قال: والإِنعام على الغير إِذا لم يستفد المنعم منه شيئا هو مما يمدح به. ولذلك ما كان العدل والبر قد يمدح بهما الإِنسان من جهة أَنهما نافعان كما يمدح بهما من جهة ما هما جميلان. والانتقام أَيضا من الأَعداءِ ولا يرضى عنهم في حال مما يمدح به. فإِن الانتقام منهم هو جزاء، والجزاءُ عدل، والعدل جميل. ومحبة الغلبة أَيضا ومحبة الكرامة مما يمدح بهما لأَنهما علامتان تدلان على إِثار الفضائل لا لمكان اكتساب مال بهما. أَما محبة الغلبة فتدل على إِيثار الشجاعة. وأَما محبة الكرامة فعلى إِيثار جميع الفضائل. ولذلك كانت الفضائل الأَثيرة المختارة هي التي ليس يقصد بها مقتنيها إِلى اكتساب مال لأَن ذلك يدل على شرف الفضيلة. ومن الأَفعال التي يمدح بها التي شأنها أَن يبقى ذكرها محفوظا أَبدا عند الناس. ومن الأَشياء التي يمدح بها الهيئات المحمودة عند قوم التي يجعلونها علامة لذوي الشرف مثل توفير الشعور عند اليونانيين، فإِنه يدل على الشرف، إِذ كان ليس كل أَحد يسهل عليه توفير شعره، لأَن الموفورى الشعور لا يعملون عمل من ليس بموفور الشعر ولا يمتهنون بأَي مهنة اتفقت. والأَزياءُ التي كانت تتخذ عندنا هي من هذا النوع الذي ذكره أَرسطو.
قال: ومن الشرف أَلا يحتاج الإِنسان إِلى آخرين، بل يكون مكتفيا بنفسه.
قال: وقد ينبغي أَن نأخذ في المدح والذم الأُمور القريبة من الفضائل والنقائص، وهي النقائص التي قد توجد عنها أَفعال الفضيلة، أَو الفضائل التي قد توجد عنها أَفعال النقائص: فيمدح بالنقائص التي توجد عنها أَفعال الفضيلة بأَن يوهم أَنها فضائل من أَجل أَن تلك الأَفعال هي من أَفعال الفضائل. وكذلك يوهم في الفضائل أَنها نقائص من أَجل أَنه عرض أَن وجد عنها أَفعال النقائص. فمثال النقائص التي توجد عنها أَفعال الفضائل فتوهم أَنها فضائل: العىّ الذي قد يكون عنه أَفعال الحليم، فيوهم به أَنه حليم، والبله الذي قد توجد عنه أَفعال ذوي السمت فيوهم بذلك أَنه ذو سمت. وكذلك العديم الحس قد يوهم فيه أَنه عفيف إِذ كان قد يوجد له فعل العفيف بالعرض. وكذلك المتهور قد يوهم فيه أَنه شجاع، والسفيه أَنه كريم.
ومثال ما يوهم به أَنه نقيصة، وليس بنقيصة، ما يعرض للكبير الهمة من أَن يتجافى عن الأُمور اليسيرة فيظن به أَنه يغلط وينخدع. والكبير الهمة إِنما يصنع ذلك في الأُمور اليسيرة التي ليس يلحقه منها خوف كبير ولا ضرر شديد. وذلك أَيضا في الموضع الذي يحسن فيه أَن يتغافل عنها. وقد يوهم أَيضا هذا الموضوع عكس هذا، وهو أَن يقال في المنخدع إِنه كبير الهمة. ومما يمدح به أَن يكون المرءُ يُعطي أَصدقاءه وغير أَصدقائه ومن يعرف ومن لا يعرف، لأَنه يظن أَن شرف فضيلة السخاءِ هو بذل المال للكل.
قال: وقد ينبغي أَن يكون المدح بحضرة الذين يحبون الممدوح، كما قال سقراط: إِنه يسهل مدح أَهل أَثينية بأَثينية. وينبغي أَن يمدح كل إِنسان بالذي هو ممدوح عند قومه وأَهل مدينته، إِذ كان ذلك يختلف.
قال: ومن المدح بالأَشياءِ التي من خارج مدحُ الآباءِ وذكرُ مآثرهم المتقدمة، ومدح المرء بما تسمو إِليه همته من المراتب وإِنه ليس يقتصر على ما حصل له منها. والرجل الكبير الهمة الذي لا يقتصرب بهمته على ما نال من المراتب يمدح بهذين الأَمرين من خارج، أَعني بفضائل آباؤه وبما يؤمل أَن يسمو نحوه، كما يقال: من أَي مآثر ابتدأَ من قبل آبائه، وإِلى أَي مآثر ينتهي من قبل همته. وأَما الذي لا يسمو بهمته إِلى نيل أَكثر مما حصل له من المرتبة، فإِنما يمدح من الأَمرين الذين من خارج بأَبآئه فقط. وكأَنه يرى هاهنا أَن المدح بمناقب الآباءِ ليس ينبغي أَن يقتصر عليه دون أَن يمدح بفضيلة ذاته، كما قال الشاعر:
لسنا وإِن كرمت أَوائلنا ... يوما على الأَحساب نتكل
نبني كما كانت أَوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وإِنه قد يقتصر بالمدح على الفضيلة دون ذكر الآباءِ كما قال:
نفس عصام سوّدت عصاما
1 / 31