نغادر الترام في محطته الأخيرة بميدان «الإسماعيلية». مقهى محاط بالزجاج. عجوز أرمني يدير صندوق بيانولا. صالة باتيناج. شارع مظلم به منازل ذات حدائق مسورة. روائح الياسمين. باب حديدي مغلق تتوسطه سلسلة بقفل. ندخل من باب جانبي. ممر مرصوف ببلاط ملون. درجات رخامية عريضة. الباب المطل على السلم مغلق. لا يستعمل إلا في الصيف. نطرق الباب المجاور. تفتحه «سعدية» زوجة البواب. ضئيلة الجسم شاحبة الوجه. يرحب بنا عمو «فهمي» زوج أختي: أهلا أهلا ، البيت نور. طويل وعريض في روب من الصوف السميك الكاروهات. سيجارته في يده. يعمل محاسبا في شركة أجنبية. يتقدمنا بنشاط إلى غرفة الترسينة القبلية. أرضها من الخشب. يخلع أبي معطفه. يتناوله منه عمو «فهمي». نجلس فوق كنبة في مواجهة الباب. أمامنا مائدة معدنية فوقها صندوق «طاولة» مغلق.
تنضم إلينا «نبيلة». أختي من أبي. نحيفة مثلي وشعرها ناعم وطويل. ترتدي روبا من الكستور وفي قدميها مانتوفلي وردي اللون تعلوه وردة من قماش منفوش. يبدو منه جورب أبيض سميك. في يدها مقلم أظافر. تقبل أبي في خده فيرد القبلة بصوت مسموع. تصرخ ضاحكة: شنبك بيشوك. تجلس إلى جواره من الناحية الأخرى. تواصل تقليم أظافر يدها. تحني رأسها لأن نظرها قصير.
يسأل أبي عن «شوقي» و«شيرين». تقول أختي إنهما عند «سميرة». يجلس زوجها على مقعد في مواجهتنا. يرفع غطاء صندوق الطاولة. تقول أختي: سيبه ياخد نفسه الأول. يبتسم في حذر وهو ينظر إلى أبي بعينين ضيقتين. يمر بيده على شاربه القصير. يستخرج علبة سجائر معدنية من جيب الروب. ثلاث خمسات. يفتحها ويلتقط منها سيجارة. يشعلها بولاعة مبططة. أصابعه سمينة مدورة الأطراف ومقصوصة بعناية. أطرافها مكسوة بلون النيكوتين الأصفر.
يسأله أبي: ولاعة جديدة؟ - «رونسون»، تضغط عليها تولع وتنطفي من نفسها.
يدلي يده اليمنى في حذر بجوار المقعد وينفض رماد السيجارة. لا تغيب هذه الحركة عن أختي فتخاطبه في حدة: فين الطفاية؟ يقوم مسرعا وهو يحافظ على ابتسامة متكلفة: حاضر يا ستي. يجذب منفضة السجائر من فوق مائدة صغيرة بسيقان رفيعة مذهبة. يضعها بجوار صندوق الطاولة. يتطلع إلى وجهه في مرآة مستديرة على الحائط المواجه. يسوي شعر رأسه الخفيف بيده اليسرى. تضع أختي المقلم جانبا وتتناول مشطا تجريه في شعرها الناعم الطويل.
يوجه عمو «فهمي» نظرة جانبية حذرة إلى أختي: أبيض ولا أسود يا «خليل» بيه؟ يعتدل أبي في جلسته ويشعل سيجارته السوداء يسحب منها نفسا ثم يضعها على حافة المنفضة. يلقي بالزهر. أنحني فوقه لأرى النتيجة. يبعدني بساعده. يقول: أسود، زي حظي.
تحضر «سعدية » صينية الشاي الأخضر. يقدم لنا عمو «فهمي» صندوقا مستطيلا من الصفيح. أتناول منه قطعة شكولاتة في حجم الليمونة. أفك غلافها المفضض. أبسط ورقة الحظ الشفافة وأقرأ: «يا مسهرني.» يكمش أبي ورقته ويلقي بها في المنفضة. ألتقطها وأبسطها. «نجاح مؤكد فيما أنت مقدم عليه».
تقلب أختي صحيفة «الأهرام». تقول إنها تريد أن ترى «إليزابيث تايلور» في فيلم «ليدي هاميلتون».
أتسلل مغادرا الغرفة. إلى اليمين حائط يفصل بين المطبخ والردهة. يأتي من خلفه صوت حركة «سعدية». إلى اليسار باب يؤدي إلى الصالة. مائدة الطعام بين بوفيهات ضخمة تعلوها مرايا مستطيلة. راديو «جروندج» كبير الحجم. أدور حول المائدة حتى غرفة المسافرين. بابها مغلق. أتطلع من ثقب المفتاح. أتبين في الظلام هيكل الباب المؤدي إلى الفرانده. ألف حتى غرفة النوم. أفتح بابها وأدخل. دولاب عريض تتألف واجهته من ثلاث مرايا متجاورة. بجواره شماعة خشبية مغطاة بقماش أبيض نظيف. سرير بأعمدة نحاسية. فرش مرتب بغطاء من الدانتلا كالذي كان عندنا في المنزل القديم. أتجه إلى المرآة المجاورة له. أسفلها صف من زجاجات الروائح وعلب الكريمات: «شانيل 5». «كولونيا» «أتكينسون». علبة «ماكس فاكتور». زجاجة زرقاء مثل التي كانت عند أمي. أتحسس الزجاجات وأشم روائحها.
أخرج وأغلق الباب في هدوء. أنتقل إلى غرفة الأولاد. أفتح بابها. سريران متواجهان بجوار كل منهما مكتب صغير. فوق كل منهما مقلمة ملونة ذات غطاء متحرك يكشف عن أماكن للأقلام والممحاة والبراية. دولاب عريض. كل شيء مرتب ونظيف. فوق الدولاب صندوق الكرتون الملون. تنزله أبلة «نبيلة» وتضعه فوق السجادة. تستخرج منه عددا من القضبان الحديدية. تصلها ببعضها البعض على شكل دائرة. تضع فوقها عربات قطار. سيمافور ومزلقان ثم محطة. سلم بدرجات صغيرة. الأجزاء كلها بألوان لامعة. ليس بها خدش واحد. تدير الزنبرك فينطلق القطار ويلف الدائرة وسط الأنفاس المبهورة. ممنوع اللمس. تدير الزنبرك مرة أخرى. وبعد لفتين أو ثلاث تقول: كفاية. تعيد كل شيء إلى الصندوق ويختفي فوق الدولاب.
صفحه نامشخص