والذين تكون لهم المنافع التي يستفيدونها من الجور ظاهرة بينة أَو عظيمة أَو قريبة حاضرة، والمضار اللاحقة عنه إِما قليلة وإِما مجهولة وإِما بعيدة في الزمان بطيئة، يسهل عليهم الجور، وذلك أَنهم لا يتركون النافع المتيقن به للضار المجهول وقوعه، وكذلك لا يتركون النافع العاجل لمكروه آجل، ولا المنافع الكثيرة لمكروه يسير. ومما يسهل الجور أَن يكون فعلا يمدح به الجائر ويذكر، مثل ما يعرض للذي يأْخذ ثأْره في الجائر عليه أَو في أَبيه وأمه. والذي يكون له ثأْر عند واحد من أَهل مدينة فيقتل أَهل المدينة بأَسرها، وبخاصة إِذا كان الضرر اللاحق لهم في المال والاغتراب فإِن هذا كثيرا ما يمدح به، كما قال الشاعر:
عليكم بداري فاهدموها فإِنها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا
وهؤلاءِ يظلمون في الأَمر والمنع، أَعني أَخذ ما ليس لهم ومنع ما عليهم. فهذه هي الأَشياءُ التي تسهل على أَهل الهمم والروية والجور. فأَما أَضداد هؤلاءِ في الأَخلاق والرأي وهم الضعفاءُ الرأي والخلق فقد يحركهم إِلى الجور توقع نفع يسير مجهول، أَعني غير متيقن أَن ينال أَو لا ينال، وقد يحركهم إِلى الجور خوف خسران يسير يدخل عليهم لا أَن يستفيدوا بجورهم شيئا يدخل عليهم سوى أَلا يخسروا شيئا يسيرا من كثير ما معهم وقد يحرك هذا الصنف من الناس إِلى الجور أَن يجوروا فيخطئوا غرضهم ولا يظفروا بما راموا من الجور فيحركهم ذلك على أَن يجوروا مرة بعد مرة، كما يعتري كثيرا من المنهزمين أَن يعودوا إِلى القتال على جهة اللجاج بعد أَن يهزم مرة ثانية. والذين تحركهم إِلى الجور اللذة في أَول الأَمر مع الحزن الذي يكون بأَخرة أَو يستعجلون المنفعة أَولا مع وقوع المضرة بهم في العاقبة، وأُخر هم أَيضا من هذا الصنف. فإِن الضعفاء الرأي قد يوجدون بهذه الحال عند كل ما يشتاقون إِليه. وأَضداد هؤلاءِ هم الذين يحركهم إِلى الجور أَن يكون المؤذي الضار متقدما لهم، واللذيذ النافع متأَخرا أَو بعد زمان. وهؤلاءِ فهم ذوو الأَصالة واللب الذين في الغاية، وهم أَهل الشر العظيم لأَنه يظن إِن تلك المنافع واللذات المتأَخرة لم ينالوها بجورهم، وإِنما نالوه بوقوع الجور منهم والضرر الذي يتعجلونه أَو الأَذى، فلا يظن بهم الجور أَصلا. وقد يحرك ذوي الدهاءِ والمكر إِلى الجور أَن يخرجوه في صفة ما لا يظن به أَنه جور. وذلك يكون بوجوه: أَحدها أَن يظن أَن ذلك الفعل كان باتفاق، أَو يظن أَنه كان بإِكراه، أَو يظن أَنه كان من أَجل طبيعة، أَو أَنه كان عن خطأ وجهل لا عن تعمد، أَو أَنه كان عن عادة تقدمت له، أَو يكون الفعل بحيث لا يستفيد منه شيئا ينتفع به في الحاضر بل في المستقبل. فإِن الذي لا يستفاد منه شيءٌ في الحاضر يظن به أَنه غير مقصود لأَحد وأَنه غير محتاج إِليه وأَنه لا يجار إِلا من قبل ما يحتاج إِليه. والمحتاجون على ضربين: إِما بالضرورة كالفقراءِ، أَو بالشره كالأَغنياءِ. والجور على جهة الضرورة أَعذر على جهة الشره، ولذلك يهون هؤلاءِ جدا، وإِن كانوا كثيرا ما ينجحون. وذو اللب والحزم إِذا ظفر بالشيءِ الذي جار من قبله يُرى كأَنه لا يستحسن ذلك الشيءَ ولا يسر به. وأَما ذوو الرأْي الضعيف فهم يظهرون السرور بما ينالونه بالجور. والجائرون من قبل واحد من هذه الأَسباب المخفية للجور والمسهلة له، إِذا ظفروا بما أَملوه من ذلك، فقد صدقت ظنونهم.
فهذا جملة ما قاله في الأَشياءِ التي تسهل الجور على الجائرين وتبعثهم عليه.
1 / 42