فليكن الخوف حزنا أَو اختلاطا من تخيل شر يتوقع أَن يفسد أَو يؤذى، وأَعني بالحزن الغم والأَذى الذي يلحق النفس، وبالاختلاط اختلال الروية، وبالفساد الهلاك، وبالأَذية ما دون الهلاك. وإِنما اشترط في الشر المخوف أَن يكون مهلكا أَو مؤذيا، لأَن إِمكان وجود النقائص في الإِنسان هي شرور متوقعة، ولكن ليس يخافها الإِنسان، مثل أَن يكون ظلوما أَو كسلان؛ وليس أَن يكون الفساد أَو الأَذى المخوف يسيرًا، بل وأَن يكون عظيما. فإِن اليسير لا يخافه أَحد. وأَيضا فليس يخاف من هذه ما كان متوقعا حدوثه في الزمان المستقبل البعيد، بل ما كان متوقعا في الزمان المستقبل القريب. فإِن الشر المتوقع في الزمان المستقبل البعيد ليس يخافه أَحد، بدليل أَن كل أَحد يعلم أَنه يموت لا محالة، ولكن لأَنه ليس يعلم أَنه قريب، فهو لا يخاف الموت. وإِذا كان حد الخوف هو هذا، فبين من ذلك أَن المخوفين هم الذين يظن بهم أَن لهم قوة عظيمة على الإِفساد، أَعني الإِهلاك، أَو على إِدخال نوع من الضرر يؤدي إِلى حزن أَو أَذى عظيم إِما جسدي مثل الأَسقام وإِما نفساني مثل الذل والصغار. وكوْن مَن هذه صفته مخوفا معروف بنفسه. فإِن المخوف إِنما هو الشر الذي يظن قريبا. ولذلك كان الخطر أَو الهول الشديد إِنما هو اقتراب الأَمر المخوف وهو الذي يفعل العداوة والغضب في الخائف ويحركه إِلى دفع الشيء المخوف ومقاومته. وإِذا كان المرء يهوى الشر وله قوة عليه، فبين أَن شره قريب من الفعل، فهو ضرورة مخوف. والحَال في المخوف كالحال في الظلوم، أَعني أَن الظلوم إِنما يكون ظلوما متوقع الظلم بهذين المعنيين، أَعني بالقوة على الظلم ويهوى الظلم؛ لأَن الظلوم إِنما يظلم بالفعل، إِذ كانت له قوة على الظلم وإِرادة لفعل الظلم. فالظلوم لا محالة أَبدا مريد لفعل الظلم، وهواه متقدم لفعله. وإِنما يفعل الظلم في الوقت الذي تكون له القوة على فعله. فإِذن باجتماع هذين له، يكون ظلمه قريبا. وكذلك المخوف أَيضا إِنما يكون لمن اجتمع له هذان، أَعني القوة والإِرادة. ولذلك لا يخاف أَحد شر الضعفاءِ، وإِن كانوا مريدين للشر؛ كما لا يخاف الأَقوياء، إِذا لم يكونوا مريدين للشر. وكثير من الناس إِنما يمنعهم من الشر ضعفهم أَو الخوف من شر مهول يطرأ عليهم. وما كان من الشر المتوقع قد حدث بإِنسان آخر فهو يخاف أَكثر. والذين يعرفون بأَنهم يفعلون الشرور الشديدة الفظيعة الناسُ لهم خائفون بالطبع. والذين يقدرون على العقوبات مخوفون إِلا أَن يعرفوا بالصفح والعفو، وبالجملة الذين يقدرون على الضرر مخوفون أَبدًا عند الذين يكونون ذلك النوع من الضرر ممكنا لهم. مثال ذلك أَن السراق مخوفون عند ذوي الأَموال، لا عند من لا مال له. وإِنما كان ذلك كذلك لأَن الظلم يكون في الناس أَكثر ذلك مع القوة، أَعني حيث توجد القوة يوجد الظلم. والذين يقع بهم الظلم مرارًا، ويظنون أَنهم سيظلمون، هم خائفون أَبدًا، مثل أَهل الذمة. والذين يلقون أَبدا خلاف ما يؤملونه هم خائفون. والذين في طباعهم الظلم، إِذا كانت لهم قوة، فهم مخوفون. وكل ما لا يمكن أَن يشترك فيه اثنان فهو مخوف خطر، مثل الرياسة. وذوو الرياسات والسلطان هم أَبدًا مخوفون ولا سيما إِذا كانوا يهوون الإِضرار بمن يفضلهم في الرأي وفي غير ذلك من الفضائل. والناس الذين يخافونهم أَفاضلهم وذوو الكمالات فيهم هم مخوفون، سواء كانوا ممن لم يزل بهذه الصفة أَو حصلت له هذه الصفة حين كبر وعظم قدره. وأَصدقاءُ المظلومين مخوفون عند الظالمين لهم. وكذلك أَصدقاءُ الأَعداءِ أَيضا مخوفون. كما أَن العدو مخوف. وليس السريع الغضب من الناس ذوى الأُنس والانبساط مخوفين عند الغضب والحقد، لأَن هؤلاءِ ينحل غضبهم سريعا. وإِنما المخوفون ذوو الأَناة في الغضب والحقد وذوو الإِزراءِ بالناس الدهاة الذين لا يظهرون ما يريدونه من الشر هل هو بالقرب أَو بالبعد وهم أَضداد ذوى الأُنس، وذلك أَن ذوى الأُنس يظن بهم أَنهم لا يرون أَحدًا دونهم، وذوو الإِزراءِ يرون الناس دون أَقدارهم.
1 / 65