وأما المثال فقد بينا في ما تقدم أنه استقراء ما، لكن يباين الاستقراء بأنه ليس يصار فيه لا من الجزئي إِلى بيان الأَمر الكلي كما يصار في بعض أنواع الاستقراء، ولا من الكلي إِلى الجزئي كما قد يصار في بعض أنواع الاستقراءِ، وذلك إِذا بينا بالكلي الذي أثبتناه بالاستقراءِ جزئيا آخر غير الجزئيات التي أثبتنا الكلي باستقرائها؛ ويوافقه في أنه يصير من جزئي إلى جزئي لاجتماعها في أمر كلي، وذلك إِذا جمعنا في الاستقراءِ الأَمرين جميعا، أعني إِن نصير فيه من الجزئي إِلى الكلي، ثم من الكلي إِلى جزئي آخر، فإِنا في هذا الفعل قد صرنا من جزئي إِلى جزئي بتوسط الكلي، كالحال في المثال. فإِن المثال إِنما نصير فيه من جزئي إِلى جزئي لاشتراكهما في أمر كلي، إِذا كان الحكم المنقول من أحدهما إِلى الآخر موجودا للجزئي الأَعرف من أجل ذلك الكلي أوْ يظن به أنه يوجد له من جهته، وإِلا لم تصح النُّقلة من جزئي إِلى جزئي، أعني إِن لم يكن هنالك كلي، وكان وجود ذلك الحكم من أجله للجزئي الأَعرف. ومثال ما يعرض من هذا في الاستقراءِ، أعني إِذا كانت النقلة من جزئي إِلى جزئي بتوسط النقلة إِلى الكلي، قول من قال: أيها الملك، إِن فلانا طلب إِن يكون في جملة العسس، وقد كان في جملة عدوك، فلا تبح له ذلك، فإِنه يريد إِن يفتك بالملك، لأن فلانا طلب ذلك من فلان الملك، وفلانا من فلان الملك، لأَقوام يعددهم، ففتكوا بملوكهم. فإِنَّ قائلَ هذا القول قد جعل النقلة فيه من جزئي إِلى جزئي بتوسط الكلي الذي هو إِن كل من طلب إِن يدخل في الحرس ممن كان في جملة عدو الملك فهو يريد إِن يفتك به. إِلا إِن هذا الكلي الذي ارتسم في النفس بالقوة، وإِن لم يصرح به، يستعمل النقلة من جزئي إِلى جزئي، إِذا كانت النقلة إِليه في الذهن من أكثر الجزئيات، كان استقراء، وإِن كان من واحد منها، أو من الأَقل، كان تمثيلا.
قال: فأما القول في هذه الأَشياء التي يقال لها مثالات، فقد يكتفي هاهنا بهذا المقدار المعطى منها.
وأما القول في فصول الضمائر من جهة الأَشياءِ التي منها تعمل، فإِن القول فيها غامض وخفي وهو عظيم الغناءِ فيما نقصده هاهنا. وسبب غموضه إِن الضمائر تكون في جميع المقولات العشر كما تكون القياسات الجدلية. لكن من الضمائر ما يكون في المواد التي في الصنائع مثل الضمائر التي تستعمل في الأُمور الكلية والجزئية في صناعة الطب وغيرها من الصنائع. وهذه فينبغي إِن تستعمل في هذه الصنائع على نحو استعمال البراهين في تلك الصناعة، لا على نحو ما يستعملها الخطيب في المادة التي تخص الخطابة، مثل إِن يأْتي بها جزءَا من خطبة وسائر الأَشياءِ التي تكون بها الأَقاويل الخطبية أتم فعلا وأنفذ مما يذكر بعد. ومن الضمائر ما يكون في الأُمور التي تخص هذه الصناعة بحسب ما تبين من منفعتها وهي الأُمور الإِرادية، وهذه هي التي ينبغي إِن تستعمل على جهة ما يستعمل الخطباءُ الأَقاويل الخطبية. ومن هذه الأَشياءِ ينبغي إِن تعدد في هذه الصناعة الأَشياء التي هي فصول الضمائر لا من تلك المواد التي تحتوي عليها صناعة صناعة.
قال: وكلما كان القول أكثر عموما، كان أكثر مؤاتاه وتأتيا لأَن يستعمل في أشياء كثيرة. وكلما كان أقل عموما، كان أحرى إِن يكون جزءًامن صناعة مخصوصة. ولذلك كانت المواضع أعم من القياسات الخطبية والقياسات الجدلية. وذلك إِن المواضع توجد تعم الأُمور المنطقية والطبيعية والسياسية، أعني الإِرادية، وذلك مثل مواضع الأَقل والأَكثر التي عددت في الثانية من كتاب الجدل. وذلك إِن هذه المواضع ليس تعمل منها المقاييس في صناعة واحدة من هذه الثلاث التي ذكرنا، بل في جميعها، إِذ كانت لا تستعمل نفسها وإِنما تستعمل قوتها.
وأما الأَنواع فهي المقدمات الخاصة بصناعة صناعة من الصنائع الجزئية، مثل المقدمات التي تعمل منها المقاييس في الأُمور الطبيعية، فإِنها لا تعمل منها المقاييس في الأُمور الخلقية، ولا التي في الخلقية تعمل منها المقاييس في الأُمور الطبيعية.
1 / 11