يضع الطبق على الطاولة الخشبية المستديرة التي أحضرها «عباس» من المخزن. الطاولة في مستوى الفراش وتتسع بالكاد لطبق الفول وقطعة الجبن الأبيض في ورقتها ورغيف الخبز والليمونة المشقوقة. يستخرج بصلة صغيرة من تحت الفراش ويضعها في الحيز الفاصل بين باب الغرفة والحائط دون أن ينزع قشرتها. يجذب الباب إلى الداخل ويضغط قليلا. يعيد الباب إلى مكانه ويلتقط البصلة قبل أن تسقط فوق الأرض. ينتزع قلبها الذي برز خارجها ويلقي الأجزاء الخارجية جانبا. يقول إنها أفضل طريقة للمحافظة على فائدة البصل وطعمه.
يتربع فوق الفراش. أجر كرسي المكتب وأجلس أمامه. يعصر فص ليمون فوق الفول. أغمس لقمة صغيرة. وأقضم طرفا منها بغير حماس. أقول إني لا أحب الفول. يقول إنه كان يفطر وهو تلميذ من حلة الطبيخ البايت دون تسخين. تنادي عليه أمه من الطابق العلوي كل صباح: «عندك حلة الطبيخ في المنور».
ننتهي من الإفطار. نخرج إلى الصالة. نغتسل من حنفية الحوض. يدق جرس الباب. يفتحه لبائع اللبن. يحضر له حلة صغيرة ويأخذ رطلا. يشعل الموقد ويضع الحلة فوقه إلى أن يغلي اللبن. يضع إبريقا من الصاج مكانه ليعد القرفة. أظل واقفا بجواره إلى أن تغلي القرفة عدة مرات. يصب لي كوبا ويضيف إليه اللبن. أرفع الكوب إلى فمي. أشم رائحة الجاز. أعيده إليه. يغضب ويشرب من كوبه في صمت.
يدق الجرس مرة أخرى. أهرع إلى الباب وأفتحه. تدخل «أم نظيرة». نحيلة وقصيرة. رأسها ملفوف بمنديل أسود اللون معقود فوق جبهتها تتدلى من حافته خصلات بيضاء. وجهها شاحب وعيناها غائرتان. تترك صندلها الأسود بجوار الباب. تضع كيس الخضار على مائدة الطعام. تلقي ملاءتها السوداء فوق ظهر أحد المقاعد. تقول إنها تأخرت لأن متطوعات الكوليرا أوقفنها في الطريق وأخذنها لمركز التطعيم.
يعطيها أبي ما تبقى من إفطارنا. تهم بالجلوس على الأرض فيدعوها لأن تجلس على أحد مقاعد المائدة. يسألها عن أولادها وزوجها. يحسب معها ثمن الخضار الذي أحضرته. يعد لنفسه القهوة في كنكة صغيرة فوق موقد السبرتو. يفرغها في فنجان من الصيني المزخرف. يحمله في طبقه. أتبعه إلى الغرفة. يجلس متربعا فوق الفراش. يحتسي القهوة في بطء. أعيد الكرسي إلى مكانه خلف المكتب. أجلس وأفتح كراسة الحساب.
أبدأ حل الواجب. أتوقف حائرا أمام إحدى المسائل. أتطلع إليه. يجمع ويطرح ويضرب ويقسم دون أن يستخدم القلم والورقة. تقطيبة وجهه لا تشجعني على طلب مساعدته. يشعل سيجارته السوداء. أفكر في طريقة. أتذكر درس اللغة العربية عن المفردات اللغوية. أسأله عن صفة منزلنا بين أنواع المنازل. أعددها له على أصابعي: القصر، الصرح، الصومعة، السرداب، النجيرة. يهز رأسه قائلا إن منزلنا نسيج وحده. أعرض عليه مسألة الحساب فيحلها.
أرتدي نظارتي وأغادر الغرفة إلى الصالة. «أم نظيرة» تصف الأواني التي غسلتها فوق رخامة البوفيه. أتوقف أمام باب غرفة الكونستابل. أتلصص النظر من ثقب الباب فلا أرى غير طرف سرير منكوش الأغطية. أضع أذني على الثقب. لا أسمع حركة.
ألف من خلف مائدة الطعام. أبتعد عن الباب الزجاجي الذي يؤدي إلى المنور ويأتي منه الهواء البارد. ألف مرة أخرى وأتوقف أمام الحجرة الثالثة. أدير مقبض الباب وأدخل. أرض خشبية مهترئة مليئة بالحفر. أثاثنا القديم: كرسي هزاز من القش المخرم تمزق جانب منه. فوتيان وكنبة. أحد الفوتيين بقاعدة غائرة.
الغرفة باردة. دهان الحوائط متآكل يكشف عن رقع من المصيص. بعضها تغطيه أوراق ملونة. أقترب منها. صفحات من مجلة مصورة خضراء اللون مثبتة بالدبابيس. صورة الملك «فاروق» وهو صبي جميل بالبنطلون القصير والطربوش. صورة أخرى له في سيارة مفتوحة مع شقيقاته الثلاث الجميلات. صورة ثالثة له بجوار أبيه الملك «فؤاد» ذي الشارب المدبب الطرفين المرفوعين إلى أعلى. أتحسس بيدي سطح الصور المصقول. يتساقط المصيص من خلفها. تناديني «أم نظيرة» لأخرج كي تكنس الغرفة.
أبي فوق الفراش والمسبحة في يده. شيش البلكونة المقابلة مفتوح لكن ستارة من الدانتلا المخرمة مسدلة خلف مصراعه الزجاجي. البلكونة صغيرة وضيقة مثل بلكونتنا وبلكونات الطوابق الأولى. فوقها بلكونتان كبيرتان متجاورتان في شقة واحدة. يسكنها موظف متزوج من امرأتين لكل منهما بلكونة. واحدة مفتوحة والأغطية منشورة فوق سورها. الثانية مغلقة. معنى ذلك أنه قضى الليلة فيها. سيأتي الدور اليوم على البلكونة الأخرى.
صفحه نامشخص