بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة الكتاب]
أخبرني أبو الغمر المسلم بن علي بن المسلم، قال: أخبرنا الشيخ الفقيه العالم الزاهد أبو الحسين زيد بن علي بن أبي القاسم الهوسمي إملاء في داره المعروفة في مدينة (اللاهجان) بناحية (جيلان) في شهر ربيع الأول بتاريخ خمسمائة سنة، قال: حدثني القاضي السعيد الزاهد أبو جعفر محمد بن علي الجيلاني رحمة الله تعالى عليه، قال: حدثني السيد(1) المؤيد بالله أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون قدس الله روحه، قال:
سألني بعض من وجب على حقه عند فراغي من كتابي المسمى (بالتجريد) أن أورد فيه من الأخبار الصحيح عندي سندها بأسماء الرواة المجمع على عدالتهم عند الفريقين من أصحاب الحديث وغيرهم، وأسماء الرواة الذين يروون عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وعن الأئمة من ولده بما لا ينكره الجميع ملخصا.
فأجبته إلى ذلك مستعينا بالله سبحانه، ومعتمدا عليه؛ لكيلا يقول من نظر في كتابنا هذا من مخالفينا إن الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يصل إلينا إلا من جهة سلفنا عليهم السلام من طريقة واحدة.
صفحه ۱
ولو روينا الخبر المتصل بنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من جميع الجهات على(1) ألسن الرواة الذين اتسق سندهم إلينا، ولم يضطرب عندنا ولدينا، ومن اضطرب سنده، أو شذ عن الجماعة، أو خالف بعضا ووافق بعضا، ومن(2) طعن في سنده، ومن وضع الأخبار على ألسن الرواة، ومن دلس في كتبهم عليهم من الملحدة وغيرهم، ومن انقطع سنده، ومن رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو إلى إمام من أئمة المسلمين، ومن قلد الرواة، وكذا في تقسيم الأخبار، لخرجنا عن طريقه ما أردناه، ولتوخينا(3) فيه غير ما نويناه، لكن غرضنا الإختصار في هذا الكتاب، وقلة التطويل والإسهاب.
ولعل قائلا من أصحابنا يقول: وما الغرض في نقل الأخبار عن المخالفين؟ ولو علم من ذلك ما علمناه؛ لسر في مجالس النظر بما حصلناه ونقلناه، لكنه رضي لنفسه بالجهل، فعدل عن سبيل أهل الفضل، فاقتصر على طرف من الفقه أخذه عن مثله، وظن أنه على شيء بجهله، يخطئ مخالفيه، ويصوب موالفيه(4)، ولا يدري أخطاؤهم في أصل أو فرع، أو فيما يوجب التكفير أو القدح(5)، أو الخروج عن الملة، والشذوذ عن الجملة، إن خاض في الفقه ارتطم، وإن طلب منه دليل على ما يقول استبهم، يزري بأهل مقالته، ولا يدري بعظيم جهالته، ولو اعتذر لعذر، أو تعلم لشكر.
ولو روينا الحديث الواحد عن راو واحد، لم نشغل به كتبنا، ولا سطرناه لأهل نحلتنا، وإن كان ذلك جائزا على أصلنا، ويقول به جميع أصحابنا، حتى نعلمه صحيحا عن جماعة من الرواة، ونتحققه مسندا عن الثقات، وسنفرد لها إن يسر الله تعالى كتابا يرجع في معرفتها إليه، ويعتمد في صحتها عليه، لينتفع به الناظر، ويرتفع به في الملأ المناظر، وبالله نستعين، وعليه نتوكل في كل وقت وحين.
صفحه ۲
وشرطنا فيه: السماع، والعدالة.
وأجزنا فيه خبر الواحد، لئلا نخرج عن جملة أهل البيت عليهم السلام.
وقد احتج المخالف على سقوط خبر الواحد، بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد )). وقالوا: لما يخشى من الوهم على هذا الواحد.
وعندنا لا يحل لأحد أن يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا إذا سمعه من فم المحدث العدل فحفظه، ثم يحدث كما سمعه، فإن كان إماما تلقاه بالقبول، وإن كان غير إمام فكذلك(1) إن رواه غير مرسل، وصح سنده، فإن المراسيل عندنا وعند عامة الفقهاء لا تقبل.
ولقد أدركت أقواما ممن لا يتهم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحفظون السند، ويرسلون الحديث فما قبلت أخبارهم، ولا نقلتها عنهم لقلة حفظهم للأسانيد.
والحجة في السماع، قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}، فقرن تبارك وتعالى الرواية بالسماع من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أداؤه إلى من وراءه.
وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطب ذوات عدد: (( نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها حتى يؤديها إلى من لم يسمعها كما سمعها )).
حدثنا أبو الحسين أحمد بن عثمان بن يحيى الأدمي ببغداد، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري، قال: حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثنا أبي، عن أبي ليلى، عن أخيه عبد الرحمن، عن ثابت بن قيس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( تسمعون ويسمع منكم ويسمع من الذين يسمعون منكم، ويسمع من الذين يسمعون من الذين يسمعون منكم، ثم يأتي(2) بعد ذلك قوم سمان يحبون السمن، ويشهدون قبل أن يستشهدوا )).
صفحه ۳
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مسلمة بن علي، عن زيد بن واقد، عن حرام بن حكيم، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( حدثوا عني كما سمعتم ))(1).
قال قدس الله روحه(2):
حدثني أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله، قال: حدثني أبي رحمه الله، قال: أخبرني حمزة بن القاسم العلوي العباسي، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مالك، عن محمد بن منصور المرادي، عن محمد بن عمر المازني، عن يحيى بن راشد، عن نوح بن قيس، عن سلامة الكندي، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جميع هذه الأخبار في كتابنا هذا(3).
وقال قدس الله روحه:
حدثني شيخنا علي بن إسماعيل الفقيه رحمه الله، عن الناصر للحق الحسن بن علي رضي الله عنه، عن بشر بن هارون، عن يوسف بن موسى القطان، قال: سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: عن المغيرة الضبي، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، جميع هذه الأخبار في كتابنا هذا.
وقال قدس الله روحه:
أخبرنا(4) أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله، قال: حدثنا أبو زيد عيسى بن محمد العلوي، قال: حدثني محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن الحسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، جميع هذه الأخبار.
وقال قدس الله روحه:
صفحه ۴
أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله، قال: حدثني أبو الحسين الهادي يحيى بن محمد المرتضى، قال: حدثني عمي الناصر أحمد بن يحيى، قال: حدثني أبي الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام، قال: حدثني أبي، عن أبيه القاسم بن إبراهيم عليه السلام، قال القاسم: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال: حدثني أبي الحسن بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جميع هذه الأخبار المحتج بها في كتابنا هذا سماعا، وقراءة.
قال أبو العباس رحمة الله عليه: (( لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد )).
وقال الناصر الحسن بن علي رضي الله عنه(1) : (( الأسانيد سلاح المؤمن، وكل حديث لا سند فيه فهو خل وبقل )).
قال قدس الله روحه: (( من فقه الرجل بصره بالحديث )).
قال، قال:(2)
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن سوادة بن أبي الجعد، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، أنه قال: (( من طلب العلم بلا إسناد فهو كحاطب ليل ))، وقال: أن(3) في تفسير قوله تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك}، هو: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده.
ولقد نقدنا هذه الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقد الدراهم، وميزنا صحيحها من سقيمها بعون الله تعالى ومنه.
صفحه ۵
قال قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله أولى من حمد، وأحق من عبد، الذي شرع لنا الإسلام، وبين الحلال والحرام، فأقام عليهما الأدلة والأعلام، حمدا يفضي بنا إلى رضاه، ويوفقنا لسبيل هداه، وصلى الله على نبيه وأمينه على وحيه محمد وآله أجمعين.
كنت وعدتك حين سهل الله الفراغ من كتابي الموسوم (بالتجريد لفتاوى القاسم ويحيى بن الحسين عليهما السلام) أن أفرغ(1) لشرح ما أودعته من المسائل، بما يحضر من الحجاج والدلائل، وهذا أوان الشروع فيه، والله الموفق لما أضمره وأنويه، وإياه عز اسمه أسأل أن يعيننا على ما يقربنا منه ويزلفنا لديه، ويعصمنا فيما نكدح له ونسعى فيه، من أن نقصد فيه غير وجهه إنه سميع مجيب.
صفحه ۶
[2كتاب الطهارة]
كتاب الطهارة
باب القول في المياه
الماء: طاهر، وغير طاهر. والطاهر: طهور، وغير طهور.
فالطهور، هو: الماء المطلق الذي لم يشبه ولا لاقاه نجس، أو طاهر غير ريحه، أو لونه، أو طعمه، ولم يستعمل في تطهير الأعضاء.
والطاهر الذي ليس بطهور: ما شابه طاهر سواه فغيره.
والنجس: كل ماء قليل شابه نجس أو لاقاه، قليلا كان النجس أو كثيرا، غيره أو لم يغيره، أو كثير شابه من النجاسة ما غيره.
هذه جملة تشتمل على ثلاث مسائل.
إحداها: أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة صار نجسا، وإن لم تظهر عليه النجاسة، ولم يتغير بها.
والثانية: أن الماء إذا شابه طاهر سواه فغيره لم يجز التطهر به، وإن كان طاهرا.
والثالثة: أن الماء المستعمل لا يجوز التطهر به.
قال: وقد نص الهادي عليه السلام على هذه المسائل في كتاب (الأحكام)، وقال في قطرتين أو ثلاث قطرات من بول، أو خمر في إناء: إنه لا يتطهر به، فإنه نجس، يدفق ذلك من الإناء، ويطهر الإناء منه(1)، وكذلك لا يجوز شربه، وإن لم يتبين منه في الماء والإناء لون(2) ولا ريح ولا طعم. ونص على نجاسة الماء الذي أدخل الكافر(3) يده فيه، فدل على أن ملاقاة النجس للماء كاختلاطه به(4).
وقال في (الأحكام): وكل مائع وقع في ماء يسير(5) أو كثير فغير لونه، أو طعمه، أو ريحه، من خل(6) أو سكنجبين، أو مرق مما ينتفي به عنه(7) اسم الماء القراح، فليس لأحد أن يتوضأ به(8).
صفحه ۷
وفي (المنتخب)(1)، قلت: فإن لم يجد الجنب إلا ماء عصفر، أو ماء فيه زعفران، أو ماء مستعملا بمعنى من المعاني، هل يغتسل به؟ أو يتوضأ إن لم يكن جنبا؟ قال: لا يجزي في الطهور، والغسل من الجنابة إلا الماء القراح.
وقال في (الأحكام) في الجنب: إذا اغتسل من ماء في مركن فأفضل فيه ماء، فقال: لا بأس بأن يتطهر بفضلته، ما لم يكن تراجع فيه من غسالة بدن الجنب شيء، فإن تراجع من غسالة بدنه فيه شيء، فلا يتوضأ به هو ولا غيره(2).
المسألة الأولى [الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة صار نجسا]
الذي يبين صحة ما ذهب إليه يحيى عليه السلام، من نجاسة الماء الذي وقع فيه النجس، وإن لم تظهر عليه، أن الله تعالى أمرنا(3) باجتناب الخمر عاما، فقال عز وجل: {إنما الخمر والميسر..} إلى قوله {تفلحون}، فلم(4) يخص قليل ذلك من كثيره، ولا ما كان فيه من الماء دون غيره، وإذا لم يمكن اجتناب ما حصل منه في الماء، إلا باجتناب ذلك الماء وجب اجتنابه، وليس في الشرع معنى للنجس أكثر من أنه يجب اجتنابه على كل وجه. ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به(5) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عاصم المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن الحجاج بن سليمان الحضرمي، قال: حدثنا(6) علي بن معبد، قال: حدثنا أبو يوسف، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنه نهى عن أن يبال في الماء الراكد، ثم يتوضأ فيه ))(7).
صفحه ۸
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة، قال: حدثنا عبد الرحمن الأعرج(1)، قال: سمعت أبا هريرة يروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (( لا يبولن أحدكم في الماء الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ))(2).
فلما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التوضؤ، والاغتسال في الماء الراكد الذي قد بيل فيه نهيا عاما، ولم يشترط التغير، ثبت ما ذهبنا إليه، من أن الماء اليسير يتنجس بحلول النجاسة فيه، وإن لم يتغير بها.
فإن قيل: فإن ذلك يلزمكم في الكثير.
قيل له: نخصه بالدليل، وسنبين الكلام فيه عند قولنا في الفرق بين الماء القليل والكثير.
فإن ادعوا تخصيص ما ذكرنا(3) بما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع، قال: حدثنا أبو قطن، عن حمزة الزيات، عن أبي سفيان السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: انتهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غدير فيه جيفة، فقال: (( اسقوا واستقوا، فإن الماء لا ينجسه شيء )).
صفحه ۹
وما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبيدالله بن عبد الرحمن(1) عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يتوضأ من بير بضاعة، فقيل: يا رسول الله، إنه يلقى فيها الجيف والمحائض، فقال: (( إن الماء لا ينجسه شيء ))(2).
وما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود الأسدي، قال: حدثنا أحمد بن خالد الوهبي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن سليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل يا رسول الله، إنه يستسقى لك من بئر بضاعة وهي بير تطرح فيها عذرة الناس ومحائض النساء ولحوم الكلاب، فقال: (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ))(3).
الجواب، قيل له: هذه الأخبار وردت في المياه العظيمة، ونحن نذهب إلى أن مثل هذه المياه إذا اسقطت فيها النجاسات، لم تنجس، إلا إذا تغير الماء بها، وقد روى قوم أن بئر بضاعة كانت طريق الماء إلى البساتين، ويحتمل أن تكون تلك البئر كانت لها عيون تغلب، ولا يمكن نزح ما فيها.
فأما الغدير، فلا يسمى مجمعا للماء، إلا إذا كان عظيما، وكان الماء كثيرا، ومثله عندنا لا ينجس، إلا أن يتغير بالنجاسة.
فليس في شيء من ذلك دليل على أن الماء اليسير لا ينجس بوقوع النجاسة فيه.
صفحه ۱۰
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الماء لا ينجس ولا ينجسه شيء ))، يحجكم، وليس لكم أن تقصروه على ما ورد فيه؛ لأن من مذهبكم أن اللفظ إذا ورد في سبب، لم يقصر عليه، بل يكون(1) عاما؟
قيل له: نحن نجعل ذكر السبب الذي وردت هذه الظواهر فيه ترجيحا، لظواهرنا التي تعلقنا بها، فنجعلها أولى من الظواهر التي تعلقوا بها.
فإن قيل: ليس لكم أن ترجحوا بالذكر، والخبر يعم النجس وغيره.
قيل له: ذلك غير واجب، وذلك أن اللبن لا ينجس ما ماسه من العضو وغيره، فلهذا جاز استعمال الماء الذي يقع فيه يسير من المخلل، وليس كذلك النجس، فوجب الفرق بينهما لذلك.
المسألة الثانية [ في الماء إذا شابه طاهر ]
إذا وقع في الماء طاهر كاللبن والمرق ونحوهما، حتى يتغير لذلك لونه أو طعمه أو ريحه، لم يجز التطهر به، والذي(2) خالفنا في هذه أبو حنيفة وأصحابه، فإنهم يذهبون إلى أن الماء إذا كان هو الغالب فإنه يجوز التطهر به، وإن تغير.
فالوجه لصحة ما ذهبنا(3) إليه، أنه لا خلاف في أنه لا يجوز التطهر بماء الباقلاء والمرق ونبيذ الزبيب ونحو ذلك، وكانت العلة فيه أنه ماء تغير بمخالطة(4) مالا يجوز التطهر به على وجه من الوجوه، فكذلك الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه، لمخالطة اللبن ونحوه. ويبين صحة هذه العلة وجود الحكم بوجودها، وعدمه بعدمها، وذلك أن الماء لو لم يتغير بما خالطة من الطاهر؛ لجاز التطهر به، وكذلك إذا تغير بما يجوز التطهر به على بعض الوجوه، وهو الطين جاز التطهر به، وإذا حصل له الوصفان، لم يجز التطهر به، فعلم أنها علة الحكم.
صفحه ۱۱
فإن استدل المخالف بقول الله سبحانه وتعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}. وقالوا: من وجد الماء المتغير فقد وجد الماء. وبقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}. كان لنا عنه(1) جوابان:
أحدهما : أن اسم الماء المطلق يزول عند التغير، بل يصير مضافا إلى ما تغير به.
والثاني: أنا نخص ذلك بالقياس الذي ذكرناه، فإن عارضوا قياسنا بقياسهم الذي ما اختلفنا فيه على الماء الذي خالطه شيء من الطين، كان قياسنا مرجحا على قياسهم بكثرة الأصول، وبالحظر، وبالنقل، فإن راموا ترجيح علتهم بشهادة الأصول، وقالوا: قد ثبت في الأصول أن الحكم للغالب، وهاهنا الغالب(2) هو الماء، لم يصح ذلك؛ لأن الأصول تختلف في ذلك، ألا ترى أن ماء الباقلا والصابون، وغيرهما [لايجزي التطهر به مع] أن الغلبة للماء، ومع هذا لا يجوز التطهر به، فكذلك الماء الذي يقع فيه يسير النجس، هذا إن أريد(3) بالغلبة الكثرة، فأما إن أرادوا غيرها، لم يسلم الوصف لهم.
فصل [في الوضوء بالنبيذ]
الذي يقتضي قول الهادي عليه السلام، هو المنع من الوضوء بنبيذ التمر، وقد نص عليه القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي)، وما استدللنا به على أن الماء إذا تغير بالمرق، أو اللبن لم يجز التوضئ به، يدل على أنه لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر، ويمكن أن يقاس حاله إذا لم يوجد الماء على حاله، إذا وجد(4)، لأن أبا حنيفة وأصحابه لا يخالفون في أن التطهر به لا يجوز مع وجود الماء.
صفحه ۱۲
ويمكن أيضا أن يقاس على سائر الأنبذة؛ إذ لا يخالفون في(1) أن التوضئ بها لا يجوز، إلا ما يحكى عن الأوزاعي أنه كان يجيز التوضئ بسائر الأنبذة، على أنه لا وجه لمقايستهم(2) في هذه المسألة، فإنهم لا ينكرون أن القياس يمنع منه لكنهم ادعوا أنهم تركوا القياس للأثر.
واستدلوا بما روي عن أبي قرارة، عن أبي زيد، عن عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال له ليلة الجن: (( ما في إداوتك ))؟ قال: نبيذ. فقال النبي(3) صلى الله عليه وآله وسلم: (( تمرة طيبة، وماء طهور )) وتوضأ به وصلى.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثنا قيس بن الحجاج، عن حنش، عن ابن عباس، أن ابن مسعود خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن، فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (( أمعك يا ابن مسعود ماء ))؟ قال: معي نبيذ في إداوتي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أصبب علي ))، فتوضأ به، وقال: (( شراب وطهور ))(4).
صفحه ۱۳
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو عمر الضرير(1)، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، قال: أخبرني علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع مولى عمر، عن عبد الله بن مسعود أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتاج إلى ماء يتوضأ به، ولم يكن معه إلا النبيذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( تمرة طيبة، وماء طهور ))، فتوضأ، به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد طعن قوم في سند هذه الأخبار وردوها، إلا أن الفضلاء من أصحاب أبي حنيفة قد قبلوها وعدلوا رواتها، بل أبو حنيفة نفسه قد قبلها، وفي قبولها تعديل رواتها، فلا وجه لردها.
وقد روي أيضا أن عبد الله بن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن، إلا أن ذلك محمول عندهم على أنه لم يكن مع النبي(2) صلى الله عليه وآله وسلم وقت الخطاب، فتكون الأخبار كلها محمولة على التصديق.
والذي يجب أن يعتمد في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال:(3) (( تمرة طيبة، وماء طهور ))، فوجب بظاهر هذا القول أنه كان في الأداوة تمر على حياله، وماء على حياله، وهذا مما لا ينكر جواز التوضئ به، وقول عبد الله: (( معي نبيذ ))، محمول على المجاز، وعلى أنه أخبر عن المآل(4)، وهذا أولى من حمل قوله على الحقيقة وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المجاز، وعلى أنه أخبر عما كان عليه في الأصل، سيما وتأويلنا يعضده القياسات التي ذكرناها.
صفحه ۱۴
ومما يعتمد في هذا الباب ويبين به صحة تأويلنا وفساد تأويلهم، أن النبيذ قد ثبت تحريمه، فإذا ثبت تحريمه، ثبت تنجيسه، وما كان نجسا فلا مدخل له في الطهارة.
فمما يدل على تحريمه:
ما أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن عثمان النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد الواسطي، عن زيد بن علي عليه السلام(1)، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما أسكر كثيره، فقليله حرام )).
وأخبرنا به أبو الحسين عبد الله بن سعيد البروجردي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: حدثنا أبو شهاب، عن الحسن بن عمرو الفقيم، عن الحكم، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، قالت: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل مسكر ومفتر )) .
وأخبرنا أبو الحسين، قال: حدثنا أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عمير، عن ابن أبي مليكة(2)، عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (( كل مسكر حرام )).
ومما يعتمد عليه في هذا الباب، قول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} فأوجب التيمم على من لم يجد الماء، وواجد نبيذ التمر غير واجد للماء؛ لأن اسم الماء قد زال عنه على الإطلاق، وإن كان فيه أجزاء الماء، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو قال: لا تناول العسل، إلا أن لا تجد الماء. لم يصح لقائل أن يقول: إن واجد نبيذ التمر ليس له أن يتناول العسل؟ وهذا ظاهر في اللسان.
صفحه ۱۵
وربما استدل أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية لصحة ما ذهبوا إليه، فقالوا: إن قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}(1)، نكرة في سياق نفي(2)، وذلك يوجب التعميم، وظاهرها يوجب أن الواجد لنبيذ التمر ليس له أن يتيمم؛ لأنه واجد ماء ما، وهذا بعيد جدا، وذلك أن اللفظ منكرا كان أو معرفا، واقتضى التعميم أو التخصيص، فلا أقل من أن يكون بتناوله واجدا، فقد بينا أن اسم واجد الماء لا يتناول واجد نبيذ التمر، كما أن اسم واجد التمر لا يتناوله، فسقط تعلقهم بالآية، وصح استدلالنا بها.
المسألة الثالثة [ في الماء المستعمل ]
أن الماء المستعمل لا يجوز التطهر به، وقد ذكرنا ما قاله يحيى عليه السلام في (المنتخب)(3)، من منع التطهر بما استعمل بمعنى من المعاني.
وكان أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله يذهب إلى أن المراد به ما استعمل في فرض أو نفل دون التبرد ونحوه، ويخرج ذلك من قول يحيى عليه السلام في (الأحكام)(4): "ولا بأس أن يتطهر بسؤر المرأة الحائض إذا لم يصبه من القذر شيء، ولم تكن أدخلت يديها فيه قبل أن تغسلهما"(5)، فكان رحمه الله، يقول: إن هذا الكلام يقتضي المنع(6) من استعمال الماء الذي استعمل تنفلا؛ لأن الحائض لا تغسل يديها فرضا، وإنما تغسلهما نفلا وقد منع عليه السلام من استعمال الماء الذي أدخلت يديها فيه، ويقتضي أنه إذا استعمل على غير وجه أداء الفرض والنفل، لا يكون مستعملا؛ لأنه عليه السلام استثنى إدخالها اليد قبل أن تغسلها، وترك ما سوى ذلك على الإباحة، فبان أنها لو أدخلت يدها فيه بعد غسلها على غير أداء الفرض، والنفل لم يصر مستعملا.
صفحه ۱۶
ومما يدل على أنه لا يجوز التطهر بماء مستعمل(1) على الوجه الذي ذكرنا:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانه، عن داود بن عبدالله، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: لقيت من صحب النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كما صحبه أبو هريرة أربع سنين، قال: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا معلى بن أسد، قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعا(2).
واسم الفضل من الماء يقع على ما يفضل في الإناء عن المغتسل، وعلى ما تساقط من أعضائه بعد الاستعمال، وإذا قد ثبت أن الفاضل في الإناء غير ممنوع التطهر به، فقد صح أن المراد بالفاضل هو المتساقط عن الأعضاء.
ويبين أن الفاضل في الإناء يجوز استعماله:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم اغتسلت من جنابة بماء في إناء فأبقت في الإناء منه شيئا، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ به، فقالت له(3): يا رسول الله، إنه بقايا ما اغتسلت به. فقال: (( إن الماء لا ينجسه شيء ))(4).
صفحه ۱۷
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا الوهبي، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إناء واحد(1).
ومن المعلوم أنهما إذا اغتسلا من إناء واحد فكل واحد منهما قد اغتسل بما فضل في الإناء عن صاحبه، فصح ما قلنا: إن المراد بالنهي هو ما يتساقط عن الأعضاء. ويمكن أيضا أن يتعلق بعمومه؛ إذ قد ثبت على ما بينا(2) أن اسم الفضل يتناول الساقط عن الأعضاء، والفاضل في الإناء، فيجري النهي على عمومه، ونخص منه ما يجب تخصيصه.
ومما يدل على صحة ما نذهب إليه من المنع من التطهر بالماء المستعمل:
ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال : حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا يحيى بن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عجلان، قال: سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة )).
فإذا ثبت بهذا الخبر النهي عن الاغتسال في الماء الدائم، ثبت أن الاغتسال يؤثر فيه، وأقل التأثير المنع من التوضئ به، ولا يجوز القول بخلافه؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يكون لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فائدة.
فإن قال قائل: لا يمتنع أن يكون النهي عن الاغتسال من الجنابة لم يكن للاستعمال، وإنما كان للنجس الذي يكون في الأغلب على جسد الجنب؟
صفحه ۱۸
قيل له: هذا تخصيص بغير دليل، وذاك أنا(1) نعلم أنه قد يكون جنبا ليس على جسده شيء من النجس، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى نهيا عاما كل جنب عن الاغتسال بالماء الدائم، فوجب أن يدخل فيه من على جسده نجس، ومن ليس على جسده نجس فإذا صح تناول عموم النهي من ليس على جسده نجس، صح أن النهي للاستعمال، وصح ما ذهبنا إليه، على أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد نبه بنهيه عن البول فيه على النهي عن إلقاء سائر النجاسات فيه، فحمل نهيه عن الاغتسال فيه على أنه نهي للنجاسة، حمل للخبر على التكرار، وسلب للفائدة الجديدة.
فإن قيل: إن(2) النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما منع عن الاغتسال في الماء الدائم بعد البول فيه، ألا ترى إلى قوله: (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ))، ثم قال بعده: (( ولا يغتسل فيه من جنابة )) فليس يجب أن يكون نهيا للإستعمال بل يكون النهي؛ لأنه يصير مغتسلا بالماء النجس؟
قيل له: ألفاظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وردت وكانت كلها مستقلة بنفسها، ولم يكن في ظاهرها ما يقتضي حمل بعضها على بعض، كان الظاهر أن تكون كل لفظة منها مستبدة بحكمها على حيالها، حتى يكون الجمع بين تلك الألفاظ كالتفريق، فإذا(3) كان هذا هكذا، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم استأنف الكلام، فقال: لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم من جنابة، فيكون النهي متناولا للبول في الماء الدائم على حياله، وللاغتسال فيه من الجنابة على حياله.
على أن أبا جعفر الطحاوي، روى عن أبي هريرة بإسناده أنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )) فأفرد ذلك من النهي عن البول فيه(4).
صفحه ۱۹
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من جهة النظر أن الماء إذا أزيلت به النجاسة، لم يجز التوضئء به، كذلك إذا(1) أزيل به الحدث، والمعنى أنه إذا أزيل به ما حصوله يمنع من الصلاة.
وليس لأحد أن يقول: إن هذا الأصل لا يستمر لكم على جميع المخالفين في هذه المسألة؛ لأن فيهم من لا يرى أن الماء الذي يزال به النجس يكون نجسا، اللهم إلا أن يتغير به.
قيل له: ليس بواجب أن يكون كل أصل مقيس عليه متفقا عليه، بل يكون تارة متفقا عليه، وتارة مدلولا عليه، ويكون المدلول عليه أوكد من المتفق عليه إذا كان الاتفاق بين الخصمين فقط، ولم يكن فيه اتفاق من الأمة، وسنذكر في هذا الكتاب ما يبين أن الماء الذي يزال به النجس يصير نجسا، فيصح أن نجعله أصلا نقيس(2) عليه.
وعلتنا هذه يمكن أن ترجح بالحظر والنقل؛ لأن الماء قد ثبت فيه التطهير، ونحن ننقله بعلتنا هذه عما يثبت، ويمكن أن ترجح هذه العلة بما جرت عليه عادات المسلمين من لدن الصحابة إلى يوم الناس هذا، أن أحدا لم يكن يأخذ المتساقط من الماء عن العضو في المواضع التي يعوز فيها الماء ويقل، حتى لا يحل في مثلها من المواضع إراقة ما يجوز(3) التطهر به، ويمكن أن يعتمد لذلك ما روي عن(4) النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه(5) قال لبني عبد المطلب لما حرم عليهم الصدقة: (( إن الله كره لكم غسالة أوساخ أيدي الناس ))، فشبه ما حرم عليهم من الصدقة بالغسالة، فدل على ما قلناه.
فأما استدلال من يستدل منهم بقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، فقال: إن الطهور اسم المبالغة كالصبور والقتول والفروق، وذلك يقتضي التكرار، واقتضى ظاهر الآية أن تكرار التطهر متأت في الماء.
صفحه ۲۰