قال: وينبغي أَن يستعمل في المدح الأَشياء التي يكون بها تعظيم الشيء وتنميته، وهو أَن يخيل في الشيءِ أَنه بالقوة أَشياء كثيرة، وذلك إِذا قيل إِنه أَول من فعل هذا، كما قيل في قصة هابيل وقابيل، أَو إِنه وحده فعل هذا، أَو إِنه فعل في زمان يسير ما شأْنه أَن يفعل في زمان كثير، أَو إِنه فعل فعلا كبيرا. فإِن هذه كلها إِنما تفيد عظم الفعل. وكذلك إِذا قيل إِنه فعل في زمان يعسر فعله، وذلك إِذا كان بحسب ما يشاكل إِنسانا إِنسانا. ثم إِنه إِن كان الفاعل ممن يقتدى به في أَفعاله وأَقواله مرارا كثيرة فإِن فعله عظيم، كما قيل: إِنكم أَيها الرهط أَئمة يقتدى بكم. والأَفعال التي يقتدى بها ليست هي الأَفعال التي تكون بالاتفاق، بل الأَفعال التي تكون عن المشيئة والروية. وهذه الأَشياءُ قد يمكن أَن تدخل في المشورة، أَعني الأَشياءَ التي تعظم الشيء، مثل أَن يشار على المرءِ أَن يتشبه بالممدوح الأَول في ذلك الجنس، أَو يتشبه به في المدح؛ أَو يشار عليه أَن يكون من جملة الممدوحين الذين لا ينازع أَحد في حمدهم، مثل الذين يمدحون في الأَسواق، أَو يتشبه بهم في المدح. ومما يعظم الممدوحين أَن يقاسوا بالذين يفعلون أَضداد أَفعالهم، وذلك عند ذكر أَفعالهم الفاضلة.
قال: والذين شأْنهم أَن يتشبهوا بالممدوحين الذين في الغاية، ويقاسوا أَنفسهم معهم دائما، فقد ينبغي أُن يشبهوا بأُولئك، وأَن يجروا مجراهم في المدح، وإِن لم يكونوا وصلوا مراتبهم، فإِن فضائلهم في نمو دائم. ومقايسة الإِنسان نفسه مع غيره لا تصح إِلا من الرجل الفاضل، لموضع حب الإِنسان لنفسه، فهو يرى نقائصه أَقل من نقائص غيره وإِن كانت أَعظم، ويرى فضائله أَكثر وإِن كانت أَصغر. ولذلك ليس كل أَحد يستطيع المقايسة، وإِنما يستطيعها الفضلاءُ من الناس، مثل ما حكى أَرسطو عن سقراط أَنه كان يقايس بينه وبين غيره، ويجرى الأَحكام على أَخلاق نفسه، بمعنى أَنه كان ينظر بينه وبين غيره، فإِن وجد فيه فضيلة أَثاب نفسه عليها، وإِن وجد فيه رذيلة عاقب نفسه عليها. والمقايسة النافعة لمن يريد أَن يتزيد في الفضائل إِنما ينبغي أَن تكون بالممدوحين جدا. وقد يدل على أَن أَمثال هؤلاءِ ممدوحون، أَعني الذين فضائلهم في نمو دائم، أَن الذين أَجهدوا أَنفسهم في أَن يبلغوا مبلغ الفاضلين، فعجزوا عن ذلك، فهم ممدوحون عند الجمهور. وهو بيّن أَن تعظيم الشيء داخل في المدح. فإِن التعظيم للشيءِ تشريف له، والتشريف من الأُمور التي يمدح بها. وينبغي إِذا أُريد التعظيم بالتشبيه أَن يشبه بكثير من المحمودين، فإِن في هذا الفعل تشريفا للممدوح ودلالة للجمهور على فضيلته. وجملة القول في الأَنواع المشتركة لأَجناس الأَقاويل الثلاثة أَن التعظيم، وإِن كان مشتركا لأَجناس الأَقاويل الخطبية الثلاثة، فهو أَخص بالمدح والذم، لأَنه إِنما يمدح الإِنسان أَو يذم بالأَشياءِ الموجودة المعترف بوجودها. وتعظيم الشيء أَخص بالموجود منه بالمعدوم. ولذلك قيل قد ينبغي للمادح أَن يصف جلالة الشيء وبهاءه وزينته. وأَما استعمال العلامات والمثالات فهو أَخص بالمشورة، لأَن من الأُمور المتصرمة التي قد سلفت نحدس على التي ستكون. وإِعطاء السبب والعلة من الأَشياء التي قد سلفت نحن له أَكثر قبولا وتعظيما لانقضائه وتصرمه. وأَما معرفة العدل والجور فهو خاص بالمشاجرية.
وبالجملة: فجميع المدح والذم إِنما يكون بالمقايسة بمن سلف من المحمودين والمذمومين. وقد ينبغي للمادح والذام أَن يعلم بحضرة مَنْ يكون المدح أَو الذم، أَعني أَن يمدح بحضرة الأَصدقاءِ، ويذم بحضرة الأَعْداءِ. كما ينبغي له أَن يعلم المواضع التي يأْخذ منها المدح والذم وهي التي سلف ذكرها، وهي الفضائل وفاعلاتها وعلاماتها وأَعراضها. وهو بيّن أَن مما ذكرناه من حدود هذه الأَشياءِ تعرف حدود أَضدادها، إِذ كان الضد يعرف من ضده. وإِذا كانت هذه معروفة لنا من أَضدادها، وكان الذم إِنما يكون بأَضداد تلك، فهو بيّن أَنا قد عرفنا من هذا القول ليس الأَشياء التي يكون بها المدح فقط، بل والأَشياء التي يكون بها الذم.
القول في الشكاية والاعتذار
1 / 33