تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية
تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية
ژانرها
القاعدة الأولى
١ - العبادات الواردة على وجوهٍ متنوعة تفعل على جميع وجوهها في أوقاتٍ مختلفة
اعلم - رحمك الله تعالى - أن العبادات المشروعات نوعان: وذلك التقسيم باعتبار كيفياتها.
الأول: عبادات ليس لها إلا كيفية واحدة لا تتغير ولا تتبدل، فمن أصل شرعيتها شرعت على وجهٍ واحدٍ فقط، كالصلاة المفروضة مثلًا عدد ركعاتها ليس لها إلا وجه وحد، فصلاة الفجر ليس لها إلا كيفية واحدة وكذلك بقية الصلوات المفروضة (١)، وكذلك صوم رمضان لم يشرع إلا صفة واحدة وهو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
فهذا النوع من العبادات لا يدخل معنا في هذه القاعدة ولا تعلق له بها؛ لأن الواجب فيه هو فعله على هذه الصفة التي شرع عليها فقط.
والنوع الثاني: عبادات شرعت على كيفيات متنوعة، بحيث ثبت الدليل الصحيح بجواز فعلها على هذه الصفة وهذه الصفة، فهذه العبادات هي مناط قاعدتنا التي نحن بصدد شرحها، فكيف نفعل مع هذا النوع من العبادات؟ هل نقول: إن الشريعة متعارضة لأنها فعلت عبادة واحدة على وجوهٍ متنوعة؟ أو نقول: إننا نبحث عن الكيفية المتأخرة حتى تكون ناسخة لما قبلها من الصفات؟ أو نقول: نرجح بين هذه الكيفيات؟ أم نقول: بأننا نختار صفة واحدة منها وندع الباقي؟ هذه أسئلة تتوجه على هذا النوع من العبادات وإليك الإجابة عنها بالتفصيل:
السؤال الأول: هل الشريعة متعارضة بهذا التشريع؟
الجواب: بالطبع لا، فإننا نعتقد اعتقادًا جازمًا لاشك فيه أنه لا تعارض أبدًا بين الأدلة الشرعية الصحيحة؛ لأنها من عند حكيمٍ حميد، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وإثبات التعارض بينها اختلاف وتناقض يجب تنزيه الشريعة عنه فالكل من عند الله، ولو كان من عند غيره لوجدنا فيه اختلافًا وتناقضًا كثيرًا.
_________
(١) يقيد ذلك بما ذكر لأن في صفات الصلاة القوليه والفعليه ما هو مشروع على وجهين أو أكثر.
1 / 1
فهذا السؤال لا يمكن أن يقوله مسلم يعرف كمال الشريعة ويعرف عظمة الله وحكمته البالغة، فهو سؤال باطل ولأننا يمكن أن نجمع بين هذه الوجوه، وإذا أمكن الجمع فلا تعارض.
وأما السؤال الثاني: وهو ادعاء نسخ المتقدم بالمتأخر:
فهو باطل أيضًا؛ لأن النسخ فيه إبطال لأحد الدليلين، ولا يجوز إبطال شيء من الشرع إذا كان العمل به ممكنًا، فلا نقول بالنسخ إلا إذا لم يمكن العمل بكلا الدليلين وهنا يمكن العمل بكلا الدليلين فلا ننتقل إلى النسخ، لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ما أمكن، فهذا السؤال باطل أيضًا.
وأما السؤال الثالث: وهو البحث عن الترجيح:
فإن معنى الترجيح هو إبطال الدليل المرجوح إبطالًا تامًا فهو أعظم من النسخ، لأن النسخ إعمال لكلا الدليلين لكن في وقتين مختلفين فالدليل المنسوخ يعمل به قبل النسخ والدليل الناسخ يعمل به بعد النسخ، فالناسخ أبطل الدليل المنسوخ بعد تقرره أعني تقرر الناسخ. وأما الترجيح فهو إبطال للعمل بالدليل المرجوح مطلقًا بحيث أنه يكون دليلًا لم يعمل به قط ولذلك الأصوليون يجعلون الترجيح بين الأدلة متأخرًا في الرتبة عن النسخ إذا جاءوا يجمعون بين الأدلة المتعارضة في الظاهر، فإذا كنا لم نرض بالنسخ فمن باب أولى أننا نبطل سؤال الترجيح.
وأما السؤال الرابع: وهو اختيار أحد هذه الصفات والعمل به وترك الصفات الأخرى:
فهو باطل؛ لأنه ترجيح للصفة المعمول بها ولا مرجح لها؛ ولأن فيه إبطال للصفات الأخرى وهي مشروعة بدليل صحيح وإبطال أو إنكار شيء من الشرع لا يجوز، بل قد يكون كفرًا - والعياذ بالله تعالى -.
فإذا قلت: إذًا كيف العمل في هذا النوع من العبادات؟
1 / 2
أقول: العمل في هذا النوع من العبادات هو ما ورد في هذه القاعدة، وهو أننا نفعل هذه العبادة على جميع كيفياتها وصفاتها الواردة، فلا نترك صفة واحدة، فنفعلها على هذا الوجه تارة، وعلى الآخر تارة أخرى، وهكذا لأن كل صفة منها قد ثبتت بدليل شرعي صحيح وما ثبت بدليل صحيح فإنه يشرع العمل به ولا يجوز إبطاله، وهذا هو الجواب الصحيح الذي لا يجوز غيره ففيه الجمع بين الأدلة الشرعية، وبه تتآلف ولا يكون بينها اختلاف بوجه، إذا علم هذا فاعلم أن هذا التنويع في كيفية بعض العبادات من كمال الشريعة الإسلامية ومصداقًا لقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾ ثم اعلم أن هذا القول الراجح أعني فعل العبادة على جميع وجوهها له فوائد كثيرة:
فمن ذلك: حفظ الشريعة وعدم ضياع أو نسيان شيء منها، فإننا إذا فعلنا العبادة على جميع وجوهها نكون بذلك قد حفظنا جميع وجوهها من النسيان وهذا يدخل في إحياء السنن وقد قال رسول الله ﷺ: (من أحيا سنة من سنتي قد أميتت فله أجرها وأجر من عمل بها) .
ومن ذلك: تنويع العبادة على النفس حتى لا تمل فإن النفس غالبًا تحب التجديد وهذه الصفات المتعددة تشبع رغبة النفس في التبديل والتجديد فتكون النفس على نشاطٍ من فعلها دائمًا، فالنفس تحب ما كان متغيرًا متجددًا أكثر من حبها لما هو ثابت على صفة واحدة.
1 / 3
ومن ذلك: دوام استحضار النية عند العمل وعدم أخذه عادة فإن بعض الناس قد اتخذ العبادات ذات الصفة الواحدة عادة لا عبادة؛ لأن جسمه قد تعود على حركاتها فيأتي بها بلا خشوع ولا حضور قلب، كالصلاة مثلًا فبعض الناس قد تعود على حركاتها فتجده يكبر للإحرام ثم يكملها فإذا سلم إذا به لا يعرف ماذا قرأ وهل ركع أو سجد، فلا نية ولا خشوع لكن العبادات التي لها وجوه متنوعة تجعل الإنسان يستحضر صفتها التي سيفعلها عليه قبل الشروع فيها فيأتي بها شيئًا فشيئًا بنية حاضرة وقلبٍ خاشع وهذا مقصد بحد ذاته.
ومن ذلك: نشرها بين الناس حتى لا تنكر فإننا لو داومنا على صفةٍ من صفات هذه العبادة وتركنا ما عداها، بحيث لا يعرف الناس لهذه العبادة إلا هذه الصفة، فإننا لو غيرناها إلى صفةٍ أخرى ثبتت بدليل صحيح فإن الناس سوف ينكرون ذلك فيقعون في المحظور وهو إنكار شيء من الشرع، لكن لو فعلت هذه العبادة على جميع وجوهها وعرفها الناس بجميع صفاتها لما وقعوا فيما قد وقعوا فيه من قبل وهذا واضح محسوس.
ومن ذلك: أننا نعتقد أن الشارع حكيم لا يشرع شيئًا إلا وفيه حكمة بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها، فكل صفة من هذه الصفات لهذه العبادة تتضمن حكمة بالغة فلو اقتصرنا على بعضها دون بعض لفوتنا مصلحة الصفات المتروكة لكن لو فعلنا جميع الصفات فإننا سوف نكون حزنا جميع هذه الحكم والمصالح ولم نفوت شيئًا منها أبدًا وهذا مطمع كل مؤمن عاقل - والله المستعان -.
إذا علمت هذا فاعلم أن هذه العبادات أعني التي وردت على وجوه متنوعة لا تخلو من حالتين: إما أن يسوغ فعل جميع وجوهها في وقت واحد بحيث لا تتنافى مع بعضها لو جمعت كلها في فعلٍ أو وقتٍ واحد.
1 / 4
وإما أن لا يسوغ ذلك، فإن ساغ جمعها في فعلٍ أو وقتٍ واحد فلا بأس أن تفعل جميعًا في وقتٍ واحد كأذكار الركوع والسجود ونحوها (١)، وإن كان جمعها في فعلٍ أو وقتٍ واحدٍ لا يجوز فإننا نفردها فنفعل هذه العبادة على صفاتها المتنوعة في أفعالٍ أو أوقاتٍ متعددة كالأذان والإقامة على ما سيأتي توضيحه - إن شاء الله تعالى -، إذا علمت هذا فإلى الفروع حتى تتضح القاعدة ويزول الإشكال: فأقول:
منها: الأذان: فهو عبادة وردت بصفتين لا ثالث لها، الصفة الأولى: أذان بلال. والصفة الثانية: أذان أبي محذورة، فأذان بلال هو الوارد في حديث عمر الطويل الذي رواه مسلم، وفي حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وهو أذاننا المشهور في بلادنا السعودية – حفظها الله في طاعته – وليس فيه ترجيع، وأما أذان أبي محذورة فقد رواه مسلم وأصحاب السنن إلا أن مسلمًا ذكر التكبير في أوله مرتين ورواه الخمسة فذكروه مربعًا، وهو بترجيع، والترجيع هو قول الشهادتين بصوت منخفض يسمعه القريب ثم إعادتهما بصوتٍ مرتفع يسمعه البعيد، وهو الأذان المشهور في الدولة العثمانية في زمنها، فإذًا السنة هو أن نؤذن بأذان أبي محذورة في وقتٍ أو قطرٍ ونؤذن بأذان بلال في وقتٍ آخر أو قطرٍ آخر ولا يجوز أن يؤذن المؤذن الواحد في الوقت الواحد بأذانين بهذا وبهذا فهذا من البدعة ولكن يُؤَذِّن بهذا تارة وبهذا تارة وهذا واضح.
_________
(١) الإستنتاجات لايشرع جمعها، وألفاظ التشهد وألفاظ الصلاة على النبي ﷺ خلافًا لبعض أهل العلم، كالنووي ﵀.
1 / 5
ومنها: الإقامة: فهي عبادة وردت بصفتين، إقامة بلال وهي بالوتر في غير التكبير والإقامة أي في غير قوله (قد قامت الصلاة) وهي الإقامة المشهورة عندنا في هذه البلاد – زادها الله شرفًا ورفعة – وإقامة أبي محذورة وهي كأذان بلال بالضبط، فمن أذن بأذان بلالٍ سن أن يقيم بإقامته، ومن أذن بأذان أبي محذورة سن أن يقيم كإقامته، فنفعل هذه الإقامة تارة وهذه تارة (١) .
ومنها: صفة التورك في التشهد الأخير في الصلاة التي لها تشهدان: فهو عبادة ورد بثلاث صفات: الأولى: نصب اليمنى وإخراج اليسرى مفروشة تحت ساق اليمنى والقعود على المقعدة.
والثانية: فرش اليمنى وإخراج اليسرى بين فخذ اليمنى وساقها.
والثالثة: هي كالصفة الأولى لكن مع فرش اليمنى، وكلها ثبتت بأدلة صحيحة فمن السنة أن نفعل الصفة الأولى في صلاةٍ والثانية في صلاةٍ أخرى والثالثة في صلاة أخرى وهكذا، والله أعلم.
ومنها: صلاة الخوف فقد وردت على وجوهٍ مختلفة ومن السنة فعلها على جميع وجوهها في أوقاتٍ مختلفة وتفصيل صفاتها يطلب من كتب الحديث.
ومنها: مناسك الحج، من إفرادٍ وتمتعٍ وقران، يسن للإنسان أن يفعلها جميعها في سنين مختلفة، وهذا الفرع في النفس منه شيء؛ لأن بعض هذه الأنساك أفضل من بعض بالدليل الشرعي.
ومنها: ثبت أن النبي ﷺ توضأ مرتين مرتين وثلاثًا ثلاثًا، وبعض الأعضاء ثلاثًا وبعضها مرتين، فيسن أن نفعل هذه الوجوه في أوقاتٍ مختلفة والله أعلم.
ومنها: صفة صلاة الوتر يسن أن تفعل على جميع وجوهها وهي معروفة في كتب الفقهاء.
_________
(١) وفيه صفة ثالثة هي ظاهر حديث أنس في إقامة بلال انظرها في الشرح الممتع.
1 / 6
والفروع كثيرة جدًا، وفيما مضى كفاية - إن شاء الله تعالى -، فمن فهم هذه القاعدة فهمًا جليًا فإنه سوف يحل كثيرًا من الخلافات الفقهية التي يثيرها الفقهاء بسبب تنوع هذه الوجوه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وهو أعلى وأعلم.
القاعدة الثانية
٢ - لا يجوز تقديم العبادة على سبب وجوبها ويجوز بعد السبب وقبل شرط الوجوب
وهذه القاعدة أيضًا من القواعد المهمة في الفقه، لكن تنتظر حتى تفهم لمعرفة ما هو سبب العبادة؟ وما هو شرط وجوبها؟ وإليك البيان.
1 / 7
اعلم – رحمك الله تعالى – أن الشروط نوعان: شروط وجوب، وشروط صحة. والمراد هنا هو شروط الوجوب، أي الشيء الذي لا يتم وجوب العبادة إلا به، كالحنث لوجوب الكفارة فالكفارة في اليمين لا تجب إلا بعد الحنث أي مخالفة مقتضى اليمين، وكذلك زهوق النفس لوجوب كفارة القتل فكفارة القتل يشترط لوجوبها زهوق النفس وهكذا، فالشرط الذي تعنيه القاعدة هو ما لا يتم الوجوب إلا به، لا ما لا يتم الواجب إلا به، فإنه قد تقرر في الأصول أن هناك فرق بين الوجوب والواجب، فشرط الوجوب هو الذي يخصنا في هذه القاعدة فإن شرط الواجب هو ما لا يصح الفعل إلا به، كالطهارة للصلاة والإسلام لصحة العبادات، لكن الفعل يجب بدونه فالصلاة تجب ولو لم يتطهر الإنسان، والعبادات تجب على الكافر ولو لم يسلم، لكن لا تصح الصلاة إلا بالطهارة ولا العبادات إلا بالإسلام، وأما شرط الوجوب فهو الذي لا يتم وجوب العبادة أصلًا إلا به، فإذا تخلف فإنه يتخلف وجوبها، وهذا واضح جدًا، وأما السبب الذي نعنيه هنا فهو الذي يتوقف عليه جواز الفعل لا وجوبه، أي إذا تحقق فإنه يجوز الفعل لكن لا يجوز قبل تحققه كعقد اليمين فهو سبب انعقاد الكفارة، والجرح الموت هو سبب انعقاد الدية ودخول وقت الأولى من الصلاة المجموعة سبب لانعقاد فعل الثانية منهما، وهكذا، إذا علمت هذا فإن هذه القاعدة لا تدخل إلا في عبادة لها سبب وجوب وشرط وجوب، أما ما ليس له سبب وجوب فلا تدخل معنا كصيام شهر رمضان وصلاة الفريضة التي ليست بمجموعة إلى غيرها.
إذا علمت هذا فاعلم أن العبادة التي لها سبب وجوب وشرط وجوب لها ثلاث حالات:
1 / 8
إما أن تفعل قبل سبب وجوبها، وإما أن تفعل بعد تحقق السبب لكن قبل شرط الوجوب، وإما أن تفعل بعد شرط الوجوب، فإذا فعلت قبل سبب الوجوب فإنها لا تصح؛ لأن وقتها بعد لم يتحقق فكأنه صلى الظهر قبل دخول وقتها، وذلك كمن أخرج الكفارة قبل عقد اليمين فإنها تكون صدقة وليست بكفارة، وأما إذا فعلت بعد سبب الوجوب وقبل شرط الوجوب فإن هذا الفعل جائز، كمن أخرج الكفارة بعد عقد اليمين وقبل الحنث، وأما إذا فعلها بعد شرط الوجوب فإنها تجب حينئذٍ كمن كفر بعد الحنث.
وإذا كانت القاعدة بهذا الشرح لازالت لم تفهم فهاك الفروع حتى تتضح أكثر:
فمن ذلك: كفارة اليمين هي عبادة لها سبب وجوب وشرط وجوب، فلا يجوز إخراج الكفارة قبل عقد اليمين؛ لأنه سبب وجوبها، ويجوز إخراجها بعد عقد اليمين وقبل الحنث لتحقق سبب وجوبها، ويجب إخراجها بعد الحنث؛ لأنه شرط وجوبها. وعلى ذلك قوله ﷺ: (إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) فهذا دليل على جواز إخراج الكفارة بعد عقدها وقبل الحنث خلافًا لمن منع ذلك.
ومنها: الصلاة المجموعة كالظهرين والعشائين، يصير وقتهما كالوقت الواحد كما هو معلوم عند الفقهاء، فدخول وقت الأولى منهما أعني الظهر أو المغرب سبب لوجوب فعل الثانية أعني العصر والعشاء، ودخول وقت الثانية شرط لوجوبها، إذًا لا يجوز فعل الصلاة الثانية قبل دخول وقت الأولى، ويجوز فعلها بعد دخول وقت الأولى لتحقق سبب وجوبها لكنها لا تجب، إلا إذا دخل وقتها فتجب حينئذٍ، والله أعلم.
1 / 9
ومنها: كفارة القتل لها سبب وجوب وشرط وجوب، فسبب وجوبها هو الجرح القاتل، وشرط وجوبها هو الزهوق أعني زهوق روح المجروح فعلى هذا، لا تصح الكفارة أعني كفارة القتل قبل الجرح؛ لأنه سبب وجوبها، ولا يصح فعل العبادة قبل سبب وجوبها، ويجوز إخراجها بعد الجرح وقبل الزهوق لتحقق سبب وجوبها، أما إذا زهقت النفس فتجب حينئذٍ (١)، والله أعلم.
ومنها: الزكاة عبادة لها سبب وجوب وشرط وجوب، فسبب وجوبها هو تمام النصاب، وشرط وجوبها حولان الحول، فعلى هذا، فلا زكاة قبل تمام النصاب لعدم انعقاد سبب وجوبها، وتجوز بعد تمام النصاب وقبل حولان الحول، أما إذا حال الحول فتجب حينئذٍ، وهذه القاعدة تؤيد قول من قال بجواز تقديم الزكاة بعد تمام النصاب لعامٍ أو عامين، والله تعالى أعلى وأعلم.
ومنها: صلاة الجمعة لها سبب وجوب وشرط وجوب، فسبب وجوبها هو يومها وشرط وجوبها هو الزوال فلا يجوز فعلها قبل سبب وجوبها ويجوز بعده وتجب بعد الزوال، وهذا دليل (٢) لمن قال بجواز فعلها قبل الزوال كما هو المذهب، ولكن في النفس من هذا الفرع شيء كبير فالله تعالى أعلم.
_________
(١) لا إطعام في كفارة القتل على أرجح قولي العلماء لعدم ذكره في آية النساء وهو الشهور من المذهب فالتفريع على المرجوح، ويمكن إبدال إخراجها بفعلها أي الصيام.
(٢) هذا ليس دليلًا لأنه مبني على مذهب الذين يرون جواز إقامة الجمعة قبل الزوال لأدلة من السنة ينازع في مدلولات بعضها ويضعف بعضها، ومن أصح أدلتهم مع قوة سنده فعل ابن الزبير وقول ابن عباس أصاب السنة. حين صلى العيد يوم جمعة ولم يصل حتى العصر ففهم منه أنه قدم الجمعة واكتفى بها عن صلاة العيد. تراجع المسألة في نيل الأوطار.
1 / 10
ومنها: الطهارة عبادة لها سبب وجوب وشرط وجوب، فسبب وجوبها الحدث وشرط وجوبها القيام إلى الصلاة فتجوز الطهارة بعد الحدث وقبل القيام إلى الصلاة وتجب عند إرادة القيام إلى الصلاة؛ لأنه شرط وجوبها، والله أعلم.
وأحسب أنه بهذه الفروع قد فهمت هذه القاعدة فهمًا جليًا وعليها فقس، لكن كما ذكرت سابقًا أن فهمهما متوقف على معرفة سبب الوجوب وشرط الوجوب، والله تعالى أعلى وأعلم.
القاعدة الثالثة
٣ - لا ينقض الأمر المتيقن ثبوتًا أو نفيًا بشك عارض
هذه من القواعد الخمس الكبرى، وتدخل في غالب أبواب الفقه وبالتحديد تدخل هذه القاعدة في كل فرعٍ يتجاذبه يقين وشك فتسقط الشك وتحكم باليقين ذلك؛ لأن الشك لا يقوى على رفع اليقين؛ لأنه أضعف منه، والضعيف لا يقوى على رفع القوي ولها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
فمن ذلك: قوله تعالى: ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ فالحق هو اليقين والظن هو الشك فعاب الله جل وعلا على من اتبع الظنون الكاذبة وترك الحق الثابت بالدليل الواضح.
ومن ذلك: قوله ﷺ: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثًا أم أربعًا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن) الحديث، وهو نص في القاعدة فقد أمر بإطراح الشك والبناء على اليقين وهو معنى قولنا: (اليقين لا يزول بالشك) .
ومنه: قوله ﷺ في حديث عبد الله بن زيد عند الشيخين: أنه شكى إلى الرسول ﷺ الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: (لا ينصرف أو لا ينفتل حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا) أي فيبقى على يقين الطهارة حتى يتأكد من خروج الريح الناقضة للوضوء وهو نص في هذه القاعدة.
1 / 11
ومن ذلك: حديث أبي هريرة عند مسلم، وعن ابن عباس نحوه عند البزار وكذا للحاكم عن أبي سعيد وغير ذلك كثير، بل والاعتبار الصحيح يقتضي ذلك كما ذكرنا أن الضعيف لا يقوى على رفع القوي؛ لأن ما تيقن ثبوته بدليل أو استصحاب حال، أقوى مما شك فيه أهو ثابت أم لا؟ فإذا سئلت عن سؤال فيه تجاذب بين شيء متيقن وشيء مشكوك فيه، فاعرف أنه داخل تحت هذه القاعدة فأسقط الشك واحكم باليقين، ثم اعلم أن قاعدة الأصول في الأشياء داخلة تحت هذه القاعدة الكبرى، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.
فإن قلت: إذا كان الشك لا يرفع اليقين فهل يرتفع اليقين بيقين مثله؟
قلت: نعم، إن اليقين لا يزول بالشك لكن يزول بيقين مثله، وغلبة الظن منزلة منزلة اليقين، وعلى ذلك قوله ﷺ: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا) أي حتى يأتي يقين آخر أي يقين الحدث ليرفع يقين الطهارة وإلا فهو باقٍ على طهارته ولا مزيد على هذا لكن نضرب بعض الفروع حتى يتضح التطبيق عليها:
فمنها: إذا سئلت عن رجلٍ توضأ للعصر ثم دخل وقت المغرب وأراد أن يصليها فشك هل أحدث أو لا؟ فقل: أنت تيقنت الطهارة الذي هو وضوء العصر، وشككت في الحدث، فأنت على ما تيقنته وهو الطهارة؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
ومنها: شك رجل هل صلى الفجر أو لا؟ فقل: إن اليقين هو أنك لم تصل؛ لأن الأصل عدم الصلاة والشك حصل في وجودها فنبقى على الأصل الذي هو عدم الصلاة واليقين لا يزول بالشك فعليك أن تصلي الآن.
ومنها: رجل أكل شاكًا في طلوع الفجر فإذا هو قد طلع، فقل له: إن اليقين هو بقاء الليل وطلوع الفجر مشكوك فيه واليقين لا يزول بالشك فالأصل بقاء الليل فصيامك صحيح لأنك عملت باليقين (١) .
_________
(١) هذا هو الراجح خلافًا للمشهور من المذهب.
1 / 12
ومنها: رجل تيقن النكاح وشك في الطلاق، فنقول: اليقين هو النكاح والمشكوك فيه هو الطلاق، فأنت على نكاحك؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
ومنها: شك إنسانٌ هل صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فنقول: اليقين هو أنك صليت ثلاثًا والركعة الرابعة مشكوك فيها والأصل عدمها فعليك أن تجعلها ثلاثًا وتسجد للسهو قبل السلام (١) وعلى ذلك دل حديث أبي سعيد عند مسلم.
ومنها: طاف وشك هل طاف سبعًا أو ستًا فاليقين أنه طاف ستًا والسابع مشكوك فيه فيزيد واحدًا، والقول الجامع في هذا هو أن كل شيء الأصل عدمه وشك في فعله فيحكم بعدم الفعل (٢)، وكل شيء الأصل ثبوته وشك في عدمه فالأصل بقاؤه. وعلى ذلك فقس، والله تعالى أعلى وأعلم.
القاعدة الرابعة
٤- لا يعتبر الشك بعد الفعل ومن كثير الشك
هذه القاعدة فرع من القاعدة السابقة وخلاصتها: أن الشك يصدر من أحد رجلين، إما أن يصدر من رجلٍ كثير الشك فهو مريض بالوسواس - والعياذ بالله - من ذلك، وإما أن يصدر الشك من رجل معتدل الشكوك.
فالأول: شكه غير معتبر وليس معمولًا به أبدًا لأن مراعاة شك هذا الرجل وبال عليه وتكليف له بما لا يطاق وتكليف ما لا يطاق منتفٍ شرعًا، بل يعالج هذا الرجل بعدم الالتفات إلى شكه بل يفعل الفعل بجزم وحزم ولا يفكر في أي شك يتطرق إليه، إذًا شك كثير الشكوك ليس بمعتبر أي لا نبني عليه حكمًا.
_________
(١) إلا إذا كان عنده غلبة ظن فليتحرى ويعمل بغلبة ظنه كما في حديث ابن مسعود وهو في الصحيح راجع الشرح الممتع وفتاوى شيخ الإسلام وبهذا القول تجتمع الأحاديث.
(٢) يقال في الطواف مثل ما قيل في المثال السابق.
1 / 13
وأما: إن صدر الشك من رجلٍ معتدل الشكوك فهذا لا يخلو من حالتين: إما أن يصدر هذا الشك أثناء الفعل أي في حال فعل العبادة، وإما أن يصدر بعد فعلها وانتهائه منها، فإذا صدر الشك بعد العبادة فهو شك ملغىً أي ليس معتبرًا؛ لأن الأصل أن الإنسان فعل العبادة تامة وهذا الشك من وسوسة الشيطان وعلاجه عدم الالتفات إليه. وأما إن صدر هذا الشك في أثناء العبادة فهو شك معتبر يعمل به حينئذٍ؛ لأن الشيء الذي شك فيه الإنسان في العبادة الأصل عدمه.
ومن شك في فعلٍ هل فعله أو لم يفعله؟ فالأصل أنه لم يفعله فيأتي بالشيء الذي شك فيه؛ لأن اليقين لا يزول بالشك، إذًا صار الشك عندنا لا يعتبر في حالتين ويعتبر في حالة واحدة، فلا يعتبر الشك من كثير الشكوك مطلقًا سواءً أثناء العبادة أو بعدها ولا يعتبر الشك من معتدل الشكوك بعد الانتهاء من العبادة، ويعتبر الشك من معتدل الشكوك في أثناء العبادة وبهذا تكون القاعدة قد بانت معالمها وفي ذلك قلت:
والشك بعد الفعل ليس يعتبر ... ... ومن كثير الشك أيضًا مغتفر
ونضرب بعض الفروع على كل الحالات الثلاث حتى تتضح القاعدة أكثر فأقول:
منها: رجل كثيرة شكوكه فصلى العصر ثم شك هل جلس للتشهد الأول أو لا؟ فالجواب: هذا الشك لا يعتبر سواءً صدر من كثير الشك أو من معتدل الشك، أما عدم اعتباره من كثير الشك فلما مضى أن كثير الشكوك مريض يعالج بأمره بترك شكه وأما وجه عدم اعتباره من معتدل الشك فلأن هذا الشك لم يقع إلا بعد الفعل أي بعد الانتهاء من صلاة العصر والشك من معتدل الشك بعد انتهاء الفعل لا يؤثر، إذًا نقول: صلاة العصر من هذا الرجل صحيحة على كل اعتبار ولا يلتفت إلى شكه مطلقًا ما لم يحصل عنده يقين أنه ترك ذلك.
1 / 14
ومنها: رجل يطوف وشك وهو أثناء الطواف هل طاف أربعًا أم خمسًا فما الحكم؟ الجواب: أننا نسأل أولًا هل هذا الرجل ذو شكوك كثيرة أو معتدل الشك فإن كان الرجل ذا شكوك كثيرة فنقول لا تلتفت إلى هذا الشك؛ لأنك مريض بكثرة هذه الشكوك واجزم في الفعل ولا تلتفت إلى هذا الشك، وإن كان الشك من معتدل الشكوك فنقول شكك معتبر ولم تطف إلا ثلاثة أشواط لأن الأصل عدم الرابع وقلنا شكه معتبر (١)، لأنه معتدل الشك ووقع أثناء الفعل.
ومنها: رجل توضأ وانتهى ثم شك هل مسح رأسه أو لا؟ فنقول: إن كان كثير الشك فلا يلتفت إليه مطلقًا وإن كان معتدل الشك أيضًا لا يلتفت إليه؛ لأنه حصل بعد الانتهاء من الفعل والشك بعد الفعل لا يؤثر.
ومنها: رجل في أثناء رمي الجمرات شك هل رمى سبعًا أم ستًا؟ فالجواب: إن كان كثير الشك فلا يلتفت إليه ويرمي ما في يده إن بقى معه شيء وإلا فليمض وإن كان معتدل الشك فشكه معتبر ويزيد سابعة (٢)؛ لأن الأصل عدمها وهكذا.
وبهذا تكون القاعدة قد بانت ولا إشكال فيها - إن شاء الله تعالى -.
وخلاصة الكلام أنه إذا وجه إليك سؤال فيه شك فقبل الجواب تسأل عن سؤالين:
الأول: هل الذي صدر منه الشك كثير الشكوك أو معتدل الشكوك، فإن كان الأول فأبطل شكه، وإن كان الثاني فاسأل هل حدث الشك بعد انتهاء الفعل أو في أثناء الفعل، فإن كان الأول فأبطل شكه، وإن كان الثاني فهو شك معتبر، والله تعالى أعلى وأعلم.
القاعدة الخامسة
٥ - إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل
_________
(١) والراجح أنه إن كان عنده غلبة ظن فليبن عليه.
(٢) والراجح بناؤه على غلبة ظنه إن وجد.
1 / 15
العبادات عندنا نوعان: عبادة إذا فاتت لا يشرع لها بدل كالوقوف بعرفة إذا فات يومه لا بدل له، وكالصلوات المفروضات إذا فوتها الإنسان ولم يؤدها فإنه لا بدل لها، بل لا كفارة لها إلا فعلها بعينها ونحو ذلك، فهذه العبادات لا تدخل معنا في هذه القاعدة وحكمها أنها تسقط المطالبة بها بالعجز عن أداتها مطلقًا لا إلى بدل.
والنوع الثاني: عبادات إذا فاتت فإنها تفوت إلى بدل يعني لها بدل يقوم مقامها يجزئ عنها وتتحقق منه المصلحة التي تتحقق من المبدل، فهذه العبادات الأصل أن تفعل هي ولا يجوز الانتقال إلى أبدالها إلا عند تعذرها أو العجز عنها، فإذا تعذرت أو عجزنا عنها فإننا ننتقل إلى بدلها، إذًا البدل لا يجزئ ولا يدخل في حيز المطالبة إلا إذا تعذر أصله، فمن انتقل إلى البدل مع القدرة على الأصل، فإن البدل لا يجزئه ويأثم بتفويت الأصل وهو قادر عليه، بل قال بعضهم: إن البدل لا يدخل في حيز العبادات إلا بعد العجز عن أصله، ولهذا القول وجه من النظر، والمراد: أنه لا يجوز الانتقال إلى البدل إلا إذا عدمنا المبدل، ثم اعلم: أن البدل إذا تعذر اصله فإنه يقوم بجميع ما يقوم به أصله وإن اختلف معه في الصورة، وبالفروع يتضح الكلام فأقول:
1 / 16
منها: الطهارة الصغرى عن الحدث الأصغر أو الكبرى عن الحدث الأكبر لها بدل وهو التيمم بالتراب الطاهر، فإذا كان الإنسان يجد الماء ويقدر على استعماله فلا يجوز له حينئذٍ أن ينتقل إلى التيمم، وأما إذا عدم الماء أو وجده ولكن لا يستطيع استعماله لعذرٍ من حرقٍ ونحوه، أو لأن البئر عميقة والماء غائر ولا دلو معه ولا حبل، فيجوز له حينئذٍ أن ينتقل إلى التيمم، وعلى ذلك قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ فإذا انعدم ما يطلق عليه ماء فينتقل إلى التيمم، وهذا قول الجمهور، أما الحنفية فإنهم يجيزون الوضوء بالنبيذ إذا لم يشتد لحديث يروونه لكن فاتهم الصواب، وحديثهم ضعيف جدًا، والله تعالى أعلى وأعلم.
ومنها: أن الإنسان إذا عجز عن الركوع والسجود الذي هو الأصل فإنه ينتقل إلى الإيماء بهما ويجعل سجوده أخفض من ركوعه لكن مادام قادرًا على حني ظهره لركوع تام ووضع جبهته على الأرض لسجود تام فيكون هو المتعين عليه، ولا ينتقل عنه، والله تعالى أعلم.
ومنها: الأصل أن من حج متمتعًا أو قارنًا فإنه يجب عليه الهدي وهو أن يذبح من بهيمة الأنعام يوم النحر ما يجزئه، لكن إذا عجز الإنسان عن الهدي فإنه ينتقل إلى البدل وهو الصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله تلك عشرة كاملة كما في سورة البقرة، إذًا لا يجوز العدول عن الأصل مع القدرة عليه.
ومنها: الأصل في كفارة اليمين هو أن يكفر الإنسان بثلاثة أشياء على التخيير وهي: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فالحالف مخير بين هذه الأشياء الثلاثة أي واحد فعله فإنه يجزئ عنه ولو كان قادرًا على غيره، لكن إذا عجز الحالف عن كل هذه الثلاثة فإنه ينتقل إلى البدل عنها وهو أن يصوم ثلاثة أيام، إذًا لا يجوز الانتقال إلى الصوم إلا إذا عدمنا هذه الثلاثة؛ لأنه لا يجوز الانتقال إلى البدل إلا إذا عدم الأصل.
1 / 17
ومنها: الأصل أن كل قادرٍ على الحج بنفسه أنه يجب عليه أن يحج ببدنه لكن إذا عجز عن الحج بنفسه لمرض كالمعضوب ونحوه وقدر بماله فعليه أن يقيم من يحج عنه، وهذا بدل عن الحج بنفسه، ولم يجز ذلك إلا لأن الأصل تعذر وإذا تعذر الأصل صرنا إلى البدل.
ومنها: الأصل أن قراءة الفاتحة ركن في الصلاة على كل قادرٍ على تعلمها، لكن إن عجز الإنسان عن تعلمها أو ضاق وقت الصلاة ولم يتعلمها بعد، فينتقل إلى البدل وهو التسبيح والتهليل والتكبير والحوقلة، ودليلها حديث أبي أوفى (١)، فلما عجزنا عن الأصل انتقلنا إلى البدل.
ومنها: كفارة الظهار والقتل الخطأ أو شبه العمد هي على الترتيب فلا يجوز الانتقال إلى الثاني إلا إذا عدم الأصل، والله أعلم.
مسألة: إذا عجز الإنسان عن الأصل ثم انتقل إلى البدل ثم قدر على الأصل فهل يلزمه أن ينتقل إلى الأصل لزوال المانع أو يجزئه البدل؟
الجواب: هذا سؤال مهم جدًا، وجوابه أن يقال: إذا قدر الإنسان على الأصل بعد الانتقال إلى البدل فلا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يقدر على الأصل قبل الشروع في البدل أو فيما يكون البدل شرطًا فيه، فهذا يجب عليه الانتقال إلى الأصل ولا يجزئه البدل، كمن قدر على الماء قبل الشروع في الصلاة فيلزمه إعادة التطهر بالماء وتبطل طهارة التراب، وكمن قدر على الهدي قبل الشروع في الصيام فيلزمه أن يذبح الهدي فلو صام بعد القدرة على الهدي لانقلب صيامه نفلًا ولا يجزئه عن الهدي، وكمن قدر على إحدى خصال الكفارة قبل الشروع في الصوم فيلزمه أن يكفر بالمقدور عليه منها، وذلك لأننا أجزنا له الانتقال إلى البدل لأن الأصل قد تعذر، فشرط الانتقال إلى البدل هو تعذر الأصل فلما قدر عليه مرة أخرى زال الشرط الذي به يباح البدل فالأصل مقدور عليه الآن وإذا قدرنا على الأصل لم يجز الانتقال للبدل.
_________
(١) حبذا لو ذكر.
1 / 18
الحالة الثانية: أن لا يقدر على الأصل إلا بعد الفراغ من فعل البدل أو فعل ما يشترط البدل لصحته فهذا يجزئه فعل البدل وفعل ما يشترط البدل لصحته كمن قدر على الهدي بعد الانتهاء من الصوم فهذا لا يلزمه الهدي لأن المطالبة سقطت بفعل البدل، وكمن قدر على الماء بعد الفراغ من الصلاة فهذا صلاته صحيحة ولا يلزمه إعادتها، بل ليس من السنة إعادتها وعلى ذلك حديث أبي سعيد (١)، وكمن قدر على الحج بنفسه بعد فراغ وكيله من أعمال الحج فهذا سقط عنه الحج الواجب وإن حج بعد ذلك فنافلة.
الحالة الثالثة: وهي محط قوة الخلاف وإلا فالخلاف في الحالة الثانية قليل، لكن هذه الحالة هي التي كثر خلاف العلماء فيها وهي أن يقدر على الأصل في أثناء فعل البدل أو في أثناء فعل ما يشترط البدل لصحته فهذا كمن قدر على الحج بنفسه بعد شروع وكيله في الحج وقبل الانتهاء من أعمال الحج، وكمن قدر على الهدي بعد الشروع في الصيام وقبل الفراغ منه، وكمن وجد الماء بعد البدء في الصلاة وقبل الفراغ منها، وكمن قدر على التكفير بأحد الخصال الثلاث بعد الشروع في الصوم وقبل الفراغ منه، فهل يكمل فعل البدل حتى مع القدرة على الإتيان بالأصل أو يقطع البدل وينتقل إلى الأصل؟
_________
(١) حبذا لو ذكر حديث أبي سعيد بلفظه.
1 / 19
في المسألة قولان: قيل: بإجزاء البدل، وقيل: بوجوب الانتقال إلى الأصل، وبعضهم فرق بين المسائل المذكورة ففي بعضها أفتى بالإجزاء وفي بعضها أفتى بوجوب الانتقال إلى الأصل [وإني بقيت ردحًا من الزمان أبحث عن ضابط يفرق بين المسائل التي يلزم فيها الإنسان أن ينتقل إلى الأصل حال القدرة عليه والتي لا يلزمه الانتقال إليه ولو مع القدرة، فلم أجد لذلك أثرًا في كتب الفقهاء، إلا ما وجدته في كتاب "القواعد" لابن رجب ولكنه فارق ليس بواضح كثيرًا؛ ولأنه جعل فيه مسائل مترددة بين الأصلين زادت من وهج المشكلة، ثم لما انقطعت الحبال في يدي توجهت إلى الله تعالى بالدعاء أن يفرج كربي وأن ينفس همي وأن يدلني على ضابط هذه المسائل فاستجاب لي ولم يخيب رجائي وإني والله لأحقر من أن يلتفت الله لدعائي لأنه يعلم ما عندي من الذنوب والمعاصي، ولكنه الراحم المتفضل، فهداني إلى ضابط عظيم جدًا قست عليه جميع المسائل فوجدتها مطردة عليه، بل ويوافق تخريجها على هذا الضابط كل الأدلة وما قاله الفقهاء فحمدت الله تعالى وسجدت له شكرًا على هذه النعمة، وإنها والله لأغلى عندي من نعمة الولد والزوجة والمال، بل وأغلى عندي من نعمة الحياة ذاتها فارتاح خاطري وهدأت نفسي، وإليك الآن شرح هذا الضابط لأنه يحتاج إلى شيء من الفهم] .
فأقول: إن الانتقال من الأصل إلى البدل لا يخلو من حالتين:
1 / 20