قال: وإِذا تقرر هذا، فقد انتهى القول بنا إِلى أَن نخبر من أَجل ماذا يجور الجائرون، وكيف يكون للجائرين أَن يجوروا، وفي أَي الأَشياءِ يجورون. غير أَنه يجب أَن نبتدئ فنبيّن أَيّ الأَشياء التي من أَجلها يجورون، أَعني الأَشياء التي إِذا اشتاقوها جاروا، أَو إِذا كرهوها جاروا أَيضا. وهو بيَّن أَن القول في الشكاية ينبغي أَن يقدم على القول في الاعتذار، لأَن الذي يريد أَن يشكو يجب أَن يكون معروفا عنده الأَشياء التي يُشكى منها، وكم هي، وأَي هي. وأَما مواضع الاعتذار فليست محدودة كمواضع الشكاية. وإِنما تتحدد مواضع الاعتذار بحسب مواضع الشكاية. والشكاية أَمر وكيد في الاجتماع الإِنساني. ولذلك ترى كثيرا من الناس، إِذا لم يشكوا، أَضروا بأَقربائهم وإِخوانهم. وكل فاعل شيئا على طريق الجور، فإِما أَن يفعله من أَجل نفسه ومن ارادته واختياره فقط، وإِما أَلا يفعله بحسب نفسه واختياره. وهذا إِما أَن يفعله باتفاق وهو الذي يسمى هفوة وفلتة، وإِما أَن يفعله باضطرار: منه ما يفعله من أَجل طبيعته مثل أَن يكون سيء الخلق بالطبع، ومنه ما يفعله من أَجل قاسر من خارج، أَعني أَن لا يكون الفعل الذي يفعله طوعا، بل عن وعيد من خارج أَو تهديد وما أَشبه ذلك. والذي يفعله من تلقاءِ نفسه هو الذي تكون نفسه ومفردا علة كونه، لا شيء آخر يقترن به من خارج. والذي يفعله من تلقاءِ نفسه: منه ما يكون من قبل عادة رديئة أَو خلق رديء، ومنه ما يكون بحسب شهوة وشوق. والذي يكون بحسب الشوق: منه ما يكون بحسب شوق مظنون نطقي، ومنه ما يكون بحسب شوق خيالي. والذي يكون بحسب شوق خيالي: منه ما يكون بحسب شوق غضبي، ومنه ما يكون بحسب شهوة. وإِذا كان هذا هكذا، فالجائرون يجورون لا محالة لمكان سبعة أَسباب: أَحدها لمكان الاتفاق، والثاني لمكان الطبيعة، والثالث لأَجل الاستكراه، والرابع لأَجل العادة والخلق، والخامس من أَجل النطق، والسادس من أَجل الغضب، والسابع من أَجل الشهوة؛ وكلها ما عدى الذييكون عن النطق هي أَقسام ضعف الرأي الذي تقدم.
قال: وليست قسمة الأَفعال الجائرة من طريق الأَسنان والهمم والجدود قسمة ذاتية. لأَن الغلمان وإِن كان جورهم أَكثر فليس ذلك أَولًا وبالذات من جهة ما هم غلمان، بل من جهة أَن الغلمان يكونون غضوبين أَو شهوانيين. وكذلك يعرض للفقراءِ أَن يشتاقوا إِلى المال أَكثر من الأَغنياءِ بسبب فاقتهم، كما يعرض للأَغنياءِ أَن يشتاقوا إِلى المال لمكان اللذات الغير الضرورية أَكثر من الفقراءِ. فمتى نسب الأَغنياء أَو الفقراء إِلى الجور في جنس ما من الأَجناس فليس سبب ذلك القريب الغنى والفقر، بل الشهوة والخلق الذي تكتسب النفس عن الفقر والغنى. وكذلك الحال في الهمم، أَعني أَنه إِن نسب شيء منها إِلى الجور فليس ذلك بذاته وأَولا، بل من قبل أَن الهمم تكون سببا لواحد أَو لأَكثر من واحد من تلك الأَسباب السبعة التي هي أَولا وبالذات أَسباب الجور. ولذلك كان الأَبرار والفجار وسائر الذين يقال فيهم إِنهم يفعلون بحسب هممهم إِنما يفعلون: إِما عن واحد من تلك الأَسباب السبعة المتقدمة أَو عن أَكثر من واحد، وإِما عن أَضدادها، وهم ذوو الهمم الجميلة؛ أَعني أَن الفجار يفعلون عن تلك الأَسباب، والأَبرار عن أَضدادها. مثال ذلك أَن العفيف تلزمه شهوات فاضلة لذيذة، والفاجر تلزمه شهوات رديئة. ولذلك قد يجب أَن يترك هذا النحو من التقسيم هاهنا وتذكر هذه الأَشياء بأَخرة على أَنها أَسباب لهذه الأَسباب السبعة، لا على أَنها أَسباب أُولى لأَفعال الجور. وأَما التي هي أَسباب بالعرض فينبغي أَن نتجنب ذكرها هاهنا أَصلا، مثل أَن يكون المرءُ أَسود أَو أَبيض أَو ضخما أَو نحيفا. فإِن هذه قد يلحقها بالعرض اختلاف الأَخلاق والشهوات. وإِنما ينبغي أَن نذكر هاهنا من أَسباب هذه الأَشياء، أَعني الأَسباب السبعة التي عددنا قبل، الأَعراض التي تغير الخلق بالذات سواء كان نفيسا أَو جسمانيا أَو من خارج مثل الشيخوخة والصّبا والفقر والغنى. فإِن المرءَ إِذا افتقر ظن بنفسه صغر القدر واستحيا من كل شيء يصنعه، وإِذا أَثرى ظن بنفسه العظم ولم يستح من شيءٍ. لكن هذه سيقال فيها فيما بعد.
1 / 35