وكان الاحتلال الفرنسي قصير الأمد، بيد أن نتائجه وعواقبه كانت بعيدة الأثر في التاريخ؛ إذ كان هذا الاحتلال حافزا لولاة مصر في البدء على عملية عمارة وإنشاء بوسائلهم وطرائقهم الخاصة.
وقد تشكلت تلك الطرائق وفقا لآراء الحكام الشخصية في السياسة والاجتماع ومثلهم العليا، ووفقا لطبيعة الظروف المحلية - مادية كانت أو أدبية - فضلا عن تأثير القيود المفروضة على سلطتهم الفعلية. وهذه القيود فرضتها السيادة العثمانية ومصالح الأوروبيين، وما كان يجري بينهم من منافسات؛ ولذا كان الإنشاء واسع النطاق ومحدودا في آن واحد، كان يتسم بالفخامة والضعة معا، وكان أن أورثنا ذلك العهد من تاريخنا مبادئ استقرت أساسا لكياننا القومي، أوردها فيما يأتي:
أن مصر هي القلب النابض لمجال حيوي يمتد إلى ما وراء حدودها، أن التجديد شعار المجتمع، أن الموارد تعبأ، وأن المجتمع يخضع لسلطان موحد.
ولكن كان ينبغي لكي تؤتي هذه المبادئ ثمرتها أن يعامل الفرد المعاملة الخليقة بالمواطن، فإن إخضاع الشعب لسلطة عليا لا تخضع لسلطان القانون، كان معناه إخضاعه لقوة غشوم مدمرة توجهها الأهواء، كما أن تعبئة موارد البلاد دون وازع من الإنصاف أو التقدير للاعتبارات الإنسانية، لم يؤد إلى ثراء الأمة ورخائها، بل أدى إلى تقوية شهوة القلة الوطنية والأجنبية المستغلة، وإشباع نهم طائفة لا قلب لها ولا ضمير، كما أن سطحية نظام التعليم واتجاهه نحو أهداف نفعية ضيقة لم ينشئ فريقا من «الصفوة الفاضلة»، بل خلق أدوات إدارية فاسدة لا تحسن أداء ما عهد إليها به.
ويجب أن أضيف إلى ذلك القصور وتلك العيوب، مشكلات الأزمات الدبلوماسية والمنافسات الدولية، وما يصحبها من قلق واضطراب، ومشكلات رأس المال الأجنبي والمستوطنين من الأجانب، الساعين إلى شق طريق الرزق في البلاد.
لقد انهار النظام الخديوي في العقود الأخيرة من القرن الغابر؛ ومن ثم سارت سفينة الدولة على غير هدى وفي مهاب الريح حتى ارتطمت بالصخور، ونجحت دولة أوروبية في فرض سيطرتها وجمع أزمة الأمور في يديها؛ هي إنجلترا.
ولو كان لسياسة الاحتلال البريطاني في مصر أن تتخذ لها شعارا، لقدمت لها جملة طالما تكررت في كتابات كرومر، ألا وهي: «بقدر معلوم»، فيجب أن يكون لنا نصيب من كل شيء بقدر معلوم، نصيب من الاستقلال، ومن الولاية العثمانية، ومن الصلة بيريطانية، ونصيب في السودان، ونصيب من الحكم الشخصي، ومن أنظمة الحكم الذاتي، ونصيب من الرقي الثقافي والاقتصادي وهلم جرا.
ولم يكن الهدف الرئيسي الذي وضعه كرومر نصب عينيه أن يجعل مصر للمصريين، وقال إنه لم يكن واثقا مما يعني ذلك، بل مصر لسكانها كافة، ومن الجلي أن مصرا من هذا النوع لا بد لها من وجود قوة تقوم بدور الوساطة في النزاع المحتوم بين الأجناس والمصالح؛ أي تقوم في الواقع بدور الرجل القوي الفيصل الذي شهدته مدن القرون الوسطى المضطربة، وبالطبع لا بد أن تكون تلك القوة هي إنجلترا.
بيد أنه غاب عن بال كرومر تماما، أن التسوية النهائية لأمر مصر ستكون مع شعب مصر، وهذا هو المعنى الذي انطوت عليه ثورة عام 1919، بيد أن الآمال التي ولدتها ثورة 1919 في بعث قومي جديد لم تتحقق، فلم تكن لدينا شجاعة الإيمان بما كنا ننادي به ونجهر، فمنحنا الشعب كاملا، وكنا أنانيين، وكانت المعاذير التي كنا نتذرع بها لإخفاقنا أقل مما كان يلتمسه آباؤنا عام 1882؛ لأننا شيدنا على ما تركوه وراءهم، وكان في وسعنا أن نتعلم من أخطائهم، ولكن مع ذلك لا ينبغي أن نغفل عما واجهنا من صعاب، فقد كنا نسعى جهدنا في آن واحد، وقد حاولنا القيام بذلك، بينما كنا نخشى أن تمتد إلى شعبنا الدعوات الأوروبية الجديدة القائمة في الروسيا وإيطاليا وألمانيا، فترددنا في تعبئة مواردنا الحية والمعنوية، وترتب على ذلك أن حذونا حذو كرومر؛ أي إننا حاولنا الحصول على شيء من كل شيء بقدر معلوم، شيء من المحافظة على التقاليد مع مسايرة روح العصر، وقدر من الرأسمالية، وقدر من الاشتراكية على السواء، وقدر من الزهو والتظاهر، مع مقدار من عدم الاعتداد بالنفس.
وقد شهدنا كما شهد آباؤنا «انهيار الحكم» مع هذا الفارق، وهو أن انهيار 1882 أعقبه الاحتلال البريطاني، بينما الانهيار الذي حدث في زماننا خلف لنا مولد الجمهورية المصرية، وإن مجرد الاسم في ذاته ليحمل في طياته برنامجا كاملا للإنشاء على أساس المبدأ القائل بأن أكبر مقدار من السعادة يجب أن يحقق لأكبر عدد من الأهلين. وإن خير تعريف تتخذه الجمهورية المصرية لنفسها في العصر الذي نعيش فيه، لهو ما قاله الفيلسوف «برك»:
صفحه نامشخص