدة من الصلدات؛ لأن المراكب كانت لأهل تلك البلاد والنوتية منهم، ومن كون أن أهل تلك البلاد عازمين على ضرر الفرنساوية ومهمين على تلك النية، فكانوا يضيعون كثيرا من الصلدات مع الذين يسافرون إلى البنادر، فالتزم أمير جيوش أن يبطل ذلك، ورجع السعاة من أهل البلاد كالمعتاد.
صفحه نامشخص
وقد كنا ذكرنا أن أمير الجيوش حينما تسلم مدينة الإسكندرية قلد السيد محمد كريم لتدبير أمور البلد، كعادة في أيام مراد بيك، ففي ذلك الزمان وقع منه مكاتبة إلى مراد بيك يحثه على الحضور إلى الإسكندرية؛ لكي يسلمه البلد، فلما وصلت تلك المكاتيب إلى أمير الجيوش ففسرهم وفهم ما فيهم، وفي الحال أرسل إلى الجنرال الحاكم في الإسكندرية بأن يقبض على السيد محمد كريم ويرسله له، وحين حضر السيد محمد كريم قدام أمير الجيوش سأله عن تلك الكتابات فأنكر ذلك، فأخرج له إياهم، وحين نظر كتاباته صار مذهولا ولم يعلم ماذا يقول، فأمر أمير الجيوش بإرساله إلى شيخ البلد، وقد أتت العلماء والأعيان يترجونه بإطلاقه، فأجابهم: أن قد عرض أمره على الشريعة وحكمت عليه بالموت، ودفعوا عنه خمسين كيس فلم يقبل ذلك، وقال لهم: إن شريعتنا لا تقبل الرشوة، ولا يقدر أحد أن ينقذه من الموت، حتى ولا أمير الجيوش؛ لأن الشريعة إذا حكمت على أحد بالموت فلا بد له من ذلك، ثم أعرض عليهم تلك الكتابات، وأحضر السيد محمد كريم وقال له: هذا خطك، قال: نعم، ثم رجعه إلى السجن إلى أن انصرفت العلماء، وأمر بأن يمضوا بالسيد محمد كريم إلى ساحة الرملة ويطلقوا عليه الرصاص، وكان وهو ساير ينادي: يا أمة محمد اليوم بي وغدا بكم، وحين قتل كان حزن عظيم عند المصريين، ومن ذلك الوقت تنافرت قلوبهم بالزيادة.
وقد كانت الإنكليز بعد تملكهم عمارة الفرنساوية، قد ربطت عليهم البواغيظ وحاصرتهم في الديار المصرية، فأرسل سرعسكرهم وأعلم ملكهم بذلك الاقتدار، فهاجت المملكة واستبشرت بالانتصار، وهيجوا معهم الدول الإفرنجية، واستنهضوا لمحاربة الفرنساوية، ومن حيث إن الجمهور الفرنساوي قد قهر ساير الممالك الإفرنجية وظفر بهم وسلب أموالهم وتملك منهم مدنا وقلعا حصنية، وذلك ببطش مقدمهم وناشر أعلامهم الفرد الظاهر والليث الظافر أمير جيوشهم بونابرته، وقد ترك في ساير الأقاليم الإفرنجية مخافة قلبية، سيما بعد اطلاعهم على التملك في الديار المصرية، ولكن حين بلغهم ما فعلت بهم الإنكليز، وأن قد ربطت عليهم البواغيظ، فقويت قلوبهم وأملوا بنيل مطلوبهم، فصمموا النية على طرد العساكر الفرنساوية التي قد كان تركها في الأقاليم الإفرنجية، وأشهر الحرب ملك النمسا، واستنهض معه ملك بروسا، ونهضت ممالك إيطاليا مع رومية الكبرى، هذا ما كان، وسيأتي الكلام عنه في غير مكان.
وقد ذكرنا أن الفرنساوية حين تملكوا مالطة أبقوا بها ستة آلاف من العسكر وأصحبوا عوضها، وفي هذه الأيام توجهت الإنكليز إلى تلك البواغيظ، وحاصرت مدينة مالطة أشد حصار إلى أن أضر بهم الجوع وأيقنوا بالفجوع، فتسلموا الإنكليز المدينة بالأمان، وقويت شوكة الإنكليز، فاشتد بأسهم في تملك مالطة؛ لأنها بالقرب من الإسكندرية.
ذكر ما تم في ممالك الدولة العثمانية
إنه عندما شاعت الأخبار بأن الفرنساوية تملك الديار المصرية، هاجت جميع ممالك الإسلام لمحاربة الفرنساوية اللئام، وصاحوا يا غيرة الدين وحماية المؤمنين، واستنهضت الدولة العلية والسدة الملوكية لاستخلاص الديار المصرية، وأبرزت الأوامر والأحكام وساير الباشاوات والحكام تستنهضهم للمغازاة عن دين الإسلام، وقد حضرت الأوامر الشريفة إلى أحمد باشا الجزار بالمغازاة على هؤلاء الكفار، ويكون سردار العسكر، وكان أمير الجيوش بونابرته حين بلغه استنهاض الإسلام إلى تلك الديار، فاستدرك الأمر بكتابات إلى الجزار، واستدعى بأحد الكوميسارية وأرسله إلى دمياط؛ لكي يسير في مركب إلى عكا، وكتب كتابا إلى الجزار على هذه الصورة بعد الترجمة:
إنه من المعلوم عندكم اتحاد الدولة الفرنساوية مع الدولة العثمانية بالحب والصدوقية منذ أعوام عديدة، ثم لا خفاكم عداوتنا مع دولة الإنكليز، وسطاها على بلداننا التي في أراضي الهند، فاضطرنا إلى الحضور إلى هذه الأقطار المصرية، وذلك بإذن الدولة العثمانية وبإرادتها الكلية؛ أولا: لقطع شجرة المماليك العصاة على الدولة العلية، ثانيا: لكي بعد قطع هؤلاء الظالمين وتمهيد المملكة وخلاصها من يد القوم الفاجرين، فنسير إلى الأقطار الهندية؛ لتخليص بلادنا وأرضنا من الدولة الإنكليزية، وها نحن مباشرين في قرض المماليك العصاة على السلطان، وما أتينا إلا أننا نحامي عن المسلمين، ونرفع شرايع الدين، ونسير محمل الحج الشريف إلى المقام المنيف، ونبقي السكة والخطبة باسم حضرة محبنا السلطان سليم دام بالعز والتنعيم؛ فبنا على ذلك أصدرنا لكم هذا الكتاب؛ لتعلموا منا حقيقة السبب الداعي لهذا الإياب، وتكونوا من قبلنا في حيز الأمان وغاية الاطمئنان، وتفتحوا البنادر، وتسيروا المتاجر لعمار البلاد وراحة العباد والسلام.
ثم توجه ذلك الكوميسارية المدعو باظان من مصر إلى دمياط، ومن هناك توجه في مركب أحمد باشا الجزار، الذي كان رابطا في الميناء، وأصحب معه ترجمانا واثنين من التجار، ولما وصل إلى أسكلة عكا، فكتب الكوميسارية باظان إلى الجزار يعلمه عن قدومه من طرف أمير الجيوش بونابرته، ونزل القبطان إلى عكا، وحينما دخل أمام الجزار فسأله عن مصر وعن أحوالها وعن سبب خلاصه من مدينة دمياط، فأجابه القبطان: إن الفرنساوية أطلقوا سبيلي وحضر معي كوميسارية من طرف سرعسكرهم بكتابة، وهو الآن معي في المركب، ثم أعطاه كتاب الكوميسارية باظان، فلما فهم الجزار ذلك الخطاب اشتد به الغيظ والغضب، وقال للقبطان: وجه هذا الكافر ودعه يسافر، وإن لم يرجع في الحال من هذه الديار أحرقته بالنار، ثم سأله من الذي أتى معه؟ فقال له القبطان: ليس معه سوى ترجمانه واثنين من التجار، وهم نصارى من أبناء العرب، فقال الجزار: أخرج التجار بأرزاقهم إلى البلد، ودع الكافر حالا يسافر، ورجع القبطان إلى المركب وأعلم الكوميسارية بما سمع من الجزار، وفي الحال أحضر له مركبا صغيرا، ورجع إلى دمياط من غير تأخير، وقبض الجزار على تلك التجار، وكان بين الجزار وبين الفرنساوية عداوة قديمة وبغضة جسيمة من طرد قناصلهم من بلاده؛ فلهذا السبب ما كان يود منهم أمانا.
ثم إن الجزار ابتدأ يحرر إلى ساير الأقاليم المصرية، ويستنهضهم على القيام على الفرنساوية، وكانوا الغز الذين حضروا إلى بر الشام تهيج الفلاحين والعربان لذلك المرام، ويكتبوا لهم على النهوض والقيام، وقد تظاهرت المصريون في العصاوة والأسية على الطايفة الفرنساوية، وقامت الأربع أقاليم المصرية؛ القبلية والبحرية والغربية والشرقية، وكان في كل وقت يقع الخصام بينهم وبين الجنرالية من الأربع الجهات المصرية، وتحرق البلاد وتهلك العباد، إلى أن هلك عربان كثيرة العدد ومن فلاحين البلد.
وأما ذلك الكوميسارية الذي رجع من عند الجزار فإنه وصل إلى دمياط، وفي الغد سار إلى مصر، وأخبر أمير الجيوش بما تم له من الجزار، فاشتد بالغضب من ذلك السبب، وبدأ من ذلك الحين يباشر بتجهيز السفر وما يحتاج إليه من الاستحضار.
وقد كنا ذكرنا أن في المنصورة أقام من الفرنساوية ما ينيف عن ماية وثلاثين صلدات، وفي ذلك الوقت بدت أهالي البلد يتشاورون على قتلهم، وإذ كانت هذه البلدة بعيدة عن مدينة مصر، وبرها متسع وعربانها كثيرة، وقد كان في كل جمعة نهار الخميس يصير السوق، ويجتمع فيه كثير من الناس لأجل البيع والشرا، ففي أحد الأيام قامت أهالي المدينة، وكبسوا أوليك الصلدات الفرنساوية، وانتشب الحرب بينهم، وإذ تضايقت الفرنساوية، وكاد يخلص ما عندهم من البارود، فخرجوا إلى البر ونزلوا في إحدى المراكب، فتكاثرت عليهم أوليك العوالم المجتمعة في يوم الخميس، وقد كان ذلك الوقت أيام جبر النيل، فلم تسير معهم المراكب، والتزموا بالرجوع إلى البر، وقصدوا يسيروا برا إلى مصر، فلم تمكنهم أوليك الأمم، وأورثوهم مواريث العدم، ولم يزالوا يكافحون وعن أرواحهم يدافعون، إلى أن قتلوا عن آخرهم، ولم يبق بقية من أوليك الصلدات الفرنساوية، وحين وصلت الأخبار فاشتد بأمير الجيوش الغيظ والغضب، وأمر الجنرال دوكا بأن يتوجه إلى المنصورة ويحرقها، ويقتل كل من بها، فسار الجنرال بثلاثة آلاف صلدات، وحينما بلغ أهالي المنصورة قدومه، فهربوا منه ولم يبق إلا القليل، وحين وصوله رأى البلد خرابا، وتقدم إليه أوليك الباقون، وابتدوا يعتذرون له بقولهم: إن أهالي المدينة ليس لهم ذنب بذلك الصنيع، وإنما صدر ذلك من الفلاحين والعربان لكثرتهم في ذلك الميعاد من كل البلاد، وإن أهل المدينة حيث تحققوا أن ليس لهم اقتدار عن منع أوليك الأقذار فروا هاربين خوفا من الفرنساويين، فلما سمع الجنرال ذلك الكلام قبل اعتذارهم وعفا عن خراب ديارهم، وأمرهم في الرجوع والطاعة والخضوع.
صفحه نامشخص
ثم إن الجنرال دوكا صنع ديوانا وقال لهم: إنني مأمور من أمير الجيوش بأن أحرق هذه المدينة وأقتل كل من وجد بها، ولكنني قد قبلت عذركم وصفحت عن ذنبكم، ولكن من حيث أن قبل ما تقع هذه الشرور ما أعرضتم عن ما أنتم مطلعين عليه من حقايق الأمور، مع أنكم تعرفون رداوة أهل البلاد وما هم عليه من العناد؛ فيلزمكم أن تدفعوا جريمة قصاصكم أربعة آلاف كيس فدا دماكم، فقبلت الرعية ذلك المقال، وفي مدة قليلة أوردوه المال، وبعد ذلك أرسل الجنرال دوكا وأعرض على أمير الجيوش ما تدبر، فرجع له الجواب بأن يأمر أهل تلك الأقاليم أن يرفعوا بيراق الفرنساوية على رءوس المآذن، وكل بلد لا ترفع ذلك السنجاق حالا تحرق.
وقد كنا ذكرنا أنه حين دخل أمير الجيوش إلى القاهرة ورتب أمورها وقلد الجنرالية الأحكام في الديار المصرية، وأرسل الجنرال ويال إلى مدينة دمياط، فهذا الجنرال كان ذا مكر واحتيال وبطل من الأبطال، فلما استقر في مدينة دمياط أحضر إليه سبعة أنفار من التجار الكبار، وأقامهم لتدبير البلد وتلك الديار، ثم رتب أغا إنكشارية وأقام واليا للبلد ومحتسبا للديوان، ورتب الترتيب القديم، وأحضر شيخ قرية الشعرا وهي بالقرب من مدينة دمياط وألبسه فروا وقلده سيفا، وأحضر لديه شيخ إقليم المنزلة المعروف بالشيخ حسن طوبال وقلده سيفا مذهبا.
وهذا الشيخ المذكور كانت أهالي تلك الأقاليم تمتثل رأيه وتقتدي به، وبعدما تقلد ذلك الالتزام أتت إليه الكتابات من أحمد باشا الجزار ومن إبراهيم بيك، وبها يحثوه أن لا يقبل الفرنساويين في أرضهم، وأن يستنهض أهالي الأقاليم ضدهم ويكون مجاهدا في حربهم، وكانوا في كتاباتهم له يوعدوه بسرعة وصولهم إليه بالعساكر الوافرة، ومن ذلك السبب تشاهر هذا الشيخ المذكور في خبث النية ضد الفرنساوية، وقد استنهض أهل تلك القرايا الذين حوله، وعمدوا رأيهم أن يجتمعوا في قرية الشعرا بالقرب من دمياط ويكبسوا الفرنساوية ليلا، وأوصلوا العلم مع أهالي دمياط، واتفقوا جميعا على ذلك الرباط، وفي شهر ربيع الثاني كبست الرجال البلد ليلا، وقد كان مسكن الفرنساوية في الوكايل التي على البحر، وهجموا بضجيج عظيم وعجيج جسيم وهم ينادون: اليوم يوم المغازاة من هؤلاء الكفار ومن يتبعهم من النصارى، اليوم ننصر الدين ونقتل هؤلاء الملاعين، فانتبهت الفرنساوية من المنام، واستعدوا للحرب والصدام، والتقوا في تلك الأمم وأورثوهم مورث العدم، واصطفوا صفوف وضربوهم بالرصاص والسيوف، ومنعوهم عن الدخول، وكانت ليلة مرعبة ونار ملهبة، فلله درهم من الرجال! ما أشدهم بالحرب والقتال! لأن كانت تلك الأمم قدرهم أضعاف فكسروهم بلا خلاف وأوردوهم موارد التلاف، وقبل أن يطلع النهار أخرجوهم من البلد قوة واقتدارا إلى البر والقفار، ورجعوا إلى قرية الشعرا خاسرين وفي أمورهم حايرين.
وكان قد وصلت الأخبار عند طلوع الشمس إلى أهالي الغربة، وهي قرية صغيرة عند بوغاظ البحر المالح أن المسلمين كبست دمياط وقتلوا أوليك الكفار ولم يبقوا منهم آثار وقتلوا جميع نصارى البلد ولم يبقوا منهم أحد، وكان في قرية الغربة خمسة أنفار من الإفرنج فهجموا عليهم وقتلوهم، وقدم مركب فيه ثلاثة أنفار فقتلوهم، ثم هجموا على قلعة الغربة وكان بها عشرين من الفرنساويين، فأغلقوا الأبواب وأرموهم بالرصاص فرجعوا عنهم خاسرين، وعند نصف النهار تحققت الأخبار بأن الرجال المسلمين رجعوا منكسرين والفرنساوية في دمياط مقيمين، فندم أهل الغربة على تلك الفعال، وخافوا على الحريم والعيال، وفي ساعة الحال جمعوا أموالهم وأخذوا عيالهم وانحدروا في المراكب هاربين، وإلى نواحي عكا قاصدين، ووصل الخبر إلى دمياط بما صار في الغربة من الاختباط، فركب الجنرال ويال إلى الغربة فلم يجد بها أحدا، فنهبوا ما وجدوه وأحرقوها بالنار، ورجع إلى دمياط، وابتدأت الإفرنج تبني في الغربة حصونا للعساكر.
ثم بعد رجوع الجنرال ويال إلى دمياط بلغه إن لم تزل أهل تلك البلاد مجتمعين وفي قرية الشعرا مقيمين، فعزم الجنرال ويال على المسير إليهم والقدوم عليهم، وأمر بأن المجاريح والمرضى من الإفرنج ينزلوا إلى المراكب خوفا من مسلمين البلد ومما يتجدد، وحين شاهدت النصارى أن الفرنساوية عازمين على تخلية البندر فساروا إلى ذلك السرعسكر وقالوا له: ما يحل لك أيها الجنرال أن تذهب وتلقينا بأيدي هؤلاء الأشرار؛ لأننا قد سمعنا منهم أمرارا قايلين: اقتلوا النصارى قبل الفرنساوية؛ لأنهم متحدين معهم سوية، فلما نظر الجنرال ويال ما حل بالنصارى من الخوف والوبال انثنى عزمه عن القتال، وكتب إلى الجنرال دوكا حاكم مدينة المنصورة يطلب منه الإسعاف، فوجه له ماية وخمسين صلدات، وحين حضروا سار بهم إلى قرية الشعرا بعد ما ترك أجناده في دمياط، وحين وصل إلى الشعرا انهزمت منه تلك الجموع، فأحرق البلد وقتل من وجد بها، ورجع إلى دمياط بقوة ونشاط، وصنع شنلك عظيم، ونشر البيارق علامة الانتصار، ونكس البيراق العثماني الذي كان ناشره سابقا، حيث كان قد أمر أمير الجيوش أن في كل مكان توجد الفرنساوية فلينشروا سنجاق الدولة العثمانية.
وبعد أيام يسيرة حضر الجنرال دوكا إلى دمياط، وعقد المشورة مع الجنرال ويال على أخذ الجيزة وبلدة المنزلة، ثم رجع الجنرال دوكا إلى المنصورة، ومن هناك سار بالعساكر إلى البحر الصغير قاصدا إقليم المنزلة، فخرجت له عربان ذلك البر في محلة يقال لها الجملة، والتقى في جماعة وفية وفرسان قوية، فصادمهم هذا الشجاع والقرم المناع وشتت عسكرهم وأفنى أكثرهم، وأحرق تلك البلدة، ثم سار إلى المنزلة فحين بلغ الشيخ حسن طوبال قدوم ذلك الأسد المغوار فارتج رجة عظيمة، وطلب الهزيمة، وفر من ساعته إلى الأقطار الشامية، وعندما وصل الجنرال دوكا إلى بلدة المنزلة التقته أهلها، وقدموا له الطاعة، وأخبروه بانهزام الشيخ حسن طوبال، فأعطاهم الأمان، وأحضر أخا الشيخ حسن طوبال وأقامه شيخا على تلك الديار، وضبط القوارب التي كانوا يسيرون بها من المنزلة إلى دمياط في البحيرة المالحة، وأرسل تلك القوارب إلى دمياط وكانت كثيرة في العدد تنوف عن خمسة آلاف ، وقد أمنت الإفرنج في دمياط من نواحي إقليم المنزلة؛ لأن قد كان حسن طوبال منتظرا قدوم عساكر الجزار ليركب بتلك القوارب ويأتي بها إلى مدينة دمياط، وبعد أيام يسيرة رجع الجنرال دوكا إلى المنصورة من بعد ما حارب في طريقه عربانا كثيرة، الذين كانوا يقصدون حربه ويقفون في دربه، واستمر إقليم المنزلة وبر دمياط طايعا للفرنساوية، والعداوة في ضمايرهم مخفية.
وقدمنا الشرح في تحكم الجنرالات الفرنساوية في الأقاليم المصرية، فكان الجنرال ميراد قد قلده أمير الجيوش أحكام إقليم القليوبية، وكان هذا الجنرال ذا شجاعة في القتال قوي البطش في الحرب والجدال، وحين سار في العساكر القوية إلى إقليم القليوبية، وكان هذا إقليم أصعب الأقاليم؛ لكثرة عربانه العتاة وقومه العصاة، وبراريه الواسعة ووديانه الشاسعة، فهذا البطل الشجاع أطاعته آل تلك البقاع والأصقاع من بعد ما أذاقهم حروبا شديدة، وأحرق بلدانا وأهلك عربان، وبحروب كثيرة أفنى قبايل غزيرة، وكان شيخ هذا الإقليم يدعى الشيخ الشواربي، وكان يجمع خلقا وافرا، وبلده كان بعيد يوما عن القاهرة، وكان من القوم الجبابرة وعربان إقليمه فاجرة، فالتزم أن ينكس هاما ويطيع قهرا وإرغاما، ثم إن هذا الجنرال من بعد ما تملك هذا الإقليم جمع الأموال الميرية والترتيبات السلطانية، ورجع إلى مدينة مصر بكل عز ونصر.
وأما الجنرال لانوس حاكم الإقليم المنوفية والجهات الغربية، فهذا الجنرال سار إلى مدينة منوف ومكث بها وجمع الأموال منها ومن القرى والجبال، وفرق عساكره على بلدانها، وأطاعته جميع سكانها، وهذا الإقليم كان ألين الأقاليم وأهونها وأجملها وأحسنها، ولم يحتاج هذا الجنرال النبيل إلا لحرب قليل؛ لأن كان أغلب أهالي الأرض المصرية هابت شجاعة الفرنساوية، ورجعت قلوبهم من شدة حروبهم؛ لأن الفرنساوية من بعد دخولهم إلى الديار المصرية وحريق عمارتهم على بوغاظ الإسكندرية انقطع آمالهم من الإمداد مع ما شاهدوه من الكره من أهالي البلاد وما لهم في قلوبهم من البغض والأحقاد، فكانوا يتنفسون الصعداء من صميم الفؤاد، ويهجمون ولا يهابون كثرة العدد، ويحاربون بأمور حكمية وفنون علمية وقلوب صخرية، غير هايبين الموت ولا خاشيين الفوت، ومكث هذا الجنرال في إقليم المنوفية مدة وفية، وجمع الأموال الميرية، ومهد البلاد وطمن العباد، ورجع إلى مدينة مصر بعز ونصر، وقد ترك في مدينة منوف وكيلا عوضا عنه.
وقد ذكرنا أيضا أن الجنرال ديزه تقلد من أمير الجيوش بونابرته إقليم الصعيد، وقد تعين بالعساكر لحرب مراد بيك، وبعد ما فر مراد بيك إلى الصعيد، قد ذكرنا عن توجه القنصل لعنده من أمير الجيوش في الخطاب وما كان من الجواب، فأمر أمير الجيوش الجنرال ديزه بالمسير بالعساكر إليه، وكانت أربعة آلاف مقاتل، وكان مراد بيك قد تجمع عنده الجيوش من الهوارا والفلاحين والعربان إلى المنية، وكانت مسافة ثلاثة أيام عن القاهرة، واجتمع إليه ما ينيف عن عشرين ألفا، وكان في بر الصعيد عدة من المماليك الهاربين فحضروا لعنده، وحضر أيضا حسن بيك الجرداوي، وعثمان بيك مماليك علي بيك الكبير، وهؤلاء كانوا مطرودين من الغز، وعندما تقابلوا مع مراد بيك تصافحوا وأخلصوا الوداد وتركوا الأحقاد وغفروا السيئات وصفحوا عما فات، وقرءوا الفواتح على المغازاة في سبيل الله، وصاحوا: يا غيرة الدين ونصرة المسلمين، الله أكبر على هؤلاء الكافرين، واستعدوا غاية الاستعداد لملاقاة الأعداء والأضداد، وكانت الغز أفرس الفرسان في ركوب الخيل والحرب والطعان.
وكان الجنرال ديزة ساير إليهم في العساكر وهو غير فاكر إلى أن وصل إليهم وكشف عليهم، فوجدهم جيوش كثيرة وطموش غزيرة، فصف عسكره صفوف بالترتيب الموصوف، وقرع الطبول النحاسية وتقدم بالعساكر الفرنساوية، وأطلق مدفعا واحدا للتنبيه، ثم أمر بإطلاق ثانية، فنهضت الغز والعربان نهوض الأسود والشجعان بالسيوف الهندية والرماح السمهرية على ظهور الخيل العربية، وانقضت انقضاض الغربان إلى حومة الميدان، وصرخوا: اليوم يوم المغازاة وترك النفوس والمعاداة، وحملت العربان والغز والفرسان، واندفقت على الفرنساوية اندفاق البحور العرمرمية، وتساقطت من الجبال سقوط الصواعق العلوية، حتى خيل للناظرين أن الجبال تزعزعت والتلال تمزقت، وانتشب الحرب والقتال، وابتدأ ذلك الجنرال يروغ روغ المحتال حتى تملك في المجال، ودهمهم بالقنابر والكلل والرصاص الغير المحتمل، وبدأ يريهم فنون الحرب الغريبة وأنواع الأهوال العجيبة، التي لم تدركها العربان ولا تعرفها الغز والفرسان، وصاح بهم صيحة الأسد الغضبان في تلك الجبال والوديان، حتى لم يعودوا يقدروا على الثبوت تجاه ذلك البهموت، وزحمتهم أوليك الأسود، حتى ملكوا متاريسهم وأشهروا تنكيسهم وشتاتهم في الجبال والتلال بشدة الحرب والقتال، وملكوا مدافعهم وأعلامهم ومضاربهم وخيامهم، وكسروا تلك الجماهير بقوة العزيز القدير.
صفحه نامشخص
وذهب مراد بيك مع عزوته إلى أعلى الصعيد، وهو متحير من صلابة هؤلاء الصناديد وقوة قلبهم الشديد، وفنونهم العجيبة وشجاعتهم الغريبة، ودخل الجنرال ديزه إلى مدينة المنية، وأقام بها وحصن قلعها وأبراجها، وبدأ يسير ورا مراد بيك مرحلة بعد مرحلة إلى محل يقال له الأهون، وهناك حدثت بينهم وقعة عظيمة، وكان قد تجمع مع مراد بيك جموع كثيرة وطموش غزيرة، فشتتهم ذلك الجنرال في البراري والقفار، ولم يزل ذلك الجنرال يقاتل في إقليم الصعيد حتى أطاعه الشيخ والوليد، وهابته الأسياد والعبيد، وهرب منه مراد بيك إلى مدينة أصوان، ثم إلى بريم، ومن هناك رجع الجنرال ديزه إلى الصعيد، ودبر الإقليم المذكور برأيه السديد، وأمر في بنيان الحصون الرفيعة في جميع تلك المدن المنيعة، ثم إنه جبى الأموال الميرية والمعاليم السلطانية، ورتب الصعيد ومهد ذلك الإقليم غاية التمهيد، وكل مراد بيك من حروب الفرنساويين من بعد حروب عديدة وأهوال شديدة.
وكان حينما بلغ أهالي الحجاز دخول الفرنساوية إلى الديار المصرية فارتجت سكان تلك الأرض وماجت واضطربت وهاجت، فتحرك من الأشراف السيد محمد الجيلاني، وقد جمع سبعة آلاف أماجيد، وحضر بهم إلى الصعيد، واجتمع إليه العربان من أهل تلك البلدان عشرة آلاف من غير خلاف، وظهر أمره واشتهر خبره، فبلغ الجنرال ديزه قدوم ذلك العسكر، فما هابه ولا تفكر، بل إنه كبس عليهم بالليل بكل قوة وشدة وحيل، فما سلم منهم غير القليل، والذي سلم تشتت في البراري والقفار وبليوا بالذل والدمار، ومات في تلك الوقعة السيد محمد الجيلاني؛ إذ كان هو على نفسه جاني؛ لأنه كان يزعم أنه يحذف الرمال والغبار في وجوه الكفار ويعمي منهم الأبصار ويقبض عليهم باليد، فخاب منه الكد والجد، ثم بعد مدة تجمع الذين سلموا، ورجعوا يفسدون في البلاد ويستنهضون بالعباد، فأرسل عليهم الجنرال ديزه شردمة من العسكر فهزموهم في البر الأقفر، وبعد ذلك راق الصعيد من محاربين الفرنساوية، واطمأن حال الرعية، وأحبوا الجنرال ديزه محبة عظيمة؛ لأجل سلوكه وأحكامه المستقيمة، وكان يحب العماير الملاح كريم بالعطاء والسماح، وكان رهطا من الأرهاط العظام، ونظم إقليم الصعيد أحسن نظام.
وقد كان عنده من الأقباط المباشرين يعقوب الصعيدي، وهو رجل شديد البطش مشهورا بالفروسية والهمة القوية، وهو الذي عند سليمان بيك، وكان الذين خدموا من النصارى أولهم الرجل السافرلي المدعو باترو، وهذا الذي كان يدعونه أهل مصر فريد الزمان؛ لما عنده من العلوم والفصاحة والقوة والشجاعة، وكان يعرف في جميع اللغات وفاق بالحسن عن حد الصفات، وكان قد خدم عند الفرنساوية، وانقاد إليه جماعة من الغز المماليك واحتموا به، ثم الرجل الرومي المدعو نقولا قبودان، فهذا المذكور كان خادما عند مراد بيك، ومتروسا على عدة عساكر ومراكب في بلدة الجيزة، وكان شابا موصوفا بالشجاعة، وهذا المذكور كان متسلم المتاريس في عسكر الأروام حين دخلت الفرنساوية إلى بر إمبابة وامتلكوا القاهرة، ولما امتلكت الإفرنج المتاريس ألقى نفسه في بحر النيل وطلع إلى مصر، ثم خدم المشيخة، وأما الذين خدموا الفرنساوية من الإسلام فهم كثيرون في العدد كالمقدمين والقواصة والمترجمين.
ذكر ما حدث بمصر
إنه من بعد أن مكثت الفرنساوية في المملكة المصرية مقدار ثلاثة أشهر، فكان المسلمون يظنون أن تورد لهم الأوامر من الدولة العثمانية بتقريرهم على المملكة حسبما كانوا يشيعون أنهم حضروا إلى مصر بإرادة السلطان سليم، وكانوا يوعدونهم في وزير إلى القلعة السلطانية من طرف الدولة العثمانية، وقد كان يخبر أمير الجيوش بقدوم عبد الله باشا العظم من الشام إلى مصر، وأعد له منزلا لينزل به وأمر بتدبيره وفرشه، وإذ مضت المدة المعينة ولم يحضر أحد؛ فتسبب من قبل ذلك أسباب كثيرة للنفور وإبداع الفتن والشرور؛ من قتل السيد محمد كريم لأنه كان أحد الأشراف، ومن ورود المكاتيب من الأمراء المصريين بالاستنهاض إلى أهل تلك الأقاليم، وكتابات أحمد باشا الجزار إلى البلدان المصرية واستنهاضهم على الفرنساوية، وأن قادم عليهم العساكر العثمانية، ثم قيام أهالي بر دمياط، والحوادث التي بدتها العرب والفلاحين، وعفو الفرنساوية عنهم وعدم القصاص لهم، وقد كان الفرنساوية يخرجون النساء والبنات المسلمات مكشوفات الوجوه في الطرقات، ثم اشتهار شرب الخمر وبيعه إلى العسكر، ثم هدم جوامع ومنارات في بركة اليزبكية؛ لأجل توسيع الطرقات لمشي العربانات.
وكان المسلمون يتنفسون الصعداء من صميم القلوب، ويستعظمون هذه الخطوب، وصاحوا: لقد آن أوان القيام على هؤلاء الليام، فهذا وقت الانتصار إلى الإسلام، فشعر أمير الجيوش بما في ضمايرهم وما أكتموه في سرايرهم، فأبرز أمرا لساير حكام الخطوط بأن كلا منهم يأمر بخلع الأبواب المركبة في الشوارع، وفي يوم واحد خلعت تلك الأبواب العظام، وبعضها أحرقت بالنيران، فركب أمير الجيوش، وأخذ معه المهندسين ومنهم الجنرال كفرال الملقب أبو خشبة؛ لأن كانت رجله الواحدة مقطوعة من ساقه ومصطنع له رجل من خشب، فهذا الجنرال كان أعظم المهندسين في مملكة الفرنساوية، وبدأ أمير الجيوش يجول بهذا الجنرال على ساير الأماكين التي حول دايرة مصر، وغرس على رأس كل مكان بيرقا؛ إشارة لبناية القلع.
فإذا شاهدت الإسلام هذا الاهتمام تحركت للقيام، وبدوا ينادون متبادرين إلى الجامع الأكبر المعروف بجامع الأزهر، وهناك عقدوا المشورة، وأبرزوا ما بالضماير المضمرة، وأرسلوا أحد الفقهاء في شوارع مصر ينبه المسلمين بالمبادرة إلى الجامع الأزهر حيث اجتمع العسكر، وبدأ ذلك الشيخ المذكور يدور وينادي بالجمهور: كل من كان موحدا يأتي لجامع الأزهر؛ لأن اليوم المغازاة بالكفار ونزيل عنا هذا العار ونأخذ منهم الثار، فبادر المسلمون وأقفلت الحوانيت والوكايل لما سمعت صوت القايل، ووصلت الأخبار إلى دبوي الجنرال بأن قامت أهالي البلد من الشيخ إلى الولد، وكان ذلك في عشرة جماد الأول نهار الأحد، فنهض الجنرال المومى إليه والشرار تتطاير من عينيه، ظانا أن هذا القيام عليه، وأن هذا القتال لأجل ما طلب منهم من المال، وسار بثمانية أنفار ليطمن أهل تلك الديار ويفرق تلك الجماهير ويسكن روع الكبير والصغير، ولم يعرف أن ليس ذلك علة المال فقط، بل هي علل كثيرة الشطط وغزيرة النمط، وأحقاد كامنة في جوارح القلوب، وعداوة لا يدركها سوى رب الغيوب، وفيما هو ساير في سوق النحاسين، فبرز إليه أحد الأتراك وضربه بخشبة على خاصرته، فسقط عن ظهر جواده مغشيا، فحملوه أصحابه ورجعوا به إلى جنينة الإفرنج القديمة، وفي وصوله مات هناك وشرب كاس الهلاك.
وكانت العساكر الفرنساوية متفرقين في المدينة، ولعدم معرفتهم باللغة العربية ما يكونوا يدرون ما هي الحادثة في المدينة، فهجمت عليهم تلك الجماهير من كل ناحية، وكانوا يقتلون كل من وجدوه في طريقهم من الإفرنج الفرنساوية والملة النصرانية من المعلمين والرعية، وكان يوما مهولا عظيما وخطبا جسيما، ثم هجمت جماهير الإسلام على طور سينا فقتلوا البعض من الرجال، ونهبوا بيوت النصارى، وأخذوا ما أحبوا من الحاجات، وسبوا النساء والبنات، واحتموا بقوة الرجال داخل دير الطور، وكان يوما مشهور، وكان أوليك الأمم هايجين هيجات وحشية، فتهاربت الفرنساوية إلى البركة اليزبكية، وكان في ذلك الوقت أمير الجيوش في مدينة الجيزة، فحضر لما بلغه تلك الهيجة، وفي دخوله التقى مع ذلك الجمهور فولوا من أمامه، ووصل إلى بركة اليزبكية، وفرق العساكر حول البلد، وأمر أن تضرب من القلعة المدافع والقنابر، وكانت جماهير الإسلام في باب النصر والنحاسية وخان الخليل وخط الأزهر والغورية والفحامين خط المغاربة، وهذه المحلات داخل البلد، وكانت الإسلام قد بنت متاريس في تلك الأماكن المذكورة، فسقط خوف عظيم على الفرنساوية، وذعرهم هذا القيام وداخلتهم الأوهام؛ لمعرفتهم بكثرة الخلايق التي في مصر؛ لأنها كانت تجمع مليونا من الناس ولا لكثرتهم قياس، وضربت الفرنساوية أوليك الجيوش الكثار بالقنابر والمدافع الكبار، فتضايقت الإسلام من كثرة الكلل والقنابر والرصاص المتكاثر، واستقام الحرب ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع كبست الفرنساوية على جامع الأزهر، فهربت الإسلام بالذل والتعكيس، وامتلكوا منهم المتاريس، وأبلوهم بالضرر وملكوا منهم الجامع الأزهر، وسلبوا ما كان فيه من الودايع والذخاير، وابتدوا بعد ذلك يمتلكون مكانا بعد مكان، إلى أن تملكوا أكثر المدينة، واختفت الإسلام في المنازل والجدران، وألقوا سلاحهم وصاحوا: الأمان، وكانت الفرنساوية كل من يرونه بلا سلاح لا يعارضوه، والذي يكون متسلحا يقتلوه.
وحينما نظرت علماء الإسلام أن جيوشهم انكسرت والفرنساوية انتصرت، فساروا إلى أمير الجيوش بعقل مدهوش وقلب مرعوش، وأخذوا يتراموا عليه بقيام العسكر من الجامع ورفع الحرب من كل مكان والمواضع، فبكتهم أمير الجيوش بذلك الفعل الذميم والخطب العظيم، وكانوا يقسمون له بالله أن ليس عندهم من ذلك آثار ولا علم ولا أخبار، بل علة الحال طلب المال، وما قام إلا أوباش الرجال، فأبى أمير الجيوش تصديقهم وأنكر تحقيقهم، ولم يسمح لهم بتخلية الجامع من العساكر، وأحرف وجهه عنهم وهو متعكر الخاطر، فانصرفوا من أمامه وهم باكين وعلى أحوالهم نايحين، وتأسفوا على جامع الكنانة وخراب الديانة، ثم في ذلك النهار أرسلوا له الشيخ محمد الجوهري، وكان في كل حياته ما كان يقابل أحدا من الحكام ولا يعترض إلى أمور العوام، وفي دخوله قال له: ما قابلت حاكما عادلا كان أم ظالما، والآن قد أتيت متوسلا إليك أن تأمر بإخراج العسكر من الجامع الأزهر، وتغفر ذنب هؤلاء القوم الغجر، واتخذني مدى العمر داعيا لك ناشرا فضلك. فانشرح أمير الجيوش من ذلك الخطاب وانعطف وجاب قائلا: إنني عفوت وصفحت عن أحبابك لأجل خطابك، ثم أمر أمير الجيوش برفع العسكر من الجوامع وأطلق المناداة في المدينة بالأمان، وعقد الفحص عن الذين كانوا مجتمعين في المشورة على قيام تلك الأمور المنكرة، فقبض على شيخ العميان الشيخ سعيد، والشيخ الذي نادى في المدينة بجمع ذلك الجيش العديد، وعدة فقهاء وأناس فلتية، وأخذوهم إلى القلعة وأذاقوهم كئوس المنية، وقد كان مات بهذه الوقعة ألفين صلدات، ومن أهالي المدينة ما ينيف عن خمسة آلاف، وقد خسرت الإسلام ولم تربح بهذا القيام سوى الذل والإهانة وافتضاح جامع الديانة.
وكان عندما استعدت أهالي مصر على القيام ضد الفرنساوية كتبوا إلى الشيخ الشواربي شيخ الصعيد يستنجدوه إلى إعانتهم، وعينوا له زمانا ليحضر به بعشاير العربان، وقد أتى في الميعاد إذ كانت الفرنساوية محيطة بالقاهرة، وحين نظروا العربان مقبلة ضربوهم بالمدافع والرصاص، فولوا منهزمين؛ لأن الفلاحين والعربان لم يكونوا يستطيعوا على مقابلة النيران وحرب أوليك الشجعان، ورجعوا بالذل والخسران، وحين سكنت تلك الفتن سار الجنرال ميراد إلى بلدة قليوب، وقبض على ذلك الشيخ وحرق البلد، ثم أرسله إلى أمير الجيوش، فقتله وولى أخاه مكانه.
صفحه نامشخص
ثم إننا قد ذكرنا عن الجنرال المهندس لأجل بناية القلع، وبعدما سكنت تلك المفاسد من أهل مصر أمر أمير الجيوش في بناية أربع قلعات بالقاهرة على أربع جهات، فالواحدة في كوم العقارب فوق الناصرية، وواحدة في كوم الليمون فوق اليزبكية، وواحدة في كوم الغريب فوق خط الأزهر، وواحدة فوق جامع أبي برص خارجا من باب النصر، وفي أيام قليلة تمت الأربع قلع، ونقل إليها جبخانة والمدافع والقنابر، وحصنها بالعساكر، وبنى في القلعة الكبيرة أبراجا، ونقل إليها مدافع كثيرة، وأرسل إليها الزيت والمشاقة ليرى أهالي مصر أن إذا نهضوا مرة ثانية يتلف المدينة بالحراقة، وهكذا خبر علماءهم أن يخبروا الرعية، ثم عين في بلد الجيزة من الفرنساوية أصحاب الحرف والذين يسكبون المدافع والكلل، وأبنى في إمبابة أفرانا لأجل البقسماط، وعمر طواحين في الهوافي الجيزة وفوق كوم الليمون، وكانوا يطحنون ما يكفيهم كل يوم، وأمر بعمل البارود في مصر، مع أن قد كان معه الجبخانة تكفيهم عشر سنوات إذا كانوا يحاربون كل يوم.
ثم إن بعد نهاية تلك الحركات التي قد حدثت وقتل الجنرال دبوي شيخ البلد أحضر أمير الجيوش الجنرال دوسطين، وولاه شيخ البلد على مصر مكان الجنرال دبوي، وكان هذا عاقلا فاضلا، وفرحت أهل البلد بموت الجنرال دبوي؛ لأنه كان صعب الأخلاق وبطل لا يطاق.
وكان حينما قامت الإسلام على الفرنساوية فهرب محمد أغة الإنكشارية، وكان ذلك الرجل جبانا، وهذه الرتبة لا يوافقها ذلك؛ لأنه يلزم أن يكون أغة الإنكشارية بطلا شديدا في الحرب والقراع صاحب مكر وخداع لأن؛ عليه ضبط البلد الليل والنهار، ولا يسأل عما يفعل، وبعد هذه الفتنة أمر أمير الجيوش بعزله وأقام عوضه مصطفى أغا جربجي، وهو من مماليك عبد الرحمن أغا الذي كان قديما أغة الإنكشارية في زمان علي بيك، وحين دخل مصطفى أغا على أمير الجيوش لبسه فروا فاخرا وقلده سيفا، وولاه منصب الأغاوية على الإنكشارية وقال له: قد بلغني عن سيدك أنه كان رئيسا في الأحكام خبيرا بالأيام متدبرا بالنظام ومتقنا وظيفته على التمام، فأود أن تكون مثله وتقتفي أثره، فقبل يده وانصرف من قدامه مسرورا، وبالحقيقة أن هذا المذكور أخلف سيده في أحواله وأفعاله، وكان صادقا في خدمته شديدا في همته، وقيل إنه قتل مماليك كثيرة، كما كان يفعل سيده في حكمه، وكان ذلك الرجل يكره المماليك وزمرتهم؛ كونهم قتلوا سيده، وكان حينما وجد مملوكا مستخفيا في المدينة يقتله سرا؛ لأنه كثيرا كانت تدخل المماليك إلى مصر مستخفيين.
وبعد تلك الحوادث استكنت مصر، وكلت أهلها من الحروب مع الفرنساوية، وطاعتهم الطاعة الرغمية؛ لما كابدوا من شدة بأسهم وقوة مراسهم، وقد كان الفرنساويون قد جربوا أكثر الناس بحسن أحكامهم العادلة وعدم ميلهم للمشاكلة، وحسن سياستهم وعدم خيانتهم، وحبهم المفرط للمسلمين ورفع المظالم عن الفلاحين، وضبط عساكرهم وتواضع أكابرهم، وصدق كلامهم وحسن زمامهم، وانطلاق الحرية لساير الرعية، وإعطاء الأمان في كل مكان، والتفاتهم العجيب لنظم البلاد وودهم الغريب لراحة العباد، وقد قطعوا آثار اللصوص والنهابين والعربان الخطافين، وأتقنوا الأحكام بأحسن نظام، وتظاهروا بالكرم والسخا ورخص القوت والرخا.
وبدأ أمير الجيوش يجهز الركبة على الأقطار الشامية، وأرسل القومانية والمدافع والجبخانات إلى مدينة بلبيس والصالحية، ونبه على العساكر بتحضير ما يحتاجون من آلات الأسفار، وقد شاعت الأخبار بقدوم ذلك الجيش الجرار إلى أراضي عكا وتلك الديار، فأسرع أحمد باشا الجزار بتدبير ما يحتاج إليه في الحصار خشية من هجوم الكفار واستيلايهم على تلك الأقطار، وحصن مدينة عكا بالأبرجة والأسوار، ووضع عليها القنابر والمدافع الكبار، وحصن أيضا مدينة حيفا وأرسل إلى يافا العساكر وحصنها بالمدافع والقنابر، وامتد إلى مدينة غزة بعساكره وعشايره، ووصلت جيوشه إلى قلعة العريش وأقاموا بها، واتصل الإيراد إلى ساير البلاد، وتنبهت الغز للجهاد، وفي شهر شعبان سنة 1213 خرجت العساكر الفرنساوية إلى مدينة بلبيس والصالحية، وكتب إلى الجنرال كليبر أن يتوجه من دمياط في البر على طريق قطية ويكون قايد العساكر الفرنساوية.
ثم إن أمير الجيوش بونابارته من بعد ما سير العساكر أحضر علماء الديوان ومصطفى كتخدا الذي جعله أمير الحج والأغا والوالي والمحتسب وقال لهم: إن الغز المماليك الهاربين من سيفي في الأقطار قد التجوا إلى أحمد باشا الجزار المتولي بتلك الديار، فجمع لهم العساكر وحضروا إلى العريش وعازمين على الحضور إلى الديار المصرية لأجل خراب البلاد وقتل العباد وهلاك الرعية؛ فلذلك أخذتني الغيرة، واستخرت الله وهو نعم الخيرة، وعزمت أنني أسير إليهم بالعساكر، وأخرجهم من قلعة العريش بقوة سيفي الباتر، وأبذرهم بتلك البراري والقفار، وأجعلهم عبرة للناظر وأقطع آثارهم من تلك الديار بعون الواحد القهار، وأريح منهم مصر وتلك الديار، وها قد وليت نايبا عني وقايمقام في المدينة الجنرال دوكا، فكونوا له طايعين وإلى كلامه سامعين، وشيخ البلد عليكم الجنرال ضوصطين، فعليكم أيها العلماء والحكام والأعيان والتجار أن تنبهوا على أهل هذه الديار برفع الأذية والأضرار، وأن تكون الرعايا مطمئنين وفي منازلهم آمنين، وإن كان يبدأ في غيابنا أدنى حركة من الحركات ضد العساكر والصلدات فقد أمرت القايمقام وشيخ البلد وحاكم القلعة أن يهدموا البلد بالمدافع والقنابر، ويقتلوا أهلها بحد السيف الباتر، فكونوا على حذر من القضاء والقدر. فأجابوه: إننا ضامنين وكافلين هدو الجمهور وعدم حدوث أمر من الأمور، ثم أمر إلى مصطفى كتخدا وعلماء الديوان أن يأخذوا الأهبة للمسير معه إلى العريش، فأجابوه بالسمع والطاعة.
وفي خامس يوم من شهر رمضان ركب أمير الجيوش بونابارته في العساكر، وصحبته مصطفى كتخدا والعلماء قاصدا مدينة بلبيس بالأبطال الجبابرة والعساكر الوافرة، وحين وصل إلى الصالحية هرب أمير الحاج محمد كتخدا الذي كان سابقا إلى مدينة غزة، ومن هناك سار إلى عكا، وحين دخل على الجزار قال له: أنت الذي كنت أغة الإنكشارية؟ قال: نعم، ولكنني هربت منهم وأتيت إليك، فقال له الجزار: ما أنت إلا جاسوس، ثم أمر بقتله.
وكان العلماء بعد وصولهم إلى الصالحية أعرضوا إلى أمير الجيوش أنهم لا يقدرون على الأسفار في البراري والقفار، فأذن لهم بالرجوع، وسار أمير الجيوش بتلك الجموع، وكان قد أمر أمير الجيوش إلى كبار الديوان؛ الشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ محمد المهدي الباقيين في مدينة مصر أن يرسلوا مكاتيب لساير الأقاليم، ويعرفوهم عن مسيره إلى الديار الشامية، فكتبوا كما أمرهم، وطبعوها في المطبعة، ووزعوها على ساير الأقاليم، وهذه هي صورتها:
صورة الكتابة
في محفل ديوان مصر الخصوصي إلى جميع الأقاليم المصرية: نخبركم أن أمس تاريخه خامس شهر رمضان المعظم توجه حضرة الدستور المكرم سرعسكر الكبير بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية مسافرا، يغيب مقدار ثلاثين يوما؛ لأجل محاربة إبراهيم بيك الكبير وبقية المماليك المصرية حتى يحصل الراحة الكلية للأقاليم المصرية من هؤلاء الأعداء الظالمين، الذين لا راحة فيهم ولا رحمة في دولتهم على أحد من رعيتهم.
صفحه نامشخص
وقد وصل الآن مقدمة الجيوش الفرنساوية إلى العريش، وعن قريب يأتيكم خبر قطيعة إبراهيم بيك ومن معه من المماليك نظير ما وقع في قطيعة أخيه مراد بيك ومن معه في إقليم الصعيد، فيقطع دابرهم من بر الشام كما انقطع دابرهم من إقليم الصعيد بالتمام، ويبطل القيل والقال وتذهب الكاذبة التي تسمعونها من أوباش الرجال.
ونخبركم أن حضرة السرعسكر المشار إليه يتجدد له كل يوم نية الخير والرحمة، ويحدث في تصميم الشفقة والرأفة، هذه هي نيته لكم في كل آل الأقطار المصرية، ويحصل لهم النجاح والصلاح، ويكمل في ساير أقطارها السرور والإصلاح، وتفرح أقاليمها على يد سلطانها بونابارته بمشية الله الذي مكنه فيها ونصره على من ظلم فيها من المماليك المفسدين، ولا يتم خلاصهم بالكلية وتتطهر من دولة المماليك الردية إلا ببذل همته ورأيه السديد في تكميل نظامها بغنايهم لسيوفه الباترة، وتكمل زروعها الفاخرة وأنواع تجارتها الباهرة، ويحدث فيها برأيه وحسن تدبيره التحف من أنواع الحرف والصنايع النفيسة، ويجدد فيها ما اندثر من صنايع الحكماء الأولين، ويرتاح في دولته كل الفقراء والمساكين.
فالتزموا يا أهل الأرياف والفلاحين بحسن المعاملة والأدب، واجتنبوا في غيبته أنواع الكذب والقبايح حتى يراكم حين يقرب بعد هذا الشهر قد أحسنتم المعاملة ومشيتم على الاستقامة، وينشرح صدره منكم ويرضى عليكم وينظر إليكم بعين الشفقة، وإن حصل منكم في غيابه أدنى خلل ومخالفة حل بكم الوبال والدمار، ولا ينفعكم الندم ولا يقر لكم قرار، واعلموا أن إذهاب دولة المماليك بقضاء الله وقدرته ونصرة سلطانكم أمير الجيوش عليهم بتقدير الله وأمره، والعاقل يمتثل إلى أحكام الله ويرضى بمن ولاه، والله يؤتي بملكه من يشاء. والسلام عليكم ورحمة الله.
الداعي لكم الفقير
عبد الله الشرقاوي ريس الديوان الخصوصي
عفا الله عنه
الداعي لكم الفقير
السيد محمد المهدي الحنفاوي كاتم السر وباش كاتب الديوان
عفا الله عنه
وقد كنا ذكرنا أن أمير الجيوش أرسل إلى الجنرال كليبر أنه يسير بالعسكر الذي عنده في دمياط، ولما وصله ذلك الأمر سار من مدينة دمياط على طريق قطية، ومن هناك صار طالبا قلعة العريش، فتاه في الطريق وسار ثلاثة أيام من غير زاد، وألجأهم الجوع حتى أكلوا لحم الخيل والجمال، ثم اهتدوا على الطريق، وعند وصولهم للعريش كانت بعض عساكر الجزار واردين بقومانية وذخيرة إلى القلعة، فعندما نظروا الفرنساوية مقبلين تركوا القومانية وهربوا، ووصلت الفرنساوية وقد فرحت بتلك الذخيرة واكتفوا بها ثلاثة أيام، ثم حضر أمير الجيوش وباقي العساكر ونصب الوطاق أمام القلعة.
صفحه نامشخص
وكان في قلعة العريش ثمانماية مقاتل، وكان بينهم أحمد كاشف الكبير تابع عثمان بيك الأشقر، وإبراهيم بيك كاشف الحبشي، وفي ثاني الأيام أرسل إليهم أمير الجيوش أن يسلموا القلعة فلم يرضوا بذلك، فأمر بضرب المدافع وبقي الحصار على القلعة ثمانية أيام، ثم فرغت مونتهم وبارودهم، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأعطاهم الأمان وأن يخرجوا من القلعة بغير سلاح ويحصل الصلاح ويفوزوا بالنجاح، فلم يرضوا بذلك، وبعد يومين حضر قاسم بيك المسكوبي بجملة عسكر وجبخانة، وبقي بعيد عن القلعة، وكان قصده أن في الليل يدخل بغتة، فبلغ أمير الجيوش وصوله، وربطوا عليه الطريق، وكبسوه ليلا وذبحوا عساكره، ولم يسلم منهم غير القليل، وقتل قاسم بيك وعدة من الكشاف والمماليك، وأخذوا كل ما كان معهم، وحينما بلغ ذلك الذين في القلعة حاروا في أمرهم وأرسلوا يطلبون الأمان بحيث يخرجون بسلاحهم، فأمر لهم أمير الجيوش بذلك، وخرجوا إلى قدامه فأطلق سبيلهم، وكل واحد منهم ذهب إلى بلاده، وأحمد كاشف وإبراهيم كاشف وجماعتهما طلبوا من أمير الجيوش التوجه إلى مصر إلى منازلهم وأعيالهم فأذن لهم بذلك، وأرسلهم مع بعض من الصلدات لأجل حمايتهم في الطريق، وساروا إلى القاهرة وأدخلوهم على قايمقام الجنرال دوكا، وشاعت أخبارهم في مصر، وحضرت خلايق كثيرة لأجل الفرجة عليهم، ودخلوا إلى دار الكنانة بكل ذل وإهانة راكبين الحمير بملابس رثة، ومن بعد مقابلة القايمقام وشيخ البلاد توجهوا إلى بيوتهم، وبعد ثلاثة أيام مات أحمد كاشف من قهره وتوارى في قبره.
وأما أمير الجيوش بعد تسلمه قلعة العريش وضع بها جانب من العسكر، وقد أرسلوا إلى علماء الديوان بأن يوزعوا الكتابات كما جرت لهم العادة.
صورة كتابة علماء الديوان للديار المصرية
لا إله إلا الله المالك الحق المبين، ومحمد رسول الله الصادق الواعد واليقين، نعرف آل مصر وساير الأقاليم: أن توجهت الفرنساوية إلى الديار الشامية وحاصروا قلعة العريش من عشرة في رمضان إلى سبع عشر، ووقعت مقاتلة عظيمة خارج القلعة، وكان في القلعة نحو ألف وخمسماية نفر غير من قتل خارجها، فلما طال عليهم الحصار وتهدمت أسوار القلعة من ضرب الفرنساوية بالمدافع عليها وتيقنوا بالهلاك، طلبوا الأمان من حضرة السرعسكر الكبير فأعطاهم الأمان الكافي، وسافر منهم نحو ثمانماية من ناحية الشول إلى بغداد، وأنعم عليهم حضرة السرعسكر بالحياة بعد أن تيقنوا بالهلاك، وهكذا أصحاب المروات، هؤلاء أعتقهم وأطلق سبيلهم وبعض الكشاف والمماليك الذين كانوا في القلعة نحو ستة وثلاثين جنديا طلبوا من حضرة السرعسكر أن ينعم عليهم برجوعهم إلى مصر إلى أعيالهم وبيوتهم، فأحسن إليهم وأرسلهم إلينا وإلى وكيله، ودخلوا عليه يوم الأحد في ستة وعشرين رمضان معزوزين مكرومين، وأرسل السرعسكر أن يوتي بإكرامهم إن داموا على عهدهم الذي حلفوا به بالعريش، وإن خانوا وهانوا فيحصل لهم من يده الانتقام، وأمر في الفرمان أن الجنرال دوكا يأمر التجار بالقوافل إلى بر الشام لينتفعوا بالمكاسب أصحاب التجارة، وينتفعوا سكان بر الشام ببضايع مصر حسب العادة السابقة؛ ليحصل الأمان بحلوله في تلك الأراضي.
وكتب إلى حضرة وزيره الجنرال إسكندر برتية فرمان يخبرنا ويخبر حضرة الوكيل بالحالة التي وقعت إلى عساكر إبراهيم بيك وبعض من عسكر الجزار المساعدين له، وأن الفرنساوية وجدوا في قلعة العريش مخازن رز وبقسماط وشعير، وثلاثماية رأس من الخيل الجياد، وحمير كثيرة وجمال غزيرة، اكتسبته جميعه الفرنساوية، ومع ذلك عندهم الصفح عن إخلاصهم عند قدرتهم عليهم، وهذا من صفات أصحاب المروة من الرجال الأبطال، فيا إخواننا لا تعارضوا الملك المتعال، واتركوا أنفسكم من القيل والقال، واشتغلوا في إصلاح دينكم والسعي في معاش دنياكم، وارجعوا إلى الله الذي خلقكم وسواكم. والسلام عليكم ختام.
الفقير عبد الله الشرقاوي ريس الديوان حالا
عفا الله عنه
الفقير محمد المهدي كاتم سر الديوان حالا
عفا الله عنه
الفقير السيد خليل البكري نقيب السادات الأشراف
صفحه نامشخص
عفا الله عنه
وأما أمير الجيوش في تسعة عشر رمضان نهض بالعساكر من قلعة العريش إلى خان يونس، وفي الغد صارت مقدمات العساكر على مدينة غزة بنفوس معتزة، وأولهم الجنرال كليبر سرعسكر الجيش، والجنرال ميراد، وكانت عساكر الجزار وعساكر الغز في مدينة غزة، فعندما شاهدوا عساكر الفرنساوية مقبلين ولوا منهزمين، فدهمهم الجنرال ميراد بالرجال الشداد على الخيول الجياد، وأطلق عليهم الرصاص، فما مكثوا أمامه برهة يسيرة حتى ولوا منهزمين وإلى النجاة طالبين.
ولما كان الجنرال ميراد يحاربهم دخل الجنرال كليبر إلى البلد من غير قتال، وبات تلك الليلة في غزة، وفي الغد سير العساكر على مدينة يافا، وكانوا وجدوا في غزة حواصل ذخيرة من بقسماط وشعير، وأربعماية قنطار بارود، واثني عشر مدفعا، وحاصلا كبيرا من الخيام وكلل وقنابر عظام، فحازوا على الجميع، ولم يزالوا سايرين حتى وصلوا إلى يافا، وبنوا المتاريس أمام البلد ووضعوا المدافع عليها.
ومن بعد أربعة أيام من وصولهم وصل أمير الجيوش، واستخبر كم في البلد من العساكر؟ فقالوا له: نحو ثمانية آلاف، فكتب لهم وزيره إسكندر ينصحهم أن يسلموا البلد لسلامة أنفسهم، فلم يرضوا بالتسليم بل قبضوا على الرسول فتركوه مقتول، فبلغ أمير الجيوش ذلك فاغتاظ غيظا شديدا، وأمر بضرب المدافع والقنابر على المدينة، وابتدأ الحرب من أول النهار إلى الساعة التاسعة من ناحية حارة النصارى، ثم أمر أمير الجيوش بأن يهجموا على البلد هجمة واحدة، ويشنوا الغارة الجامدة، ويظهر ما عندهم من المكافحة والمجالدة، فغارت أوليك الشجعان، وكان ليلة عيد رمضان، فيا لها من ساعة كانت من ساعات القيامة! وتبا لها من ليلة لم يكن بها سلامة! وهجمت الفرنساوية هجم الأسود، وإذ شاهدتهم عساكر الإسلام أيقنوا بالموت والعدم والخلود، وبقوا نادمين وفي أمرهم حايرين، وإذ لم يجدوا لهم سبيلا للانهزام ولا منقذا ينقذهم إلى بر السلام، فسلموا إلى قضاء الله والأحكام، وطرحوا سلاحهم وسلموا أرواحهم، فبدت الفرنساوية يزجرونهم زجر الغنم.
ولم يزل هول الحرب في إمداد والكرب في اشتداد، وتتناتر الرءوس وتهلك النفوس، وتنهتك الأحرار وتنكشف الأسرار والأستار، وتقتل الرجال والنساء والأطفال، وفاق صوت البكاء والعويل على صوت البارود الجزيل، وكنت تنظر واحد يقتل واحد جذيل، وآخر دمه يسيل، والآخر بالأسر ذليل، ولا من يقيل ولا من يزيل، ولم يزل الجيش الفرنساوي في قتل وفتك وسبي وهتك، ورن سلاح وهز صفاح، وأخذ أرواح من أول الليل إلى آخر الصباح، وكان يوما أليما وحربا عظيما، وسلبوا كل ما في المدينة من المال والأمتعة الغوال، ولم يزل يعمل الصارم البتار إلى آخر النهار، وكان ذلك نهار العيد والخلق في حزن شديد، وحل الإنكيس في نهار ذلك الخميس.
وفي ذلك الحين مات من العساكر ما ينيف عن الخمسة آلاف ومن أهالي البلد ألفين، وقد هجمت الفرنساوية على المراكب التي في المينا، وأخذوا منها بضاعة ثمينة ، وأصبحت مدينة يافا لم يجد بها أحدا معافى، ولا بها مستتر وهي عبرة لمن اعتبر، وفي ثاني الأيام أحضر أمير الجيوش الأسارى، وأطلق سبيل من كان من الأقطار الشامية، وميز المصريين وأكرمهم غاية الإكرام، وكان منهم السيد عمر مكرم نقيب الأشراف، الذي كان هاربا وأعطاه الأمان، وأمره أن يرجع إلى الأوطان، وأما الهوارا والأرناوط أمر بقتلهم جميعا؛ لأن كان البعض منهم في قلعة العريش، وحين أطلقهم أمرهم أن يذهبوا إلى بلادهم سالمين فأتوا إلى مدينة يافا، وحاصروا بها فقتلهم جميعا من دون بعض أنفار من الأغاوات الكبار، وأرسلهم أسرى مع هجانة إلى قايمقام يعرفه بالأخبار عن هذا الانتصار، وأن يوزع من الديوان الكتابات كما جرت لهم عادات، ويخبر إلى المصريين في انتصار الفرنساويين على مدينة يافا.
صور الكتابات من علماء الديوان بمصر يعلموا الأقاليم بأخذ يافا
بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان مالك الملك يفعل في ملكه ما يريد، سبحان الحاكم العادل الفاعل المختار ذو البطش الشديد، هذه صورة تمليك الله - سبحانه وتعالى - جمهور الفرنساوية لبندر يافا من الأقطار الشامية.
نعرف أهالي مصر وأقاليمها من ساير البرية أن العساكر الفرنساوية انتقلوا من غزة ثالث وعشرين شهر رمضان، ووصلوا إلى الرملة في خامس وعشرين منه في أمان واطمئنان، فشاهدوا عسكر باشا الجزار هاربين بسرعة قايلين: الفرار الفرار، ثم إن الفرنساوية وجدوا في الرملة ومدينة اللد مقدار كبير من مخازن البقسماط والشعير، ورأوا فيها ألف وخمسماية قربة مجهزة قد جهزها الجزار ليسير بها إلى إقليم مصر مسكن الفقراء والمساكين، ومراده يتوجه إليها بأشرار العربان من سفح الجبل، ولكن تقادير الله تفسد الحيل، قاصدا سفك دماء الناس مثل عوايده السابقة، وتجبره وظلمه مشهور لأنه من تربية المماليك الظلمة المصرية، ولم يعلم من خسافة عقله وسوء تدبيره أن الأمر لله وكل شيء بقضايه وتدبيره.
وفي سادس وعشرين من شهر رمضان وصلت مقدمات الفرنساوية إلى بندر يافا من الأراضي الشامية، وأحاطوا بها وحاصروها من الجهة الشرقية والغربية، وأرسلوا إلى حاكمها وكيل الجزار أن يسلمهم القلعة قبل أن يحل بهم وبعسكرهم الدمار، فمن خساسة رأيه وسوء تدبيره سعى في هلاكه وتدميره، ولم يرد لهم جواب وخالف قانون الحرب والصواب، وقتل الرسول النحاب، وفي آخر ذلك اليوم السادس والعشرين تكاملت العساكر الفرنساوية على محاصرة يافا، وصاروا كلهم مجتمعين وانقسموا ثلاثة طوابير، الطابور الأول توجه على طريق عكا بعيد عن يافا أربع ساعات.
صفحه نامشخص