والشهادات: منها ما هي في الأَمر المتنازع فيه، ومنها ما هي في الشهود، ومنها ما هي في المتخاصمين. والشهادة على الشهود: منها ما هي في تقويتهم، ومنها ما هي في توهينهم. وأَما الشهادة على المتخاصمين فهي بتعديل أَحدهما وتجريح الآخر. والشهادة على الشهود تكون إِما أَنه صديق أَو عدو، وإِما أَنه وسط بين المدعى والمدعى عليه، وهو أَلا يكون صديقا لأَحدهما ولا عدوا للآخر. وهنا فصول أُخر في الشهود سوى هذه الفصول سيقال فيها حيث يقال في المواضع العامة التي تعمل منها الضمائر وذلك في المقالة الثانية من هذا الكتاب.
فهذا جملة ما قاله في الشهادات.
القول في العقود
والعقود هي الشرائط التي يتفق عليها بعض الناس مع بعض. والشرائط التي يتفق عليها إِنما هي نافعة في أَمرين: أَحدهما في تخسيس المعترِف بها وذمه، إِذا لم يقف عندها وهو مصدق بها، وفي مدحه إِذا وفي بها. والمنفعة الثانية في تصديق المدعى وتكذيب المدعى عليه إِذا أَنكرها. وليس في هذا الموضع فرق بينها وبين الشهود، وذلك أَن الشروط إِذا كانت مكتوبة أَو شهد عليها الشهود قامت مقام الشهود في تبيين الأَمر الذي فيه الخصومة وتبيين حال الذين يتخاصمون، أَعني كيف أَحوالهم في الفضيلة والرذيلة. وذلك أَن التزام الشرط يدل على الفضيلة، ومخالفته تدل على الرذيلة. وإِذا اعترف الخصم بالشرط وادعى أَنه لا يلزمه، فقد يحتاج المتكلم أَن يقنع في وجوب لزوم الشرط بأَن يقول: الشرط سنة خاصية وجزئية فيجب الوقوف عنده على الجهة التي يجب الوقوف عند السنن. وإِذا كانت السنة مخالفة للشرط، قال: إِن السنة ليس تحكم على الشرط ولا ترأَسه، لأَن السنة تقتضي مصلحة عامة والشرط مصلحة خاصة، والخاص يحكم على العام؛ فإِذن الشرط هو الذي يرأَس السنة، لا السنة ترأَس الشرط. وإِن لم تكن مخالفة له، أَعني للشرط، قال: إِن الشرط نوع من السنة، إِن كانت السنة موضوعة عندهم بالاصطلاح، أَو أَن السنة توجب الوقوف عند الشرط، إِن كانت السنة عندهم بوحي من الله.
وموضع آخر: وهو أَن يقول إِن الشروط هي التي تقتضي المصالح الخاصة بحسب شخص شخص ووقت وقت. فإِن لم يوقف عند الشرائط، بطلت المصالح. وإِن الشرط هو الذي يلتزمه الإِنسان باختياره وعن رويته. وما هو بهذه الصفة فلا يعذر في أَلا يقف عنده. إِلى غير ذلك من المواضع التي تشبه هذه مما يطول الكلام بذكرها إِن ريم استقصاؤها في هذا الموضع.
فهذا ما قاله في الأَشياءِ التي تثبت بها الشروط. وأَما الأَشياءُ التي تزيف منها الشروط إِذا رأَى المتكلم أَن الأَصوب والأَصلح تزييف الشروط فهي: السنن المكتوبة والسنن العامة؛ مثل أَن يقول: إِن السنن المكتوبة أَشد مشاكلة ومناسبة للمصالح، لأَن السنة المكتوبة مشتركة، والمشتركة أَعم صلاحا من الخاصة التي هي الشرط. والصلاح العام أَهم من الصلاح الخاص.
وموضع آخر وهو أَن الشروط يمكن أَن يلتزمها الإِنسان لمكان مخالطة وخديعة تجرى عليه، وما توجبه السنن ليس يمكن فيه الخديعة، فالسنن أَولى من الشروط.
وموضع آخر: وهو أَن يقول إِن الحاكم هو الفاحص عن العدل والكاشف عنه، أَعني العدل الذي يكون بحسب المدينة، ولذلك يجب عليه أَن يفحص عن العدل الذي اشترطاه في أَنفسهما، أَعني المتعاقدين. فإِن كان عدلا في المدينة، تركهما على الشرط. وإِن كان غير عدل أَبطل الشرط.
وأَيضا فإشن السنن لا توضع عن قسر ولا عن غلط؛ والشروط قد يمكن ذلك فيها. وبالجملة فينبغي أَن نتبع أَضداد الشرط في السنن، فإِن لم نلفه في السنة المكتوبة، فربما أَلفناه في السنة العامة، فزيفناه بذلك. وإِن أَلفيناه في المكتوبة احتججنا في إِبطاله بها سواء كانت السنة سنة تلك المدينة أَو سنة لمدينة ترأَس تلك المدينة.
ومما يبطل العقود أَن تكون هنالك عقود مضادة إِما متقدمة عليها وإِما متأَخرة عنها. والأَواخر أَبدًا في الأَكثر تقضي على الأَوائل. وقد تقضي المتقدمة على المتأَخرة، إِذا كانت المتقدمة صحيحة، والمتأَخرة مغلطة خادعة.
وأَيضا فينبغي للذي يزيف الشرط أَن يتأَمل أَلفاظه، فإِن كان فيها ما يمكن تحريفه، حرفه وأَخرجه عن المفهوم الذي يقتضي علة الحاكم. وهذا إِنما يمكن أَن يفعله من كان له بصر بالأَلفاظ المشتركة والمعاني المتشابهة.
فهذا آخر ما قاله في العقود.
1 / 52