ومن فوائد منهجي هذا أنه يتيح لنا استقامة النظر في أمر الثقافة المصرية، فقد كان القوم ينزعون إلى النظر إليها، كما لو كانت شيئا انبعث كامل النمو انبعاث «مينرفا» من «رأس زفس»؛ ولهذا النظر ما يبرره، فإن الإغريق عندما اتصلوا أول الأمر بتلك الثقافة كانت قد شاخت، واشتعل رأسها شيبا، وفاض حكمة. فكيف يمكنهم أن يتصوروها أيام شبابها؟ وبدت تلك الثقافة لبني إسرائيل واثقة بنفسها أكمل وثوق، لا يتطرق إلى نظرتها لنفسها شيء من التشكك أو الحيرة، ولما جاء علماء الآثار أو الحفارون - بمعنى أدق - إلى مصر، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان همهم العثور على الآثار المكتملة الصنع - آثار الخلق الفني - وقد عثروا عليها بالفعل، وأكد لهم ما عثروا عليه الصورة التي خلقتها كتابات الإغريق وبني إسرائيل.
طاف «ماربيت» بالمسيو «رينان» في مناطق اكتشافاته في «سقارة» و«طيبة»، وعبر لنا «المسيو رينان» عما تركته في نفسه آثار الحضارة المصرية بقوله: «إن مصر هي صين أخرى ولدت مكتملة النمو، وكأنما ولدت شيخا هرما، وإنها كانت تتسم بسمات من الشيخوخة والطفولة معا، انعكستا على صفحة تاريخها، وفي آثارها.»
ويضيف إلى ذلك قوله: «إنه لمن الطبيعي، ومن الملائم أيضا، ألا يبقى الإنسان شابا طول عمره، ولكن ليس من الطبيعي ولا من الملائم ألا يمر الإنسان بمرحلة الشباب.»
وبعد، فماذا تدل عليه آثار مصر؟ تدل على أن لا ابتكار ولا شعراء، ولا مؤرخين، ولا ثورات، ولا «سقراط» يتلقى عنه «إكسينوفون»، ويتخذه «أفلاطون» مثلا أعلى، ويسخر منه «أرستوفان». •••
أبديت تلك الملاحظات عندما كانت مصر تعد نفسها للارتباط بعجلة الأداة الأوروبية، وهي - كما نعرف - عجلة سريعة الدوران، وربما كان للتباين الشديد بين سكون الشرق وحركة الغرب ما يزيد الشرق سكونا، والغرب حركة في عين الناظر.
وهكذا يبدو الفلاح المصري في القرن التاسع عشر، وكأنما يعيش كما كان يعيش أجداده في عصر الأهرام، وتبدو كذلك أسس الرخاء، والحكومة الصالحة واحدة في الماضي، وفي الحاضر، وترددت على الأفواه عبارات التوراة، فالوزير الماهر هو «يوسف» آخر، والإمعان في الاستئثار بما في أيدي المصريين لم يفتر منذ أيام «فرعون».
ثم بدأ طور جديد من أطوار البحث العلمي يظهر إلى الوجود عالما تختلف حقائقه كل الاختلاف عما كان مألوفا معروفا، فأظهر لنا الكشف عن عصر ما قبل التاريخ، وعصر ما قبل الأسرة المالكة؛ نشأة الحضارة المصرية وشبابها، كما كشفت لنا النقوش الدينية عن شقاق كامن في جسم المجتمع، وفي نفس الفرد، وكان هذا عندما نظروا في تلك الكتابات بروح العطف، وبصيرة الإنصاف. وإنا لنعرف الآن كيف طرأت على المجتمع الذي بناه قادة عصر الأهرام عوامل من الضغط، وأن هذه العوامل فعلت ما فعلت مصحوبة بمشاهد من العنف، وكيف قام قادة آخرون ببناء صرح المجتمع المتداعي على أسس جديدة، وبذا نصل إلى مجتمع الدولة المتوسطة، ثم أدى قدوم «الهكسوس» وطردهم - فيما بعد - إلى طور آخر من أطوار التاريخ، هو عصر الإمبراطورية.
وظاهر الأمر أن الإمبراطورية رأبت الصدع الملحوظ في بناء المجتمع، وحاولت أن تخلق جوا من الاطمئنان والثقة، ولكن هيهات؟ فلا يستطيع إنسان شاهد، مثلا، المناظر المنقوشة على جدران «قبر سيتي» أن يعتقد أن نفس الإنسان - في ذاك العصر - قد نعمت حقا بالهدوء والطمأنينة، ولو كان الجو حقا من الثقة واليقين بالدرجة التي أحبوا أن يتوهموها لما كانت ثورة «أخناتون» الدينية، وفيها ما فيها من معاني المجاهدة الروحية والتجديد في كل شيء.
وعندما نصل إلى الأسرات الملكية الأخيرة نبدأ فنلاحظ وجود نواة متحجرة داخل إطار التاريخ، ولعلنا نطلع على سر تحجرها إذا ميزنا بين عاملين أحدثاه:
أحدهما: نظام اجتماعي ثابت يقوم على ضبط النيل.
صفحه نامشخص